رواية خرائط لاقاليم الروح للكاتب الكوردي السوري زاكروس عثمان
الأحد 25 أيلول / سبتمبر 2011, 22:05
كورداونلاين
كورد اونلاين ينشر الرواية الكاملة للكاتب الكوردي السوري زاكروس عثمان
رواية خرائط لاقاليم الروح
زاكروس عثمان
خرائط لأقاليم الروح
رواية
الكتاب: خرائط لأقاليم الروح
المؤلّف: زاكروس عثمان
لوحة الغلاف: الفنّانة العراقيّة رؤيا رؤوف
تصميم الغلاف: هيثم حسين
قمــح.. لا بدّ منه
في اصفرارها المهيب امتدت حقول القمح تجلجل بصائر العالمين سنابل خضراء غزا المشيب سِفارها، حبلى بالحياة، تراقص الريح بانتظار ساعة المخاض، والحشائش أضغاث وريقاتها أفرجت عن سيقانها تتعرى رويدا هاربة من الذبول، سرت في جذورها قشعريرة عابرة، فماجت الحقول متأوهة من وجع سنابل جاءها المخاض، لتضرب نضارتها الصارخة حمى الشحوب، خلسة انزاح الربيع صمت الهوينى تاركاً كدّ الشتاء صيدا هشيما تحت قبضة شمس بليدة بلهاء السطوع، مغرورة تتباهى بالحريق.
خرجت القرية عبثاً تلهث وراء مبهم أحاسيسها، لا تعرف ماذا تريد غير أشباه أشياء واجمة آخذة بالتحول في صمت مريب، أجواء كدرة توشك على الاختناق منبئة بحدوث خفي في الأشياء، وعلى تخوم أشباهها يربض مجهولٌ في هسيس سِفار السنابل المقصوفة بشراهة شمس الظهيرة مستنفرة تلاحق الحشائش شواء قبل أن يدركها المغيب، لتشفي غليلها من الأرض حين هربت من جحيمها إلى مدار آخر أقلّ احتراقاً، نجت بنفسها من انتحار أحمق لم تعتبره جهاداً أعظم، هربت الأرض لتدفع السنابل ثمن خطيئة لم تقترفها، بقيت الشمس تلاحق الأرض في أتباعها، لتحرق كلّ من لا يقوى على الفرار.
مشاعر باهتة لا هي مريحة ولا هي مزعجة لا تطمئن ولا تقلق انتابت الخلائق، ولكنها تبعث على النفور، لتركض الخلائق خلف بقاياها متعثرة تسقط تحت أقدام قلق متوقع من شيء غير متوقع.
القرية غير متأكدة من مشاعرها، هل خرجت تودع ربيعاً في طريقه إلى الرحيل، أم تستقبل طلائع الصيف في باكورة غبار ثار في الأفق، لم يتسنَّ للقرية أن تتأكّد من مشاعرها، لتقرر الاختيار بين الربيع و الصيف، حيث لم يكن الاختيار من صلاحياتها ذات يوم، فقد كـُتب عليها الانصياع للغيب وما يختارهُ لها، إرادة تكمن خارجها ترسم مجريات حياتها منذ آلاف السنين.
تابعت الشمس غطرستها، تعري الحقول من أوراقها، ليغطي النبات وجهه حياء، تستر ما في أرحامها من أماني الأهالي مخزنة في سنابل أكرمها الشتاء بأمطار غزيرة وغسلها الربيع بنسماته الندية، فلم يعكّر صفوها عطشٌ، ولم يقلق راحتها ريحُ السموم، لتنتفخ حبات القمح في سنابلها شبعا تكاد أن تتفتق مبشرة بموسم واعد فاحت رائحته الحميمة مبكراً مع عبق الحقول وهي تنضج، السنابل تتوحم تئنّ من وجعها اللذيذ، أوجاع الحمل والمخاض والولادة، يؤنسها الهواء بنسماته الباقية، يمسد خصلاتها مواسياً، ليخفف عنها حرقة حسراتها المكتومة في أعماقها شجن وأسى على موتها الوشيك، حين يأتي الطلق وتلفظ السنبلة حباتها تتألم أعمق من المخاض، لأنها في اللحظة ذاتها تلفظ روحها، فيعانقها الفناء، ولا شيء يواسيها غير النسيم يبشرها بمولودها، لتستمر فيه حياة أبدية، فتذهب إلى حتفها راضية، الحكمة عند معشر الحبوب أن تستمر الحياة، سنابل تموت تهب البقاء لثمرات بطونها، في تكاثر شطرنجي عجيب، نبتة تموت، تـُولد سنبلة، سنبلة تـُفنى تطرح حبة، حبة تذوي تعطي حقلاً، حقل يتوارى يهب غلالاً، غلال تأتي بالبقاء تضحية نبيلة كونية الأبعاد، تترك مسافة أسى لا يحسها إلا من بدا له الموت على أنصال المناجل ساعة الحصاد حين تغمض السنابل أجفانها خشية الموت يجز أعناقها، لترفع روحها إلى حباتها الذهبية المكتنزة بأسرار الديمومة.
طقوس واردة في أعراف الأهالي، منذ أن بذر سومري أحمق أول حبة، ليبدل مسيرة الزمان الذي ما إن شبع من خبز السومري حتى انقلب عليه وألقى به خارج التقاويم، مراسم محفورة في ذاكرة الأجداد، شاخصة أبداً على دروب الأجيال يتوارثونها وهم في طريقهم إلى الحقول صبحاً وعشية، يمارسونها عشقاً غريباً، بشر وجدوا في حقولهم سحراً أقوى من هيام فلاح بأرضه يشبعها زرعاً وحصاداً، حقولهم تجاوزت معانيها أساطير وطلاسم، غيرهم لا أحد يفهمها، كدهم عشق رفيع يغازل ترابهم، فقد وضعوا في كلّ ذرة منها شيء من روحهم ودمهم وعرقهم، ليعجنوا حياتهم بحياة حقولهم مزيجاً تتشربه الأعشاب والنبات، أمانٍ وأحلام، لغة للتواصل بين الآهلين وحقولهم.
القرية تعرف ماذا يدور بخلد السنابل، والسنابل تعرف ما يجول بخواطر القرية، هكذا وجد الأهالي أنفسهم يعرفون كل شيء عن حقولهم، طباعها.. صمتها .. ألوانها.. هسيس دوابها.. خشخشة نباتها.. يعرفونها متى تعطش، متى تجوع، متى تمرض، متى تخاف متى تطمئن، علاقة لا يفسرها واقع، نمت عبر الدهور، ربما لأن الحقول لم تخذل عشاقها ولا مرة، كلما احتاجوا إليها، وحدهم من خلت مفرداتهم من كلمة مجاعة، هم لم يعرفوها حتى يجدوا لها تسمية لديهم، عنابر عامرة بالحنطة لا تخلو مدى السنين، في الوقت الذي كان الآخرون يطاردون الهواء ليسكتوا به جوعهم، لا غرابة في تعلقهم بحقولهم منحوها عشقاً أعطتهم خبزاً وتبراً، ادّعى المغرضون أنّ معرفتهم بأحوال حقولهم ما هي إلا خبرات ورثوها وأعمال تعلموها ممارسة، فلم يدروا ما بدواخل الأهالي، وبواطن حقولهم من وشائج انتماء، بصائر تجاوزت الخبرات، حياة لا تستقيم إلا في الحقول، في سيرها نحو الكمال، صغارهم يأتون براعم فغراس فنبات فثمار.. كبارهم يقيسون أعمارهم بأعمار حقولهم برهة برهة يشرفون على النهاية مطمئنين على مواسم الحصاد، تنازعهم مشاعر شتّى بين الأسى والسرور، مشوار طويل يقطعونه بانتظار الموسم، وحين يأتي يركبهم الشجن على فراق خضرة يتمنّون لها البقاء دائماً خضراء. أمام أنظارهم مشهد يسعد القلوب، بحر مزركش يموج ألواناً وعطراً يسكر المكان، تنزل الأرواح تعانق ذكرى أجساد غائبة، تغوص في خبايا حشائش ساهمة في احتضارها البديع الذي ارتسم على محياها اصفراراً طال وريقاتها، حيث تقترب الرحلة من النهاية، لتكون بداية أخرى موعودة بالخير، عزفت السنابل ألحانها الشجية والعصافير ترنم تراتيل الوداع والقرية على أهبة البكاء تشاهد وتسمع ما يجري في الحقول.
في المغيب تحبس الخلائق أنفاسها الأخيرة، لتحفظ ما بقي في صدورها من رحيق نهار مزدحم بزمن ضاقت الأرض به، فلم تصدق متى يرحل عنها قبل أن تنفلق تحت أثقاله المجهولة، جاء المساء خانقا، سكون مريع وليل راكد وسماء صافية خلت منها النجوم، ليس هناك ما يغري الرياح بالهبوب، كل الأشياء كمنت في ذاتها تتقلص مترقبة آخر ما يأتي ليكسر زجاجة السكوت، القرية مسهدة في فراشها، بدن هامد، حدقتان جامدتان تنظران دون تحديد إلى عمق الظلام الفسيح، أصابها الملل فلم تقوَ على الهمود، خطر لها أن تحرك جفنيها، أن تتقلب في فراشها، ولكنها لم تفعل لئلا تكون أول من بدأ بالشغب في امتحان السكون، أطلقت الأرض زفرة ضيق كبيرة، فقد سئمت الترقب، تنفست الجنادب الصعداء وخرجت من جحورها معلنة الصرير بشرى إلى القرية بقدوم الهواء الغربي، ذاك البلسم السحري الذي يثلج صدور الأهالي وينعش أنفاس الحقول، ليخفف آلام السنابل من أوجاع ولادة وشيكة، قفزت الجنادب بين نباتات القمح تتراقص تلهيها عن وساوس ظلت تراودها، فقد أوحى إليها الصيف بأن رصيدها من الزمن يوشك على النفاذ إن هي أيام وتنزف الحقول طاقتها على البقاء لتموت مزهوة شامخة تكرمها المناجل بالحصاد، وتستريح الأرض من عبء الأمانة، لتخرج عارية تنعم بالهواء مجددة شبابها.
هناك في تلك البلاد العجيبة نبتَ الأزل، هناك تكمن بداية الأشياء ونهاياتها، وحين تنطلق تخرج عن السيطرة على نفسها، فلا تتوقف إلا بعدما يدركها التعب، وكثيرا ما تتوقف في المكان والزمان الخطأ، لتخلف كارثة ما، تبقى ندوبها بصمات فاضحة على ظهر الوجود، أرض سمّاها أبنائها بالبلاد العليا، حين وجدوا فيها تضاريس روحهم السامية، بسحرها وأسرارها، يسري تمايزاً عن تضاريس العالمين، طرحتهم من رحمها بمعزل عن الكون، فانتصبوا شامخين، فصار الشموخ هوية، بلاد قهرت مشيئة الرب، تحدت طوفانه العظيم، حيث وقف زيوسودرا على قمة النجاة يروض الموج بقدميه ينظر إلى العالم فلا يجد يابسة سوى البقعة التي يقف عليها، فعرف كم هي عالية، يداه لامستا سقف السماء ليدغدغ باطن قدم الرب برؤوس أصابعه فكركر ضاحكاً وهرب إلى الأعلى لتسقط من جيبه حبة حنطة غـُرست في الطين بعد انحسار الطوفان، فأنبتت قمحاً تلقفها ذاك الجبلي ليعمر الدنيا من جديد، مرة أخرى جاءت البداية من البلاد العليا، وقبلها كانت البداية الأولى، حين كان الرب رضيعاً، خرجت الكائنات الأولى من كهوفها تسعى في الأرض تنشد وجوداً فانحدر كائن واحد من مغارته بقامة منتصبة يجر خلفه حماراً نازلاً سفح الجبل يحمل في جعبته معجزة الإنسان سرعان ما ندم على حملها، فقد دار في خلده أنّ القمح هو الطوفان الأعظم الذي سيجر عليه بعد بضعة ألف عام الجراد و الذباب، وحينها ليس من ذروة يحتمي بها وليس من زيوسودرا يحمل له غصن زيتون ينقذه من الهلاك، بدايات ونهايات قرنفلية الطعم لاذعة ذكية الرائحة لا تترك للأهالي خياراً سوى تذوقها مغامرة قد تقودهم ذات مرة إلى المكان الصحيح في الوقت المناسب.
يبست حقول القرية واصفرّت الحشائش، ليصرح الأسى عن نفسه، على وجه نحلة أمحلت مراعيها النضرة، فأخذت تمدّ جناحيها عاليا تطارد سفوح الجبال لتبحث عن رحيق زهرة لاذت بالصخور، لتنجو من فظاظة الصيف، صادفت النحلة جنائن معلقة على شرفها فعادت تقود عشيرتها إلى الكشف الجديد، فطارت أسراباً واستوطنت الجبل سلالة مفقودة من جنس النحل، ومذ ذاك فإن البلاد العليا جبالها تدرّ عسلاً، سمع الحمار طنين القلق على جناحي النحلة قبل انطلاقتها فارتخت أذناه على صدغيه مخاوف من صيف لا يكنّ له ودّاً يتوعّده بالجحيم والتعب والأثقال والعطش والجوع والضرب، ارتعش الحمار من غد ساحق يتربص به، حيثياته مدونة في ذاكرته تجارب مريرة تتكرر كلّ صيف، غداً يكون الحصاد وتأتي بواكير الغلال حنطة طازجة إلى المنازل ويعن في بال ربة المنزل أن تأكل خبزاً من حنطة الموسم لتطلب من زوجها نقل أكياس من الحنطة إلى الطاحونة، ينهض الزوج فجراً ليفسد على الحمار حلمه في الخلاص بوضع الأكياس على ظهره ثم يقفز فوقه يلكزه بقدميه يأمره بالمسير إلى الطاحونة في رحلة تطول حتى الظهيرة، في البداية لا يلاقي الحمار مشقة، فالشمس ما زالت مغمضة العينين كسولة على التوهج، لتترك بعض النسمات الندية تغسل وجه الصباح كي تسعى الخلائق إلى أشغالها بنشاط قبل أن تنهض الشمس فتطلق ريحاً حارقة تكتم أنفاس الخلائق فيضربها الخمول، أدركت الشمس الحمار في منتصف الطريق، فراحت تشعل أنفاسه برائحة شواء منخريه، لكنه احتفظ ببعض قواه ليصل إلى الطاحونة في الوقت الذي يشتهيه صاحبه، دخل الرجل بالحمار إلى المطحنة ورفع الأحمال عن ظهره وقاده إلى الخلاء يربطه وعاد إلى المطحنة ينتظر دوره تحت ظل شجرة تين حدباء يثرثر مع الآخرين، ليقتل رتابة الانتظار تاركاً الحمار تحت وهج شمس الظهيرة اللاهبة، اشتدت الحرارة لتسلب الحمار ما بقي في عروقه من الرطوبة، فاستبدّ به العطش والجوع ليصيبه الإنهاك، انتهى الرجل من طحن حبوبه مع أذان العصر وقد خرج الدقيق من رحى المطحنة ودخل الأكياس ساخناً فأستعجل الرجل برفعها على ظهر الحمار وركبه يأمره بالمسير و عينه على الشمس أن يصل القرية قبل المغيب.
لم يكن السفر إلى الطواحين رحلة سهلة لا على الحمير ولا على الرجال، فالطريق طويلة والأحمال ثقيلة وكلّ المفاجئات متوقعة، كان أكثر ما يقلق الرجال هو سقوط الأحمال عن ظهور الحمير في العراء، فالرجل بمفرده لا يقدر على إعادة الحمل على ظهر الحمار وعليه أن ينتظر عابر سبيل أو أحد الرعاة ليساعدوه في رفع الأحمال، فإن لم يجد أحداً يذهب إلى أقرب قرية يطلب العون حتى لا يدركه الليل وهو في العراء حيث للطريق مخاطره العديدة اللصوص وقطاع الطرق والذئاب والضباع والجان والعفاريت، وهذا يعني مزيداً من التعب والإرهاق والخوف، لهذا يصب الرجل جام غضبه على حماره يحمّله مسؤولية سقوط الحمل عن ظهره فيضربه ويشتمه طوال الطريق إلى القرية التي يقصدها لطلب المدد حتى يصلها ليبيت فيها حتى صباح اليوم التالي ليرافقه الرجال فإن وجد حمله في محله رفعه على ظهر حماره وتابع طريقه إلى قريته.
انطلق حمارنا من الطاحونة منهكاً سلفاً، والدقيق الساخن يشوي ظهره فيتصبب عرقاً يبطئ من حركته مرغماً، لينهال عليه صاحبه بالعصي واللكز والشتائم يحثه على المسير، والحمار يصبر على عذابه ويتحمل فظاظة صاحبه ويجهد نفسه ليقوى على المسير، حتى سـَلختْ الأحمال جلد ظهره، فانهمرت دموعه في صمته البهيّ سيداً للتسامح، وهو يوشك على السقوط تحت لدغات الوجع، توَقفَ دون حراك ينهره الرجل يضربه يشتمه فلا يتزحزح من مكانه، فقد بلغ به الألم مبلغ عدم التحمل، يقوم الرجل بوخز قفاه بمخرز فيجبره على المسير، تقرحت ظهر الحمار وسالت منها الدماء، سقط أرضاً، ووقع المحظور بسقوط الأحمال عن ظهره، ليجن جنون الرجل.. يخاطب حماره: هل أنت سعيد الآن يا حمار ابن الحمار وأخيراً حققت مرادك و تركت الحمل يسقط عن ظهرك سوف أنكح زوجة صاحبك كلب ابن الكلب والله سوف أسلخ جلدك اصبر لترى ما سأفعل بك. ويهاجم الرجل حماره بالعصي والركلات فلا يشفي غليله، فينقض عليه و يعض أذنيه، ثم يجلس ليسترد أنفاسه، ويفكر بعمل أفضل من عضّ الحمار، ينظر من حوله علّه يجد أحداً يساعده في إعادة الحمل على ظهر الحمار، ولكن الطريق كان مقفراً وخالياً في موضع موحش، فلم يشأ أن تغيب عنه الشمس وهو هناك، ترك طحينه في الخلاء، وركب حماره بعدما أجبره على النهوض، واتّجه به نحو أول قرية يصادفها ليبيت فيها، وهو يتشاجر مع الحمار طوال الطريق: هل رأيت ماذا فعلت تركتني أبيت ليلة خارج منزلي هل تعرف كم هي زوجتي قلقة علي الآن بسبب غبائك.
في اليوم التالي عاد الرجل إلى طحينه حيث ساعده الرجال، وكان الحمار قد ارتاح قليلا في ليلة الأمس، فتابع الرجل رحلة العودة مرتاح البال فما زال اليوم في أوله، والشمس لم تنهض بعد لتزعج الحمار، لاحت بيوت القرية بعيداً من خلف السراب أشباح ودودة، فانفتحت أسارير الرجل، ومع أنّ الحمار لم يكن منهكاً، ولكنه لم يفرح باقتراب نهاية الرحلة، فقد كان كابوس آخر ينتظره على تلة (xirbê mesefa ) حيث تكمن في أوجاره أسراب من ذباب أزرق عملاق تهاجم الحمير التي تمر على الطريق، وما إن شاهدت حمارنا يقترب من التلة حتى بدأت بالطنين معلنة ساعة الصفر تهاجمه تحت ذيله تغرس مجساتها في حوافّ فتحة شرجه وفي خصيتيه. إبر من النار تخترق لحمه تشعل حريقاً في عروقه وخلاياه فيمزقها ألم الحكّ فلا يملك ما يدافع به عن نفسه ليكتفي بالنهيق والرفس يخفف بها حرقة اللسعات، لحظتها تمنى الحمار لو يكون نحلة تلوذ بالجبال تـَهبُ جهدها للزمن ليس طمعاً في الرحيق بل هرباً من البشر و الذباب، ولأنّ الأمنية عزيزة المنال ولأن معشر الحمير مشهورون بالقناعة فقد ابتهل إلى خالقه أن يهبه يداً واحدة بإصبع واحد يـَحكُّ بها مؤخرته كلما لسعته ذبابة أو كلما تلقى وخزة مخرز، مقابل تخليه عن قضيبه ليحظى بيد العناية الإلهية، وصل الحمار نهاية هواجسه من قدوم الصيف بمشاغله و أتعابه ليفرج عن كربه ببضع رفسات على جبين الهواء ونهق بما يشبه الكفر أو البكاء.
السماء أيضاً لم تكن مرتاحة في نومها ليلة الأمس، فهربت إلى ذاتها السابعة تلوذ بأقاصي الغيب أن يشرح لها صدرها، طاردتها النسور الجائعة طمعاً في افتراس نجومها التي اختبأت في الليل ريثما يأتي النهار بالغمام يعمي أبصارها لتنصرف إلى مطاردة العصافير التي ما إن يسقط أول ضحية منها، حتى تهرب إلى شقوق الجدران لتنفد بريشها، فتقع في ورطة مع القطط، بقيت النسور تحوم في السماء حتى أتعبت الرياح، فخرجت عن طورها وقد استبدّ بها الضجر من ضيف ثقيل الدم غير مرغوب فيه، فقررت الهبوب ولم تعرف لأي جهة تذهب وهي مثقلة بالرتابة والارتياب، فأثارت الغبار في كلّ الجهات زوبعة كنست الأرض فتطايرت القرية بأوساخها وارتفعت إلى جوف السماء لتتبعثر هناك ثمّ تهوي مستقرة في مكانها تنظر مذهولة إلى ثعبان من غبار يصعد إلى السماء حاملاً معه نصف متاع الأهالي، يتعب الثعبان ويتلاشى عن النظر فيلقي بالغنائم في الأعالي لتتهادى سابحة نحو الأرض ريشة تترنح مع الهواء، والأهالي يترقبون هبوطها حذرين من التقاطها، فالزوابع تحمل في بطونها جنيات يخطفن الأطفال، وإن لم يجدن طفلاً يأخذن ثياب النسوة حسداً، وفي الفضاء يعملن في الثياب عملاً ثم يرمين بها على القرية، فإن لمست امرأة ثوبها الهابط من السماء ولم تذكر اسم الله عليه أصابها مسٌ يأخذ بعقلها فيستعبدها الجن دهراً، أرادت الريح أن تقول شيئاً وقبل أن تفتح فمها اختطف نسر لسانها، ومن يومها بقيت الريح خرساء، في فمها كلام كلما حنت إلى نطقه هبت عواصف وهربت بعيداً تبكي خلف البحار، لتأتي مياهها مالحة ابدأ.
سكنت الرياح، فاستيقظ السراب خاملاً باهتاً كعادته يجتر صمتاً وهدوءاً يتماوج ليخدع النظر، طالباً بالثأر من الرياح لاقترافها جريمة الهبوب، عرفت الحقول حينها أن ربيعها قد رحل، بكت الأرض قطراتها الندية لترحل معه، توهجت الأجواء وتيبست الأشياء وتشققت تربة الحقول مع شفاه الأطفال في صباح من سعير جفلت منه نسمات باقية جفت على أوراق شجرة التوت الهرمة.
في هذه الأثناء و الأثناء الماضية و الأثناء الآتية، كان الرب ممدداً في أرجوحته الفسيحة بيده عنقود عنب ينظر إلى الخلائق بدم بارد ولا يتدخل فيما لا يعنيه، خرج البعض ممن خافوا آلام الولادة و الموت يرفعون شكواهم صلاة مرت أدعية قرب أنفه ولم يشم رائحة تقواهم، فقد كان مشغولاً بعنقوده الشهي، تابعت الأدعية طريقها عالياً تبحث عن آلهة أخرى أكثر بلوغاً فدخلت في دوامة الغيب ولم تخرج منها، تبرمت الأرض من ربها المستهتر الذي ورطها بوديعة آدمية، لتنظم نوازعها قصيدة باح بها السراب توقاً إلى غيمة رحلت قبل أن تمطر تاركة غصة في حلق نهر قيده الجوار بجدران أحقادهم فتوارى شغفاً في ضمير التراب يجري مستميتاً من أعاليه منحدراً نحو سقف بلواه أخدوداً أدركه الجفاف، هطلت الغيمة خطأ مقصوداً من الزمان لتبلل زغب أمنية قيد التبلور فصار النهر فرخ ثعبان لم يتقن فنّ اللدغ ليراوح في مكانه يحتضر لا يعرف سبيلاً ليزحف إليه، كبلوه قبل أن يكبر فصار داجناً خلف السدود التي لم تأتِ بغير الغبار والجراد إلى الأعالي أرادوا اغتيال نضارتها.
لم تعد الأمور على سجيتها ثمة شيء يجري في الحقول والأهالي لا يدركون ما هو والسنابل تناجيهم فلا يسمعون أنينها وهذا ما زاد القرية حيرة واضطراباً، فلم تملك غير الانتظار سلاحاً للعاجزين ريثما تحدث الأشياء خارج إرادتها، فكان الشواء ديباجة أخرى تنظمها الشمس وتقرؤها السماء ويسمعها الرب، لتكتوي القرية بصور وقواف وأوزان تمردت على معانيها حيرة تلدغ نوازع العابرين بلا دليل على أسنة كلمات انقلبت بها المفاهيم فأسقطت المسافرين في متاهة عصية على الشرح و التصنيف.
طــــريق.. لا بد منه
وجُـِدت القرية، ومعها وجُـِدَ الطريق القبلي الذي تكاثر وتناسل مع القرية وحقولها متفرعاً دروباً صوب كل بيت وكل بئر وكل مرعى متغلغلاً في كيان القرية أوردة تربط بين بيوتها وأحيائها جارياً في عروقها، لتصب في القرى المجاورة، يقودها في النهاية إلى المدن القليلة النائمة في أطراف السهول العليا، فإن كانت الحقول قبلة الأهالي الأولى، فإنّ الطريق قبلتهم الثانية، فيه تسير حياتهم برتابتها السرمدية، وفيهم يسير بجديد يجلبه لهم من جهة طارئة على توقعاتهم ليطرد السآمة من قلوبهم المكررة.
الطريق يخرج من جوف القرية متجهاً جنوباً أو ربما يتجه شمالاً يختلط بأحشاء القرية متفرعاً في ذوات الأهالي يلتف على أحشائهم ليخترق أرواحهم الساهمة، لم يكن الأهلون يبالون بالسائرين على الطريق مسافرين من القرية إلى أشغالهم، وجوه مألوفة لا تسترعي الانتباه، بل كان الفضول يملؤهم كلما لاح لهم طيف قادم إلى القرية، تشخص أنظارهم وتمتد جنوباً على مدى البصر تستطلع وجهاً طارئا.. عابر سبيل.. مسافر.. قافلة.. عربة، بقي الأهالي منذ جيلهم الأول مختلفون في تحديد مبتدأ القرية ونهايتها، بين قائل بأن الطريق يبدأ جنوباً وينتهي شمالاً بالقرية، وبين قائل إنه يبدأ من القرية شمالاً وينتهي في الأفق جنوباً، ولم يخطر لهم الاحتكام إلى الطريق صاحب القضية لسماع رأيه ليخبرهم أن ليس له بداية أو نهاية، ففي الوقت ذاته وفي المكان ذاته، تكون البداية والنهاية، ويكون شمالاً وجنوباً. وأمامه المدى يخترق الأفق يمارس الاستمناء خلف السراب، فالطريق في دستور النظر حالة نسبية، والجهة مادة قابلة للتأويل، إن هي توجسات القرية من القادمين إليها غرباء يأتون و يروحون وفي نظراتهم عطش مرعب يستطلع المكان طمعاً، والطريق يلوك الغبار متلمساً ذاكرة السهول العليا أن تستيقظ وهي تخط جغرافية النطق صمتاً على آثار أقدام حفرت صفتها المدوية على صدغ القرية صداعاً مفتوحاً لم يسببه غير الجراد، و تغوص القرية في لعبة الجهات الممنوعة.
طاعون كافر جاء بالغبار والجراد، نصب تقاسيمه، فتاوى للشطب المبين، يسلخ الزمن عن جلد الطريق، ليفقد ملامحه الحميمة عبر مكانه الحميم المقيد بخطوط كذبة شاعت في بلاط الخليفة.. خطّ على الهوية.. خطّ على اللسان.. خطّ على البدن.. خطّ على الأنين، وجاء معتوه آخر، ليضع خطاً على آذار متهماً إياه بالتواطؤ مع الطريق على جلب الربيع إلى مكان محظور، حلّ آذار بالمكان مخضباً بدمه يرسم الربيع بلون ضحية تناجي: آه يا قلبي آه يا قلبي آه يا أماه ليتك تعرفين بحالي، كتبوا على صوى الطريق إشارة لاهوتية غائرة المنافي موغلة في الضغائن، فتاه الطريق عن ذاته، وضاعت وشائجه، أرادوه عارياً من سهوله بلا هوية، لتعيش القرى غربتها في عزلة أحاطت بها عقب رسالة زعفرانية، كتبوها على الطريق عنوة، ليتقيأ غبار حوافر خيلهم، اتهموه بالزندقة وأقاموا الحد على الأهالي، سُحبتْ منهم وثيقة تعريفه، ليقيم المكان في مكانه أجنبياً، نهض الطريق محتجاً فقطعوا أوصال المكان، أعمال في أطراف دول الرب، الذي اختار لشعوبه فريسة عنيدة ظلت تطارد أحلامهم البلهاء في اصطيادها حتى أصابتهم بالجنون، عاد الطريق يلملم أشلاء مكانه، فأسكتوه ثانية بفوهات بنادق تشيكية أخمص طي ترمي رشاً ودراكاً، مواصفات تكفي الجندرما ليحددوا بحوافر خيولهم أفضلية المرور لغرباء قادمين من قفار تحركها كثبان نوايا ، أشكال آدمية لها صرير مخالب الجراد لحظة جوعها تزحف، تجذبها السهول العليا، شمال مغناطيسي عبق، فتسيل الرمال لعاباً على أشداق المفاوز، ويرقص الجوع عقرباً في أمعائهم حين تشم مناخيرهم رائحة الشبع في مواسم ينتظرها الصبية في قراهم أحلام محققة، مواسم الأطفال غنائم للمفاوز الغزوة آتية لا ريب فيها، والسنابل الفتية عذريتها مستباحة والحقول يحظر عليها النواح والطريق جرح بليغ أفقد القرية وعيها، زحفوا رملاً و قملاً تدفعهم شراهة جاهلية، يسيرون بدم ثقيل على أشلاء المكان، أصابوه بعدوى ليلة صحراوية بردها صدأ قديم، كزاز من بقايا سيف بقر بطونَ حوامل رفضن دفع الخراج.
ضحكت خيامهم للريح سموماً غريزة منسوجة غزلتها أحقاد كامنة دقت أوتادها في صدر المكان، ساحت ذاكرة الطريق أفعوانا يذوي أمام قراقوشيات الرب الذي بقي معادياً للسهول العليا دون سبب واضح، فأخذ ينسج للقبائل أوهامها القاتمة يغريها بالمراعي نضارة جديدة للجراد.. جاء البدو يلطخون الطريق بروث مواشيهم يفسدون إيقاع أيامه المألوفة صفحات شيقة تمردت على النسيان، حتى جاءت أشياء لم يعهدها الطريق.. قف ارفع يديك.. اسمك.. سنك .. عنوانك، دوريات لوثت الطريق ..درك.. جمارك .. استخبارات.. هجانة، شيئاً فشيئاً أخذت حوافر الخيل وعجلات السيارات العسكرية تمحق ذاكرة الطريق، حينها خافت أشياؤه الجميلة من الدوريات فانقطعت الزيارات.
لم يكن الطريق قد اعتاد من قبل آثار غريبة تطبع على ظهره رغم أنفه، فبقي يلفظها كلما سنحت له الفرصة، حين تغادره الدوريات إلى المدن لتتزود بالرصاص والأوامر وتقدم تقاريرها عن حركة الهواء في المكان وعن سير الأحداث في المناحل، فرصة يعود فيها الطريق إلى أرشيفه العنيد يقرأ حكايات أحبابه القديمة المحفورة في طياته المندثرة حيث الحياة رغم رتابتها عامرة بالألفة و المودة.. أرشيف أطول من تاريخ فرعون الزمن، فالطريق ملكٌ تاجه الأزل، رعاياه لا ينضبون، هذا حسن كفوك البائع الجوال بحماره الأبيض يطبع حبه للمكان، آثار أقدام يحفظها الطريق يجوب القرى منادياً على بضائعه.. تعالوا إلى عمكم حسن كفوك.. تعالوا إلى تين شنكال.. تعالوا إلى حناء الهند.. تعالوا إلى هباري موصلي تعالوا إلى علكة البطم إلى أمشاط الخشب إلى القضامة، تعالوا تفرجوا على عمكم حسن كفوك، يسمعه الأطفال والنسوة فيركضون إليه متجمهرين حول حماره كلٌ يطلب حاجته.. ويأتي جميلكو المحلمي بائعٌ آخر، ليرسم على الطريق آثار عجلات دكانه المحمول على عربة مغلفة بالصفيح (paytonk) و لم يكن مرغوباً من الأهالي كثيراً كمنافسه حسن كفوك، لضيق خلقه وسوء تعامله مع زبائنه وغلاء أسعاره وغشه للنساء، رغم مهارته كتاجر جوال يقايض كل ما هو متوفر لدى النساء ببضائعه.. البيض والحنطة والشعير والصوف، ليحقق أرباحاً تعادل أضعاف قيمة بضائعه، كانت النسوة تعرفن قلة أمانته ولكنهن كنا مجبرات على التعامل معه لتوفر حاجاتهن لديه وبيعه لهن بالدين مقابل فوائد، في الفجر يُحمل ُ فلاحو القرى الشمالية عرباتهم بخضار حقولهم وثمار بساتينهم منطلقين صوب قرى الجنوب ينادون.. على البندورة.. على الخيار.. على البطيخ.. على العنب، فيهرع إليهم الأهالي يبادلونهم الحبوب بالفواكه والخضار الطازجة، التي اشتاقوا إليها، إذ لم يكن الباعة يأتون كل يوم.
القادمون وحلفاءهم من الدوريات أفسدوا حياة الناس، فلم تعد تلكم الأشياء الجميلة تحدث على الطريق، قطاع طرق مرخصون في وضح النهار بملابسهم الرسمية، يحافظون على أمن الدولة من نباح كلب ضجر أو زقزقة عصفور يغازل خليلته، ليتخذوا الأمن ذريعة لابتزاز المسافرين وتجريدهم من كل ما بحوزتهم من أشياء ثمينة، فإن رفض أحدهم يتهمونه بالانتساب إلى حزب رجعي ويسحبونه إلى المعتقل ليبقى منسياً هناك بضع عشرة سنة، وكان هذا يكفي لتنقطع صيحات حسن كفوك وصرير عجلات عربة جميلكو وعبق خضار الفلاحين عن زيارة الطريق، لم يعد الأهالي يسمعون تلك النغمات المحببة إلى قلوبهم قرقعة حوافر دواب الباعة على قارعة الطريق.. أصواتهم وهم ينادون على بضائعهم.. جلبة متاعهم، معزوفات أخذت بالتلاشي، الدود يطعن المكان جثة، والقرارات تتوالى تحذر الأهالي من التعرض للدبابير أو ممانعة الدوريات في تطبيق القانون وفرض هيبة الدولة تحت أي ظرف، ليكتمل الطوق حول خاصرة السهول العليا، لهذا ربما لم يفهم الأهالي مناجاة السنابل، ربما لهذا كانت الأجواء ملبدة بشيء ما يحاصر الأفق ليعتصره قلق أحمر حين طاله الغبار انكساراً، جاء المساء حزين الجناحين، تلعثم الهواء أراد أن يقول شيئاً وفشل ثانية، فسقط في براثن نزعة هلالية تضمر جحيماً للمكان و أهله، والنوايا عشرة على عشرة، سكين بليد يجز أعناق أقاليم متخمة بالذبح والريحان، خافوها طليقة خافوها مقيدة خافوها حية خافوها ميتة، كونها بكل الحالات بقيت موجودة فقرروا صهرها في مرجل رسالاتهم، وحين جربوا وجدوا أن حطب العالم لا يكفي لصهر إرادة في ذرة تراب علمتها السنابل وحناجر الصبايا أن البقاء قضية.
نهضت الأقاليم تحمل أشلاءها، لينطق النزيف، وكان الجرح واضحاً في كلامه يخاطبهم بأن إقليمه عصي على الانصهار عصي على الموت، أنه لعنة على كل ملة حمقاء تصارع جبلاً لتقتله، جبلاً لم يقتله الطوفان، فجاء الصعاليك يجربون اغتياله (لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله مصافي المشاش آلفاً كلّ مجزر) أقاليم تبقى والفتى غير مخلد، حالة مبهمة خالدة في ذاتها لا يفهمها أحد غيرها، جليد يهزم الشمس في عز ذروتها كلما توهجت في وجه السهول العليا كانت برداً و سلاماً، يخافون الإقليم لأنه فريسة غير قابلة للافتراس، وضعوا أعينهم عليها غنيمة فصارت لهم عقدة يخافون أن تبقى حسرة في قلوبهم فيموتون إن شاء ربهم، يخافون أن تفلت منهم الغزالة يا حيف يا حيف على الرجال يخافون يرتعشون ينهالون على الإقليم ثانية وثالثة و..... طعنا وضرباً وتمزيقاً، تكالبت عليه القبائل سحبوه نزيفاً ذهبياً بلا إحصاء، فجاء الجرح القديم مكتوما في سجلات الوجع، فإذا الألم أجنبياً على شفى جرحه الذي لا يندمل..، خافوا الذبيحة، دمها قال لهم اسلخوني وغداً سوف أنهض..، خافوا فاجتثوا اسمها من الخرائط وقواميس المدارس غير الموثقة، والقوا به في جهة النسيان على أطراف نوايا خبيثة يسحبون من عظامها باقي المشاش زيتاً لمفاصلهم المنخورة بالهزائم.
لم يكذب الدم، في الصباح التالي صدمهم الفشل من جديد مع زقزقة العصافير التي طلعت قبل الضوء تلتقط رزقها بين الحقول ترفرف بأجنحتها تكتب بريشها اسم المكان خارج السجلات المريضة غير آبهة بقرارات الحظر ولا تهديدات الصقور، وكان ثمة غزالة ترعى على سفح الجبل تهز بذيلها تستفز الملل والنحل، السهول تعي أسرار عليائها، هي باقية مهما اجتهدوا قياساً وإجماعاً، مهما استخرجوا من أفعال شاذة ستبقى البلاد العليا، القاعدة لا تستوعب دلالاتها أسماء الجهات، بلاد حُددت جهات الدنيا بها فكيف يريدونها جهة منسية، طيور القطا والحجل و القبج والسنونو لن تقبل المكان إلا باسمه الذي عرفوه به، منذ الأزل يحملونه تاريخاً صريحاً في نبضات قلوبهم، اسمه مكتوب على كل حبة قمح تجود بها ترابه، لتطلق الضباع روائحها الكريهة من جيف رسالات تسيل من أفواههم بقايا فريسة اختطفوها في الظلام، بغض مبجل يثقل كاهل الذي لم يفعل بهم شراً.
أولج الرجل المختار إصبعه المدرع في ديوان ثرثرة,يهتك عورة سيوف,لم تكتب قوافيها إلا على جسد الثكالى,ولم تقطع غير رقاب اليتامى,جريمة تخثرت في ماض الجراد بطولة,تقتات على جثة حاضر مشروخ تراخى عميقاً بـحاراً للهزائم،صاح القوم هزيمة,واستنفروا للثأر وحين انطلقوا اتجهوا شمالا تاركين الرجل المختار خلف سيوفهم لتقع الغزوة على أعشاش الحجل،والحجل تبريرا لكل هزيمة,حتى يكون دمه للحقد وليمة,خطأ مقصود يظل يتكرر،إذ كلما بعج الرجل المختار قافية كذبة,ارتفع أزيز المدن شعرا,ينظم السيوف والرماح والطير الـَحوَم,حتى تخال الغضب الخلبي سيأكل لحم الرجل المختار نيئاً،وما إن يمد لسانه حتى تفر قلوب الرجالات إلى ما فوق خيامها تغطي هزائمها بمجزرة في الأعالي،يذبح الحجل،وترجع الرايات مرفوعة معلنة الانتصار،ثعالب وأرانب و بنات آوى انتصرت على الأزاهير والجنادب,وعدالة مكبلة بحمى الأعراق،نصر مهين،في ميدان لواطة،أدمن دم الحجل وكذلك بصمة المختار،عورة ارتخت جدرانها،لينقب فيها الرجل المختار على مهله،يتسلى بفتح ثغرة في شرف عروس ممزقة البكارة،لا يقوى التاريخ على سترها،حتى يأتي أحمق آخر ثانية من بلاده العالية يشمر عن ساعد نخوته ليرتق شرف من ذبح عصافيره،ويترك الافتخار لفرسان الفتح المبين،غيلة يقتحمون خيمة فارس مجنون قادهم إلى الشرف يسلخون اسمه ويلبسونه لأنفسهم تاريخاً و مجداً و يقتلون أطفاله النائمين،قذارة لا حدود لها،أحقاد تأكل الحجل يدوسون رقبة الطريق لينتزعوا الدسم من ذاكرته.
ذاكرة نجت حكاياتها من آفة التدوين، خامات مصونة في جنبات مخيلة السهول العليا، أبطال لم تشوه حقيقتهم روايات أرخ أحداثها خصيان الخليفة، للطريق منهجه حين يؤرخ لأبطاله يتركهم على عواهن الحقيقة شخصيات لا مهرب منها حققت وجودها إلى جانب الخليفة والوزير، فكان لها حضورها المدوي خارج دواوين الكتبة والدهاقين، الطريق سيرة جارية يرويها حميدي دين، طول فارع جسد مهيب تخاله حكيماً أو نبيلاً أو من كبار رجالات القرية مقاماً يجلس مع الرجال أمام عتبات أحد المنازل يتبادلون أطراف الحديث، وفجأة تركبه العفاريت ليقفز مهتاجاً يشبع من حوله ضرباً وينطلق راكضاً يدفعه الغضب إلى الطريق يطارد عقله حتى تبعده الجنيات عن القرية فيتوقفن عن الهرب ليلحق بهن حميدي فيعبثن معه قليلاً ليفتح معهن شجاراً، يمسك حميدي بتلابيب جنية يطالب منها استرداد عقله المفقود والجنية تضحك بغنج تنكر علمها بعقله أين يكون، يهزها بيديه القويتين مهدداً بخنقها ما لم ترد له عقله، تتمايل الجنية في دلال وتترنح وتلقي بجسدها عليه سحراً وتقول: عزيزي صدقني ليس لي علم بعقلك دعك منه وتعال نتسلَّ بما هو أفضل.. يـُصعق حميدي بملامسة جسدها وتسري في كيانه ومضات كهربية متدفقة تدغدغ روحه لتطفئ فورة غضبه فيستسلم للجنية ويقول لها ثمة شيء فيك أحلى من العقل بماذا نتسلى يا صديقتي .
الجنية: نلعب لعبة العروس والعريس..
تلتف الجنيات حول العروسين مزغردات مبتهجات يطلبن من العريس أن يتعرى وحين يفعل تختفي الجنيات عن ناظريه فلا يسمع غير سخريتهن ضحكات خافتة تصيره أسداً مصاباً، يقاتل الهواء يقذفه بالحجارة يسب الجنيات يهدد ويتوعد، يا قحبة يا شرموطة ماذا تريدين مني والله لو أمسكت بك سوف أمزق فرجك بهذا القضيب، يخرج حميدي قضيبه ويلوح به، هل ترينه سوف أولجه فيك وفي أمك وأبيك ومليكك وكل معشرك يا... بنت الكلب، وتشتعل فيه حمى الفحولة، فتسقطه أرضاً ليتوسل الجنية أن تأتي ليضاجعها لتحرره من آلام غريزته، يبكي حميدي بلذة جارفة، تظهر له الجنية على مسافة آمنة، تناديه: حميدي حبيبي هل تبكي على عقلك أم على قضيبك تعال لتنال مرادك مني ولكن أعطني الأمان بأنك لن تؤذيني.. يجيب حميدي من قعر بئر عميق لك الأمان. ترمي الجنية بطيفها بين أحضانه، فينقض عليها ذئباً في موسم التناسل، يتمرغ حميدي في التراب وتأتيه الرعشة ليتجمد في مكانه فلا يسمع غير لهاثه وقهقهة الجنيات من حوله، ثم ينهض ليرتدي ثوبه ويظل قضيبه منتصباً عموداً تحت خيمة، يجلس حميدي على طرف الطريق مستذكراً خليلته كمولا الأرملة التي ضبطها تخونه مع والده، تكاثف المستحيل مشهداً في رأسه فسال وجدانه بين فخذي والده صدمة قوية فجرت عقله ليتجنب الألم، اختار الجنون راحة لنفسه، وكلما حاول استرداد عقله يباغته المشهد ذاته، ليعدو شرساً يلاحق نفسه ليسألها من يـُعاقبْ. كمولا أم أباه أم كلاهما معاً، أحبة ماذا يفعل بهم، لم يجد رداً، مط قضيبه وتبول على تراب الطريق الذي تفتت دقيقاً تحت حوافر خيول دوريات الدرك، فانحدر بوله يشق أخدوداً صغيراً اتخذ قارعة الطريق مصباً، ليشكل بحيرة صغيرة سرعان ما تشرّبها التراب وجففتها أشعة الشمس، فبدت منحوتة معمولة من صلصال محفورة في عقل حميدي نقشاً يومئ إلى روح مكروبة. اندس حميدي بين الزرع على طرف الطريق يعبث بقضيبه، حين لمح فتيات عائدات من حلب الماشية في المراعي، استرعى نظرهن الأخدود الذي حفره حميدي على الطريق، فقالت إحداهن وهي ترمق بشبق الزخارف الصلصالية: قوض الله بيت أبا حميدي انظرن إليه بوله أكثر من بول جمل ترى كيف يكون قضيبه، فأجابت أخرى: طالما قد ترك فيضاناً على الطريق فطوله ليس أقلّ من قضيب حمار، ضحكت الصبايا وتغامزن بخبث يزجرن بعضهن بعضاً، فقالت إحداهن: هيا لنمضِ في طريقنا، ليت حميدي يولج قضيبه فيكن واحدة واحدة، رددن معا يا ليت يفعل ومضين وهن طوال الطريق يتسلين بالحديث عن قضيب حميدي، الذي سمع كلامهن وحين ابتعدن عنه خرج من بين الزرع يتنشق أثر أنوثتهن الذي علق على غبار الطريق، بعد ضياع عقله صارت له حاسة شم قوية تلتقط من بعيد أي نسمة أنثوية بملاقط روحه الشريدة، تمرغ حميدي في التراب يمرر أنفه على آثار أقدام الفتيات يشم بقايا عبقهن حتى يملئ منخريه بالتراب لينهض رافعاً رأسه إلى السماء فقد أيقظ عطر المرأة حمار نائم في حواسه، فأخذ ينهق منادياً أنثاه للجماع، فلم تحضر، ليهيم على وجهه يركض على الطريق مغلوبا على أمره، حتى صادف صوفي أونس إمام المسجد الذي لا يكف عن التلصص بنظره على نساء القرية حيث كان مكروهاً من الجميع وحين لمح حميدي يقترب منه حاول تجاهله والتملص من لقاءه، ولكن حميدي أمسك به يسحبه نحوه.. هاااا... صوووفيكو... أين كنت ألم تشبع من النظر إلى نساء القرية حتى تذهب لتتلصص على نساء القرى المجاورة تعااااال... تعال إلى عمك حميدي حتى يؤدبك قليلا. حاول الصوفي مماطلته ومراوغته ليفلت من يده دون جدوى، فأخذ يتوسل إلى الله أن ينجيه من براثن حميدي معلناً توبة نصوحاً عن النظر إلى النساء، ولكن هيهات فحميدي لم يصدق متى يعثر على شيء ينفس به عن غضبه، فكيف إذا كان الشيء مكروهاً كصوفي أونس الذي فقد الأمل بالنجاة، فأخذ يلاطف حميدي عله يتقي شره، لف الصوفي سيجارة فدخنها حميدي بشراهة وهو يرمق الصوفي بنظرات لم تكن ودية قط، لاحظها الصوفي فقال في نفسه: كان الله في عوني نظراته لا تطمئن أبدا أخاف أن يفتك بي هذا البغل قبل أن يأتي أحدهم وينقذني منه، قرأ حميدي أفكار الصوفي بمعونة الجنيات اللواتي حرضنه عليه فأنقض على أونسكو يفرغ فيه غضبه من والده ومن رجال القرية كلهم الذين شاركوه في مضاجعة كمولا، أمسك حميدي برقبة الصوفي يضربه ويطبق على صدره ويعضه يسأله: لماذا ضاجعت كمولا أيها الشيطان القزم، تلعثم الصوفي: معاذ الله يا ولدي معاذ الله إن كنتُ لمست طرف شال كمولا المصونة مرة في حياتي من أين لك هذه الظنون العجيبة، كمولا الحسناء لا تسمح لأحد أن يرمقها بنظرة فكيف تسمح لشيخ هرم مثلي بمضاجعتها هل جننت يا حميدي هل جننت، وقبل أن يكمل حديثه أوقعه حميدي أرضاً وبرك على صدره، جمل مهتاج ليمزق جلبابه ويطرح كوفيته، يشبعه باللكمات والرفسات يشد بيديه على خناقه يريد أن يقتل أباه وكمولا و الجنيات، بينما الصوفي يصرخ من تحته مستغيثا بالرعاة، فتظاهروا بعدم الانتباه وقالوا: إن هي فرصة يتخلصون فيها من الصوفي فلا يعود يتحرش بنسائهم، أيقن الصوفي أنه مقتول لا محالة فتاب إلى ربه ثانية توبة نصوحاً ونطق الشهادة وسلم أمره إلى ربه ليأتيه الفرج من حيث لا يدري فقد خطر له أن يماطل حميدي ثانية عسى أن يقنعه بكف بلاه عنه فناداه: حميدي حميدي أمهلني دقيقة لأخبرك بشيء يرضيك، وكان حميدي أحوج ما يكون إلى أحدهم ليخبره بأي شيء يفسر له المشهد الذي استوطن رأسه بدلاً من عقله، غلبه الفضول وتوقف عن ضرب الصوفي ليقول: والله وبالله وتالله سوف أقتلك إذا عرفتُ أنك تريد الكذب علي هيا قل ما عندك فلا وقت لدي، تنفس الصوفي الصعداء وقال:اصبر يا ولدي حتى أسترد أنفاسي وإن شاء الله سوف يرضيك كلامي، ما رأيك لو أجمعك بكمولا الحسناء حبيبة قلبك، انتفض كيان حميدي كأن الصوفي اقتلع وتداً من روحه فهدأ تماماً واستسلم بين يدي الصوفي قطاً أليفاً يسأله: كيف تجمعني بها يا خالي الصوفي. فقال: دعني أرجع إلى القرية كي ألتقي بكمولا بوسائلي الخاصة لأخبرها بحبك وأدبر لكما موعداً تلتقيان فيه ما رأيك أن تجتمعا ليلاً عندي في الجامع، سأله حميدي ولكن ممارسة الحب في الجامع أليس حراماً، أخبره الصوفي: يا حميدي يا ابن أختي لماذا عقلك صغير هكذا، حبك شريف وطاهر والله يغفر للمحبين، كبّر عقلك قليلاً ولا تعقد الأمور على نفسك وعلى كمولا المسكينة، سأله: حميدي خالي الصوفي كم امرأة التقيت بها في الجامع، فقال: دعك مني وفكر في قلبك أيها الولهان الشقي، انفتحت أسارير حميدي فحمل الصوفي على ظهره يعود به إلى القرية، ولم يكن الصوفي مطمئناً على كسبه هذه الجولة فالطريق طويلة والقرية بعيدة ومن يدري فربما الجنيات يركبن حميدي في أية لحظة ليهيجنه من جديد ليعود ويمسك بخناقه، وبينما هو يفكر بطريقة يتحرر فيها من حميدي، سمع أزيز محرك دراجة بائع البوظة فقال: لحميدي يا ابن أختي الحرارة خانقة وأنت تحمل خالك على ظهرك أعرف انك بغل لا تتعب حتى لو حملتني ألف سنة طالما أقودك إلى كمولا ولكن لا تقل لي إنك غير عطشان، فرد حميدي كلا يا خالي أكاد أموت من العطش، فقال الصوفي: ما عاش العطش وخالك معك هيا أنزلني لأروي ظمأك، فقال حميدي: ولكن أين الماء، فقال الصوفي: هوذا بائع البوظة يأتي من خلفنا يحمل إلينا أشياء منعشة أكثر من مياه الزوزان، الآن حين يصل إلينا ستجد في براده الصغير عجينة بيضاء مكورة منعشة شهية كنهدي كمولا ألم تذق في حياتك طعم الدوندرما يا عيون خالك. سال لعاب حميدي مع ذكر نهدي كمولا فاشترط على الصوفي أن ينزله عن ظهره على أن لا يفكر بالهرب، وجلس الرجلان بانتظار وصول بائع المثلجات ليوقفه الصوفي ويأمره هيا: يا رجل دع ابن أختي حميدي ينظر إلى الدوندرما الشهية في برادك لأشتري له قرنين أو ربما ثلاثة، تهلل وجه البائع وتفاءل خيراً ها هو قبل أن يصل إلى القرية قد عثر على زبائن موعوداً ببيع وفير، فقال: أمرك يا عمي أنت وابن أختك على رأسي تفضلوا وانظروا.. تعال بررررد قلبك تعععععال طفي الشووووووب بوظة بوظة بــــــــــوظة قررررررب قــــــــــــرب دوندرما حليب... دوندرما كرز... يلا يلا يلا طفي الشوب، ألقى حميدي نظرة إلى جوف البراد، بياض ناصع وجد فيه كل مفاتن كمولا مما جعله ينسى الصوفي، فطلب من البائع قرناً وسرعان ما التهمه قرنين ثلاثة... انشغل حميدي بتناول البوظة، فانتهز الصوفي الفرصة مطلقاً العنان لقدميه يسابق بهما الريح إلى القرية، وما إن بلغ بر الأمان حتى توجه إلى بيت أهل حميدي مندداً غاضباً موبخاً كيف يتركون مجنونهم طليقاً ليعتدي على الناس مطالبا إياهم بتقييده أو نقله إلى العصفورية بدل إطلاقه في رقاب الناس، لم يترك الصوفي كلمة توبيخ إلا وجهها إلى أهل حميدي... وانصرف وهو يبربر.. ناس ما يستحون... ما يخجلون... عيب عليكم عيب اربطوا كلبكم المسعور حميدي قبل أن تحل مصيبة على القرية ابنكم لعنة حلت بنا، الله يسترنا منه ومنكم
أتى حميدي على محتوى البراد كله ولم تشبع روحه فطالب البائع بالمزيد وركبه السعار حين عرف أن البوظة نفدت وأن الصوفي هرب فلم يجد أمامه غير البائع ليبتليه ويحمله جريرة هروب الصوفي فانكب على البراد يقلبه أرضاً يعبث به كذئب جائع يهاجم فريسة ولكنه لم يعثر على مفاتن كمولا ليلتفت إلى البائع يطالبه بإعادة الصوفي إليه، أصيب الرجل بالهلع حين عرف أن ابن أخت الصوفي مجنون، فأخذ يتوسل إليه ويستعطفه ليخلي سبيله، ولكن حميدي خيره بين إحضار البوظة وبين مواقعته، فأخذ الرجل يصرخ، وحميدي يجاهد أن يجرده من ملابسه حتى هرع الرعاة لنجدته وخلصوه من بين يدي حميدي.
بعد توبيخ الصوفي لأهل حميدي خرج والده في إثره فوجده مكبلاً عند الرعاة، والبائع يبكي على حظه الذي أوقعه بيد حميدي، دفع الأب ثمن الأضرار التي ألحقها ابنه بالبائع واعتذر منه وقاد ابنه إلى البيت، في المساء تحدث مع أهل بيته عن مشكلة حميدي وأخبرهم بنيته في عرضه على شيخ من مشايخ الصوفية أو نقله إلى العاصمة لمعرفة حالته، فأشارت الأم بنقل ابنها إلى إحدى التكايا حيث كرامة الشيوخ ناجعة أكثر من أكاذيب الأطباء، في الصباح خرج الأب مع ابنه يسيران إلى المدينة ليتجها إلى التكية المباركة يطلبان المدد من شيخها الذي جعل والد حميدي ينتظر كثيراً قبل أن يسمح له بالمثول بين يديه ليستقبله متململا، صمت الشيخ برهة متظاهرا بالزهد والتقوى ليعطي انطباعاً بأنه مشغول عن الدنيا بالتأمل في نافذة الغيب التي انكشفت أمامه، ثم رفع رأسه بهدوء وفي وجهه علامات ذهول، وكأنه قادما من عوالم بعيدة، ليسأل الأب بصوت خافت يتقطر ورعاً يكاد لا يسمع: قل يا بني ما خطب ابنك وقبل أن يجيب الأب على سؤاله تابع كلامه بنبرة أكثر وضوحا: ابنك يا ولدي و الله اعلم قد واعدته جنيتان أوقعتاه في غرامهما معا لتسلبانه لبه وليس من شفاء له إلا مشيئة الله في قبض روح الجنيتين، ارتعب والد حميدي فتوسل إلى الشيخ متسائلاً: مولانا المبجل بكرامة أولياءنا الصالحين سادتنا من أجدادك وآبائك بكرامة هذه البقعة المطهرة أخبر عبدك الذليل بين يديك بوسيلة فأنا لا طاقة لي بالجان والعفاريت أنت أعلم مني بأنهن لا يظهرن لبني بشر إلا نادراً وان ظهرن لي فلا قدرتي لي بمحاربتهن، دلني على الطريق يا مولاي، طـُرب الشيخ في سره بسماع توسلات الرجل فالناس ما زالوا على حالهم يعيشون على كراماته وكرامات آبائه و أجداده، فاطمأن على مستقبله ومستقبل خلفائه، فأخذ يظهر قدراته أمام حميدي ووالده في مخاطبة الأرواح واستحضار الغيب بحركات لا يتقنها غيره، تنم عن نزول الوحي عليه، ليقول للرجل كلمته الفصل: اسمع يا بني تخبرني الكرامات بأن مصيبتك في ابنك كبيرة ولكن لا تفقد الأمل لا شيء يصعب على رب العباد توكل على الله وافعل بما تخبرني به الكرامات وإن شاء الله فإن ابنك سوف يبرأ من هذه الأرواح الشيطانية، تذهب إلى البيت وتتطهر وتصلي ثم تـُصفي نيتك لوجه الله وتنطلق إلى البراري حتى تقبض على ذئب ذكر حياً وترجع به إلى منزلك جهز غرفة معزولة لتطلق الذئب فيها بعد أن تضع ابنك في قفص ليسكن مع الذئب في نفس الغرفة وحين تأتي الجانيات لزيارته، عسى الله يسلط الذئب عليهن فيفترسهن واحدة بعد الأخرى، احرص على عزلهما عن الناس عدا أم الولد لتطل عليه بين الحين والأخر، تتفقد طعامه وشرابه، فالجان لا يحبون الضجيج و الصخب، استغرب الرجل من نصيحة الشيخ ولكنه لم يفتح فمه في حضرة الأرواح و الكرامات، فخرج من التكية يحمد الشيخ ويشكره ويدعو له بطول البقاء بعد أن تبرع بما في حوزته من نقود ذهبية وعاد إلى القرية، فأودع حميدي في غرفة معزولة، وسرعان ما غادر شمالاً يلاحق الذئاب من وكر إلى وكر ومن مغارة إلى مغارة، مضى شهر وبضعة أيام دون أن يفلح الرجل بالطريدة حتى أصابه الإعياء فكاد أن يطيح بعقله ليلتحق بابنه حميدي، لم يكن العثور على الذئاب بتلك السهولة التي يتصيد بها الأرامل و المطلقات ليضاجعهن خلف الديار حين تنام القرية، فقال لنفسه: يا لي من أحمق مجنون أصدق خزعبلات ذاك الشيخ أنا خير من يعرف علة ابني لا جان ولا عفاريت ولا بطيخ مبسمر هل أخدع نفسي وأهرب من ضميري بهذه الكذبة أم أخدع أهل بيتي أم تراني هارباً من وجه ابني أطارد الذئب الذي يعيش في داخلي، أهرب من الجنية كمولا التي سلبت عقل ابني، كان الأب يعرف علاج الولد ولكن لم يكن مستعداً لدفع ثمن معالجته، فما عليه سوى الاعتراف لزوجته بفعلته مع كمولا حتى تكون فضيحة قد يذهب فيها رأسه على يد أهل كمولا وما كان مجيئه إلى الجبال إلا لخوفه من لحظة ضعف تدفعه إلى الاعتراف فأراد تصديق أكاذيب الشيخ وخرج إلى الجبل ليفكر بروية ماذا سيقرر وحين قرر كتمان سر جنون ابنه اكتشف أنه أحمق يصدق المشعوذين فلم تعد له حاجة للبقاء في الجبال مدة أطول، أراد العودة إلى القرية، ولكن عليه العثور على الذئب حتى يخدع به زوجته وأهل بيته، رحلت الذئاب بعيداً إلى أعالي الشمال حيث لم تعد السفوح الدنيا آمنة لها بعدما تكاثر الزاحفون والدخلاء في الجوار، ما كان بمقدور الرجل الصعود إلى الشمال العالي، وحدهم المتمرسون في الروح من يقدرون على حج القمم البكر التي ما دنس عذريتها حس إنسان، وحدهم من ساروا حفاة بأقدام دامية إلى العلا حيث تفتح لهم الجبال بواباتها وأسرارها وألغازها حبا صافيا يعانقون السماء، وما كان والد حميدي بواحد من أولئك الأطهار. من أين له معرفة المسالك الوعرة والمخابئ المجهولة ومساكن الوحوش والكهوف والمغاور والغابات، الجبل حين يسمو تنتشر ألغازه تحت كل صخرة وفي كل شلال وفي كل نبتة وفي كل سماه، خاف الأب أن يصعد إلى مكان اطهر منه، فاستعان بأحد الأطهار ليتبرع ويأتي له بذئب، والأطهار ما كانوا يحبون الذئاب لأنها أرضعت حليبها لعشيرة ضائعة، شبعت استأذبت وافترست الحجل، ما إن توفر ذئب للرجل حتى عاد إلى القرية، فخرج الأهالي إلى استقباله والدهشة تغمرهم وهم لا يصدقون مشاهدة ذئب حقيقي طالما سمعوا بافتراسه لمواشيهم وهجماته على الرعاة وعابري السبيل في ليالي الشتاء القارصة، حيث تهبط الذئاب الجبال إلى السهول الدافئة الغنية بالطرائد، امتلك الفضول الأهالي ليشاهدوا عن قرب وبالعين المجردة غريمهم التاريخي بينهم، ليروا إن كان يستحق كل الأساطير التي دارت حوله على ألسنة الناس، تابعه الكبار والصغار فهذا حدث غير عادي في حياة القرية الرتيبة ورافقوه بالصراخ والضجيج حتى أدخلوه إلى الغرفة حيث كان حميدي في انتظاره ضيفاً سوف تطول إقامته، أقفلوا الباب على الضيف والمضيف وانصرف الناس إلى أشغالهم.
في الوقت الذي اعتقد فيه الناس أن حميدي قد صار مشروع ذكرى مع صديقه الجديد، فإن الطريق فتح سجل آخر يدون في صفحاته هموم جديدة بدأت مع عزلة حميدي الذي صارت دنياه حيطان كوخ متآكل وقفص وذئب وخيالات كمولا، مضت الشهور الأولى عصيبة على الشريكين، فازداد حميدي هياجاً بينما بدا الذئب أكثر استئناساً فقد سبق صاحبه إلى الاستسلام لمصيره، عجزت الأم عن تفقد ابنها الذي ما إن يشاهد وجه إنسان حتى يبدأ بالعواء ويعض القفص بأسنانه يريد افتراس أمه، صار حميدي مرعباً فاكتفى أهله بإلقاء الطعام له من طاقة صغيرة فتحوها في جدار الغرفة، وحين تتراكم الأوساخ والفضلات والروائح القاتلة، يجتمع عدة رجال ويدخلون الغرفة ويسيطرون على الشريكين ريثما تقوم الأم بتنظيفها وتعود إلى البيت ليعتصرها الألم على ابنها البائس الذي لم يكفه الجنون فسجنوه أيضاً، فلا تجد غير الشفقة دموعاً كاوية.
خرجت الأم ذات صباح لتتفقد ابنها بنظرة سريعة وهي لا تطيق رؤيته في حالته المزرية ولكنها ما كادت تنظر من الطاقة حتى انطلقت بالزغاريد تركض نحو الدار بقفزات الفرح لتبشر الأهل بأن الذئب قد افترس إحدى الجنيتين هرع الجميع إلى الغرفة يستطلعون الخبر فوجدوا أثار دماء متناثرة في أنحائها فاستبشروا خيرا وانتظروا الذئب أن يفعلها ويفترس الأخرى، في هذه الأثناء كان حميدي قد التحق بصاحبه وقرر الاستسلام فبدا أقلّ سعاراً وأكثر سكينة فأخذت أمه تعاوده بانتظام تطعمه وتنظفه وتحادثه، فعاد مخلوقاً مستأنسا وصارت ألفة بين الأم والابن والذئب، دخلت الأم شريكة معهما على أمل أن يكمل الذئب معروفه معها ويقتل الجنية الأخرى، فلم يخيب ظنها به إذ خرجت مرة أخرى بالرقصات والزغاريد معلنة شفاء ابنها بمصرع الجنية الثانية، أخرج الأهل حميدي من قفصه، حلقوا شعر ذقنه ولحيته وألبسوه أجمل الثياب وأقاموا وليمة للأهالي بالمناسبة السعيدة، عز عليهم قتل الذئب عرفانا بجميله، سرحوه في البراري ليقرر مصيره، في المساء عاد الذئب إلى الغرفة يعوي بكاء، تخاله ينادي صاحبه أن يأتي ليسامره مثل كل ليلة، هب حميدي من مجلسه وقال في نفسه: صاحبي يطلبني فقد عز عليه فراقي، فذهب إليه يرافقه إلى الغرفة التي استوطنت ذاتيهما ليناما معا، همس حميدي إلى الذئب: يقولون إنك قتلت الجنيتين مع أنني لم أشاهدك تفعل ذلك، فالجنيات ما زلن حولي يعبثن بي يرفضن رد عقلي إلي، فجاءه الجواب من الذئب حشرجة خافتة تقول لم يفعل، تفاهم الصاحبان على مناجاة بعضهما كل ليلة حيث لم تعد شراكتهما تقتصر على سكن الغرفة فقد سكن كلا منهما الآخر، كيانان يعيشان خارج عوالم العقل غرباء عن وجود لا يرغبان البقاء فيه، سنوات الحجز حملتهما إلى عوالم أبعد من العقل فهذبت روحيهما، فما عاد سلوكهما يشبه سلوك أبناء جنسهما لا هو سلوك بشري ولا سلوك وحشي ربط بين مصيرهما فأخذا يخرجان إلى البراري يتنزهان لينعزلا أعمق عن البشر يتبادلان في الخلاء أحاسيس خاصة تتحدث عن حالتهم، سأل حميدي الذئب: أخاف أن تكون العدوى قد أصابتك فصرت مثلي مجنوناً فما يبقيك في هذا الجحيم غير الجنون ثمة حزن ألمحه في صوتك المبحوح حتى أنك نسيت العواء ما هذا الانكسار يا عزيزي هل اشتقت إلى الجبال هل كان لك ثمة حبيبة اسمها كمولا لتتفاجأ أنها تخونك مع أبيك، فسلمت رقبتك للصياد لتعيش ذل الأسر معي، أصدر الذئب صوتاً فهمه حميدي على أنه نفس الكآبة السوداء التي تغمر كيانه، ثمة أشياء مزعجة غامضة تنوي التشكل في الثغرة التي نتجت عن سقوط عقله، صارحه الذئب ثانية أنه بريء من دم الجنيات فاعترف بدوره أنه بريء من العقل، عاد الرفيقان إلى القرية وبعد صمت مطول من التشاور عرف كل منهما ماذا عليه أن يفعل.
سكن الليل وبقي الاثنان ساهرين في صمتهما، حتى نهض الذئب وبرك على إليته رافعاً رأسه إلى السماء مطلقا عواء موحشاً يبعث القشعريرة في جسد الرب، فانتصبت أنجمه تشق سطوعها هلعاً وتسقط في نبضات كمولا مغشية عليها، كشر الذئب عن أنياب عدالة لم تدونها الشرائع وغادر الغرفة يتبعه حميدي، حيث افترقا في الظلام، وقد عـَرفَ كل منهما العمل الذي لابد لهم من إنجازه بعناية، دخل الذئب بيت كمولا حتى وقف على رأسها وهي تغط في نوم عميق تحلم بخل جديد، لامسها الذئب برؤوس مخالبه، فاستفاقت على نظرات وحشية ترمقها بغضب يفوح منه رائحة حميدي حين كان يأتي ليطارحها الفراش، أصابها الهلع حين تدحرج السؤال المنتظر من عيني الذئب لماذا.. لماذا.. لماذا أبي يا كمولا وكان السؤال عتاباً وعقاباً، وقبل أن تتأكد كمولا من المشهد إن كان حلما أو حقيقة، نفذ الذئب حكم عدالته ليمزق حنجرتها، ويعوي عواءه الأخير، لينفطر في الجانب الآخر من القرية في نفس اللحظة قلب حميدي الذي كان بدوره يقرأ الحكم الصادر بحق أبيه ليفصل رأسه عن جسده بسكين غضبه الذي جاهد كثيراً ليطفئه فازداد اشتعالاً، التقى الرفيقان على مشارف القرية وغادرا شمالا ليلتحقا بالأطهار، وكان الطريق الشاهد الوحيد على شفاء حميدي الذي استرد عقله بثمن باهظ.
استيقظت القرية على صرخات مجهولة، وسرعان ما شاع الخبر فانشغل الناس بمصرع العشيقين، دون أن ينتبهوا إلى غياب الصديقين الوفيين، كثرت تكهنات الأهالي حول موت العاشقين بعضهم وصف كمولا بالمرأة اللعوب التي عذبت قلوب الكثيرين فجاء أحدهم ليشفي غليله، أما ذوو النوايا الحميدة فقالوا: إنها ضحية أحد الضباع التي تسللت إلى القرية وألقت برائحتها على كمولا لتسلبها الإرادة وتقتلها، أما من لم يحظَ بود كمولا فادعوا أن أقاربها قد قتلوها لغسل شرفها من العار بعدما ذاع صيتها في القرى المجاورة، وكان الرأي الصحيح موجوداً لدى صوفي أونس الذي لم يجرؤ على الإدلاء به حتى لنفسه ليحفظ رأسه سليماً على كتفه، لم يبالِ الناس بمقتل والد حميدي ولم يخطر ببالهم أن يكون هناك رابط بين مقتله ومقتل كمولا.
بقي الطريق يدون على صمته وقائع الحياة في المكان بحياد مزعج وكان آخر ما كتبه في سجلاته قبيل أخذ حميدي إلى شيخ التكية، متعلقاً ببائع البوظة الذي أنقذه الرعاة، حيث أقسم اليمين أنه لن يهوب نحو تلك الجهات حتى بعد مماته.
ذاكرة متقدة وسجل فسيح الصفحات يتسع لكل شاردة تجري على الطريق، يعود إلى تصفحها في أوقات فراغه حين يخلو من المسافرين وكثيراً ما يختار صفحات مسلية تخفف عنه وطأة نهار مزعج، فينسى همومه بقراءة ما دونه عن مشاحنات الأهالي المضحكة، حيث يتخاصم المارة و يتقاتلون دون سبب وسرعان ما يتصالحون بدون سبب أيضاً، ليرقن الزمن قيد قضاياهم في أرشيف أثقله الغبار.
مرت فراشات فوق سنابل القمح بأجنحة متعبة تكاد الشمس أن تشعل أغشيتها المزركشة حسداً، حملت الفراشات هسهسة الحقول عن الحصاد، لتحط على أطراف الطريق تطلب برهة من الراحة قبل أن تستأنف رحلتها بحثاً عن غصن أو سراج منير تحترق في أنواره عشقا، لتكتشف أن رحلتها أكثر من قصيرة، فالطريق يسير إلى الجفاف ومعه تجف قرارات القائمقام المنحاز للثعالب ، فتبقى السهول مصونة في عليائها الدامي، حيث مراتع الحجل والقطا والعصافير تبث الروح في الطريق بشدوها، لينهض الرميم حيرة حارقة في عقول قاتليه الذين اعدموا حيلة في محوه فلم يفلحوا، فقرروا حظر مشيئة الحجل، والحجل مشيئة سيدها المبجل تعرفه الجهات العليا كلها ويعرفه العالم، قادوه إلى السجن رضيعاً، الأغبياء علموه من حيث لا يدرون أن يعشق العلا، حين وجد في منامه داخل زنزانته أسراب الحجل ترفرف في السماء شامخة بأجنحتها تنعم بالحرية، ضاقت عليه الزنزانة، فترك ثدي أمه مضرباً عن الرضاعة يطالب اللحاق بأسراب الحجل، خافه السجان، ومذ ذاك صار الحجل رمزاً مجلجلاً لتخومه، لترفع نفسها عن صليب الجهات النائية غنيمة للآخرين، وتعود إلى ذاتها مسافة عادلة أثقل من جهات فجة، مسافة انتماء وتعريف غير المنفى.
سأل سيد الحجل جلاديه عن جهات الذئاب وأبناء آوى والطواويس والظربان لماذا سُجلت بأسمائها، ولماذا الحجل وحده سَجـَــلوا قيده جهة بلا انتماء، فكان سؤاله لب المشكلة، رفض الآخرون منح الحجل صفته المدوية، وحجبوه عن جهته، اسم ٌ ممنوع من التداول، وأعطوه اسماً غريباً عن مكانه الذي صار زاوية مهملة في أطراف أقاليمهم الكلسية، صبر الحجل وتحملَ وسامحَ، ولكنه بقي على عناده الذهبي طيباً زيادة عن اللزوم لا يرتضي تعريفاً لإقليمه البهي غير اسمه.
استصغر الآخرون شأن سيد الحجل وجدوه مستضعفا، فاعتقدوه لقمة سائغة ليتقاسموها، وكان للحجل رأي آخر ظل يجلجل به هناك في جارجرا ارتقت شهقات الحجل مع شهقات أنبيائها أعواد المشانق الشاهنشاهية؛ فانتصب القاضي جبلاً أمامهم اختار الموت مـُعرفاً بإقليمه، رافضاً الحياة تحت اسم جهة مذوية تحت ريش طاووس متعجرف، لتبقى مدينة السمو بقعة عالية لا يطالها يد الشاهنشاه.
منذ ما قبل الرب والمكان لا تحتويه الجهات، الأكوان تحسده على هذه الفرادة التراجيدية، حاربته الشموس، ونازعته الأمم، من لا يحسد جبال لها في ذمة الوجود جميلاً، تنشق سيد الحجل شهقات قاضيه وديعة في مكانه الرحب، فاختفت الجهات الملعونة، فعاد يحمل حلمه القديم جازماً بأنه يستحق القتال تحت راياته، لتنبثق من بين يديه أمة محاربة تـُسابقُ الموت خياراً إلى حياة تليق بمقامها الرفيع، مقاتلون انبثقوا من أكباد زاكروس وطوروس ، يقودهم جبل انبثق من بارزان، أقام الدنيا وبدل دورة الأكوان، وكانت أولُ وصاياه لا تقتلوا حجلاً لا تقتلوا قبجاً لا تقتلوا جندياً خائفاً، ولكن قاتلوا بشجاعة، وإياكم أن تصيب طلقاتكم جذوع الأشجار فتخسرون ودها فيهزمكم الخصم إذ لا حلفاء لكم غير أشجاركم وطيوركم وذرى جبالكم، حافظوا عليها تحميكم.. فصاروا أسطورة تسير في السهول والجبال، ولكنها قبل ذلك زحفت قشعريرة هلع في قلوب قاتلي الحجل، لم يعرفوا سبيلا إلى النوم جيل بعد جيل، وما زال الأرق يقض مضاجع أبنائهم إلى أجل غير مسمى، قد انتصر الحجل بروح سيدها بعد رحيله، ليكتسب الخلود في اسم إقليمه، حيث الوديعة شامخة في أيادي أمينة، والحجل يطير أسراباً صباح مساء في بحبوحة فضاء لا حدود لحريته، سمع الطريق خفقاتً عادت تنفخ الروح في جثته، يمد القتيل جرحه إلى الهواء يسأله أن يفتح ذاكرة الهبوب على الشمال، هناك حيث سقط قلبه منه قبل أن يتلقى الرصاصة الرابعة في خاصرته، ويفتح الهواء أجنحة الحجل أرشيف عودة لا لم تكن عودة، الحجل لا يهاجر ولكنه أحيانا يختبئ، صحح أيها الهواء أرشيف هبوبك، واكتب حيثيات الحجل متى يظهر متى يختفي، فالطريق جثة تراقبك، إياك والخطأ، إياك من غضب الموتى حين ينهضون، أقدام الأهالي تقطع الطريق في طوله وعرضه تبعث الحياة فيه.
كزّت الغربان على أسنانها تتساءل: كيف لميت أن يُبعث كيف لطريق أن يَحيا على وقع أقدام تناهت إلى مسامعه من بعيد، كيف لريشة سكرانة أن تحرك الهمود، هو الشمال يعبر أجواء العلا شمالستان، اجتمعت القبائل من ضفاف الجراد إلى خلجان الرماد، وأخذوا ينهشون الطريق مرة أخرى، ليكتسب مناعة فولاذية.
السنابل غذاءُ من تـَعـِبَ في السهر على براعم نباتاتها تأبى الرضوخ لبطون قناعات متطفلة تقصفها جشعاً، لتنثر حبات الحنطة في الحقول فتسقيها دموع فلاحة، لتنموا مزارع .. تؤرق صفو الرمال المُكلفة بالانتشار الأبدي، ألمٌ يدور في خلد الطريق، يجبر التراب على التخلي عن ذراته، ليفسد السماء، فتخون صفاءها، وتأتي الغيوم داكنة لا تحمل سوى مجرمين يحفرون في كل فجأة كمين كيماوي مبارك ضبط توقيته الكريم على تلاوة مباركة صار لها مرامي أبعد من الشيطان شراً، أنهكوا الطريق بسنين لم يرغب بها، وأثقلوا ظهره بقوافل لم يشأ أن تمر من فوقه، أتخموه طعناً و طمسوا وثائقه الغبارية العتيقة، فبقي في عناده الذهبي مخلصاً لمن أزال عنه حجرة عثرة، لمن زرع على جنباته شجرة توت أو ذكرى، لمن أقام عليه ماء سبيل، لمن جلس على قارعته يتجرع الانتظار حتى تمر الحبيبة من أمامه، لمن مهدوه بأغانيهم وحكاياتهم ودموعهم.
جاء الصيف مشبوها بتواطئه مع أبناء الله، جفت الينابيع، والأفاعي قبضت على رؤوس الأنهر تبث سمومها في صميم المياه، لتغور إلى أعماق أسمنتية انتصبت سدوداً للعطش، تجمع خلفها بحيرات أحقاد، تسبح فيها نوايا العداء، لتسقي الحقول ملحاً أو زقوماً، فيسري الوهن في أوردة الطريق حتى يغيب عن الوعي.. ضربوه.. سلخوه.. غلفوه.. علقوا على قميصه بطاقة تعريف تحمل اسم كائن غريب لم يكن يشبه اسمه، واعتقدوا أنه قد مات.
خرج الأهالي يحملون جثامينهم على أكتافهم، ليدفنوا طريقهم الغالي، سمع كل واحد نواحه، ونواح أترابه، ولم يجرؤ احدهم على أن يسأل من القتيل، ظلوا وجلين يسترقون النظر، فوجد كل منهم أنه المقتول، ليحفروا قبورهم في هواء مقطوع اللسان، ريثما يمر بهم فاعل خير يحمل معولاً، ليواريهم الثرى.
جاء الحجل يحفر الهواء بجناحيه ينبش ما دفن فيه المجانين من قصص عشقهم الانتحاري، عطس الهواء، فسقطت شرنقة من غصن شجرة متخيلة على قارعة الطريق، فخرج منها الأهالي يمشون إلى بيوتهم عائدين من الموت، فكانوا صفعة على وجه الجراد استرد بها الطريق وعيه، فلم يعطوه فرصة للنقاهة، تركوه عليلاً روحاً وجسداً، صعد القرويون ذرى موتهم، ليصرخوا في أذنيه: هذا طريقنا فارحل عنا لأنك مهما فعلت لن تنجح في انتزاع روحه منا، انه في ثغاء ماشيتنا وفي حفيف أوراق مزارعنا وفي هسيس مجهولنا وفي دبيب دواب أرضنا وفي ترانيم أمهاتنا وفي مهاد الرضع من مواليدنا، روح يسكن روحنا، لم يسمع الموت كلام الأهالي، فأرسل الرمال لغة للتحاور تنخر ثدي السهول العليا، لتهدر حليب الأرض حتى تكون عظام القرويين هشة قابلة للكسر أمام كل غزوة بدوية .
غاصت القرية عارية إلى قاع بحر جريح تجمع صبرها ملحا يحفظ أوجاعها من التفسخ، أطلق البحر زفرة معقدة بصعوبة، كاشفاً ظهر أمواجه للريح، لتثير رائحة شواء منبعثة من قلب كمولا، التي لم يفهمها أحد، ما كانت لعوب ولا داعرة بل أوجدها الرب على طبيعتها أنثى مهتاجة لا تشبع من ممارسة أنوثتها.
لم يبقَ مفر أمام القرويين سوى رماد الندم في مواقدهم ينفخون في أحلامهم أملاً خافتاً من نجم بعيد أدمن التلاشي يسطع بلا ملامح، نظر الناس إلى السماء العالية فلم تتسع حدقات أعينهم الغائرة لجرح كمولا الذي أصاب الجميع، ولم يعترف به أحد، فاشتدت أوجاعهم في حياتها ومماتها، ليسافروا منهكين إلى دواخلهم يحاكمون أنانيتهم المخجلة، فما وجدوا سبيلاً يمر بديارهم إلى السماء، ندموا دائماً في الوقت الضائع، فأكثروا من الفرائض ومن دفع الضرائب ونذر النذور وزيارة القبور متطلعين إلى طريق يشق أرواحهم يقودهم إلى الشفاء.
عاب عليهم الآخرون إصرارهم على البحث عن أصدقاء في الأعالي وليس في زوادتهم غير تين مجفف وكسرات خبز ولحم مقدد، لا يحرسهم غير طيور القبج، عابهم الآخرون على ما في أياديهم من أسباب البقاء ليطفئوا في قلوبهم ما بقي في حوزتهم من نبضات خضراء صنعوا بها ملاحم.. أبطال متهوّرون.. شغوفون بالموت والرقص وعشق النساء، يغضبون تغلق مداركهم، ليقتحموا المصاعب هواية، فتعود شرايين المسافة المحترقة في خلجات نسائهم عشقا وعبقاً يتدفق في الطريق فتكون قيامته، لم يتعافَ الطريق تماماً من آلام الصليب، لكثرة جلاديه الذين لم ينتظروا أدوارهم بل تكالبوا عليه ليدقوا مساميرهم في روح الأهالي وفي جسده.
كم عشاء أخير أعد للطريق.. كم نظرة غدر اشتهت دم خرافه.. كم مرة وضعوه على صليب.. كم مرة أنزلهُ حوارييهُ بكاءً.. كم مرة شهدنا قيامته.. كم مرة عرفنا غيبته.. كم اختلفوا حول مصيره.. كم تبعثر مريدوه من بعده، ولم تكن ثمة نهضة ترسم دموع العذارى، لم ينحت أحدهم آلامه على صوان الضمائر، هذا الطريق يتيم الأبوين، نبي أوحى إلى ذاته تعاليم العلا، فما باركته الآلهة، ولا رحبت أرضٌ به، وما تبعته غير أمة مجنونة ترقص في موتها، فتثير حفيظة الآخرين على استهتارها بالحياة.
الطريق محموم بالنار جسده يشتعل، تختلط عليه الأمور، يهلوس بأشياء لا يجوز البوح بها، أسرار شخصية من الخطر أن يسمعها المخبرون، بقي الطريق مغشياً عليه، يتحدث في غيبوبته عن اياش وأوسي، قطبي النميمة في القرية يرتبون الدسائس، ويشعلون الحرائق بين الأقارب، امتلك الرجلان موهبة ربانية في الإيقاع بين الأب وابنه بين الأخ وأخيه وإيقاظ الضغائن بين بيوتات القرية، ما كان يهدأ لهما بال ولا يعرفان الراحة بدون وجود مشكلة في القرية، خلقهم الله خصوماً للسلام وأعداء للوئام، عملهم هو الفساد في الأرض، يخرجان مشياً على الطريق منفردين يتفقان على ترتيب دسيسة توقع بين ألأهالي، يتقاسمان الأدوار، كل يقوم بعمله، تنفتح أسارير الرجلين، ويعودان إلى القرية لتنفيذ ما اتفقا عليه، وهما يعدان نفسيهما بمزيد من الولائم والسهرات المسلية في ليالي الشتاء الطويلة والمملة، التي لا يقدر على قتل رتابتها غير الدسائس مادة دسمة للثرثرة، يصل الاثنان إلى القرية ويفترقان لأداء المهمة، اياش يدخل بيت اوسمان ليوغر صدره على ابن عمه اسادو، وأوسي يدخل بيت اسادو ليوغر صدره على ابن عمه اوسمان، لتقع الفتنة بين القريبين من خلال كذبة أو إيقاظ خصومة قديمة أو افتعال نزاع على الأراضي أو الافتراء على امرأة، يمتلك اياش وشريكه أوسي قدرات عجيبة على تدبير المكائد والإيقاع بين الناس وإقناعهم بما يروجونه من ضغائن، خرج اياش من مجلس اوسمان وهو مطمئن على إنجازه المهمة على أكمل وجه، في الوقت الذي يكون أوسي قد أدى المهمة نفسها مع اسادو، الذي يقع مع ابن عمه في مكيدة شريرة سوف تشعل القرية كلها، يأتي الصباح وكلا القريبين يبحثان عن ذريعة لفتح مشاجرة مع الآخر، وما أكثرها من ذرائع، إذ سرعان ما تنقسم القرية إلى فريقين وتشتغل الفتنة فيسارع اياش وأوسي إلى النفخ في نيرانها، يتظاهر اياش بتعاطفه مع اوسمان ويتظاهر شريكه بالتحالف مع اسادو، ونظرا لبراعة الاثنين، يحتل كل منهما زعامة التحالف الذي انضم إليه ليتحكما بتطورات الأحداث كما يشتهيان، في النهار تتوهج القرية بالضغائن التي توشك أن تنفجر لأتفه سبب، فيستنفر الفريقان وتسود المشاحنات وتتوتر الأجواء منذرة بعواقب وخيمة ويتبادل الطرفان التهديد والوعيد وتفور الدماء، وتكتم النساء أنفاسهن متضرعات إلى الخالق أن يمضي النهار بسلام مخافة الفتنة، فيذهب ضحايا كثيرون قبل أن تتوقف، حيث لا يوجد في القرية فريق ثالث يفصل بين المتخاصمين وهذا يعني المزيد من الضحايا قتلى و جرحى، يأتي الليل لتنعقد مجالس الحرب ويتداول الفرقاء أحداث النهار الذي مضى في رصد تحركات العدو، من إشاعات عن شرائهم لأسلحة وذخائر، من ذهاب أحدهم إلى المدينة لتقديم رشوة إلى كبار المسؤولين بهدف إقناع السلطات للوقوف إلى جانبهم فيما لو وقع المحظور، فيقرر المجلس أن يتخذ نفس الإجراءات التي اتخذها العدو حتى يكون قادراً على تكسير أنفه، وكالعادة يحتل أوسي صدارة مجلس الفريق الأول ويحتل اياش صدارة مجلس الفريق الخصم، وهما ينعمان بالحفاوة والتكريم و التبجيل، وعلى شرفهما تقام الولائم وتدار فناجين القهوة وأكواب الشاي، وتطيب التعليلة، ولا ينسى صاحب الدار أن يملأ علبة سجائر حليفه بأفخر أنواع التبغ، حين يفرغ المجلس الحربي من تداول شؤونه يبدأ اللهو بلعب الورق والثرثرة الجانبية حتى ساعة متأخرة من الليل، وحين يشعر النمامان بالنعاس ينهضان وينصرفان كلا من مجلسه إلى داره، وفي عتمة الليل يلتقيان في ساحة القرية يهمس أحدهما للأخر: ها أخبرني كيف كانت سهرتك، فيجيب الآخر على أفضل ما يرام، فيقهقهان ويمضيان في طريقهما ولسان حالهما يقول لهما: بارك الله في الحماقة، اللحم كثير.. والشاي وفير.. والقهوة لا تبرد.. وعلب التبغ عامرة فماذا نريد غير ذلك ما علينا سوى أن يشعل أحدنا النار والثاني ينفخ فيها حتى تدوم هذه النعم.
تحدث الطريق في غيبوبته عن دسائس الرجلين، كيف أشعلت نزيفا بين أبناء العمومة من بيت حسوكا كيف فتحت معركة بين بيت اسادو وبيت اوسمان كادت تنتهي بمجزرة لتترك ندوباً أبدية في مخيلة القرية، أجيال وأجيال لا تستطيع التخلص من ذكراها الأليمة، جمرات حقد ظلت هامدة تحت رماد المرارة.
مشاهد إضافية، أعباء لا لزوم لها، نـَغـَصت حياة الطريق، ليمرض من جديد، عاوده الأهالي، ليرفعوا عنه بعضا من أوجاعه، يفتشون في جنباته عن أشياء غير محدودة، ويفوز الأطفال بالعثور على أوكار حشرات البلوبلو المتناثرة على تراب الطريق، حفرٌ هرمية بديعة، فوهاتها دائرية واسعة من الأعلى تضيق تدريجيا إلى الأسفل حتى القعر، لتنتهي بهوة ضيقة رفيعة تختفي فيها حشرة البلوبلو ، فرح الأطفال بالعثور على الـُحفر، التي سرعان ما تظهر وسرعان ما تختفي، ليقف امهرهم بقرب إحدى الحفر، ويجلس مقرفصاً يتفحصها ليبصق في قعرها، تشربت التربة بصاقه، فصارت مضغة عجين، رفع الطفل العجينة بعود من سيقان شجيرة قمح متيبسة، ووضع العجينة على كفه ثم فتتها، ليُخرج الحشرة منها، حتى يرضي فضول الأطفال، مع أنها ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي يفعلون فيها ذلك، ولكن هي تسلية يفرجُون بها عن كربهم، صاد الأطفال حشرات كثيرة، الأشقياء منهم سحقوا الحشرات بين أكفهم، أما الخيرون فقد ألقوا بها في الهواء لتعود وتحفر لأنفسها حفراً جديدة في مكان يتوهج بنيران خفية، ثم مضى الأولاد إلى الحقول لصيد العصافير وجمع ما علق من صوف الماشية بشجيرات الحسحسوك، ليقايضوا الصوف بالسكاكر والقضامة والعلكة، حينما يأتي الباعة الجوالون إلى القرية، أما الفتيان الأكبر سناً، فكانوا يبتعدون عمداً عن القرية مسافة أقل براءة من براءة الأصغر منهم، بحجة البحث عن اللقى الأثرية التي تـُشاهد بكثرة على التلال المتناثرة فوق السهول العليا التي لا تخلو من كنوز ثمينة تظهر على سطح الأرض حين تهطل الأمطار، لم تكن الكنوز مطلب الفتية، فقد كان كنزهم الثمين هو نجاح أحدهم في التملص من أقرانه، والانفراد بفتاة والاختباء معها خلف تلة أو في حفرة، لتبادل العناق والمداعبة، ولم يكن ذلك يحدث كثيراً، إذ قليلا ما تتجرأ فتاة على القيام بهذه المغامرة التي ستطيح برأسها، فإن لم يجد أحدهم فتاة تشاركه متعته، تكون البديلة أنثى حيوان أتان.. نعجة.. خروف.. وإذا تعذر الحصول على حيوان، لا تبقى أمامهم غير اللواطة، يتعاهد الشريكان على عدم إفشاء سرهما لأحد، ولكن بطريقة ما كان الخبر ينتشر بين الفتيان وهذا يكفي ليعيش الشريكان في رعب دائم فالجنس في مجتمع القرية أمر شنيع حتى لو كان بين الأزواج، فإذا كان خارج فراش الزوجية أو لواطة أو مع حيوان فيصبح الجنس إثم لا يغتفر، وبالنسبة لليافعين فأنه فضيحة ما بعدها فضيحة.. ضرب مبرح.. عار كبير، سوف يطارده حتى يكبر، فالويل له إن كـُشفَ سره، حتى تلوكه الألسن وتلاحقه الشبهات ويبتزه الأقران، فإما الرضوخ لمطالبهم أو إخبار ذويه بفعلته القبيحة، ويضطر إلى الرضوخ لهم، ومع ذلك فالخبر يصل إلى أسماع الأهالي، وما إن تقع مشاجرة بين صبيين حتى يُعيب أحدهم الآخر بأفعاله الجنسية، وهما يتبادلان الشتائم والمسبات، حيث يـُكنى كل صبي بلقب، يـُعرف من خلاله نوع الفعل الذي اقترفه الصبي.. زوج المعزاة.. زوج الحمارة.. زوج الخروف، أو زوج فلانة، أما إذا كانت فتاة، فتكنى باسم صاحبها.. زوجة فلان، ألقاب لا تعد ولا تحصى، مسجلة في ذاكرة الطريق.. نهارو زوج الدجاجة.. هورو زوج ديك العلو... عڤدكو زوج البقرة، اشتهر أحمدكو بين عصابة الفتية، صبيا لم يترك في القرية شيء إلا و أولج قضيبه فيه، ولكنه كان مغرما بمواقعة الطيور أكثر من أي شيء آخر، يخرج أحمدكو منفرداً في حر الظهيرة إلى البيادر الخلفية للقرية يتصيد الطيور بين الزرع ليواقعها، كانت ديكة العلو تتحمل ضربات قضيبه، فيكتب لها النجاة، أما طيور الدجاج فكانت تنزف حتى تموت، ليبادر أحمدكو إلى طمرها تحت التراب، تناقصت أعداد الدجاجات في قنن نساء القرية، فألقيت التهمة على الثعالب، إلى أن فاحت رائحة جيف الدجاجات النافقة لتجذب كلاب القرية، فراحت تنبش الأرض وتسحب الجيف إلى القرية لتتغذى بها، انتشرت الروائح الكريهة بين المنازل، مما أثار انتباه النساء إلى جيف الدجاج، فعرفن أن الدجاج ينفق بفعل فاعل، ولم يعرفن من له مصلحة بقتل الدجاج، وديعة لا تؤذي أحداً، تـُقدم اللحم والبيض غداء رئيساً لأولادهن، فمن ذا الذي يرتكب هذه الجريمة. استحق الأمر المراقبة والحراسة، خاف أحمدكو أن ينكشف أمره فكف مؤقتاً عن ملاحقة الطيور ريثما تهدأ ثائرة النساء، لكن من أين له تحمل ذاك الحمار المهتاج شبقاً في غريزته، استيقظ صباحاً فأحس بثقل قضيبه المنتصب وقد احتقنت فيه الدماء عذاباً لا يبرأ، حاول المسكين أن يقنع قضيبه بالارتخاء فأبى وازداد انتصاباً، سكب أحمدكو ماء بارداً عليه، ذهب وتبول ولكن عبثاً عاند القضيب صاحبه، فاضطر إلى الخروج من المنزل ليمارس الاستمناء في الخلاء، يفرغ شحنة كاوية كانت تأكل من غشاء إحليله ليقذف لحما ودما، فحولة كهربائية عالية التوتر، لابد لها أن تصعق شيء ما حتى يعود التوازن إلى عقل احمدكو، الذي صادف في طريقه الأرملة حلوكي، امرأة مكتنزة بمؤخرة مدورة في عقدها الرابع، أغرت احمدكو بمضاجعتها، فاعترض طريقها في مكان متطرف من القرية، ووجهه محمر من الخجل يكاد أن ينفجر، لمحته الأرملة صاحت به: ها احمدكو ماذا تفعل هنا هل جئت تطارد العصافير..، لم يتأخر احمدكو في الرد عليها فقال لها: خالتي حلوكي أريد مضاجعتك، ضحكت الأرملة قائلة: أيها القزم أنا بعمر أمك هل كبرت هكذا حتى تعرف هذه الأشياء أيها الكر الصغير، ولكنها انتبهت أن الصبي جاد في مطلبه، فطاب لها الأمر ولبت حاجته ونبهته بأن لا يخبر أحداً بذلك وأن يأتي إليها كلما اشتهى الجماع.
ارتاح احمدكو من مطاردة الطيور، ولكن هي العادة غلبته فعاد ليمسك بالدجاج مرة ثانية وسرعان ما أمسكت به النسوة بالجرم المشهود، ليصبح فضيحة القرية، ساقوه إلى والده، فأخذ يبصق في وجهه ويشتمه كلب ابن الكلب ألم تجد غير صيصان القرية لتواقعها، ليتك نـَكحتَ أمك وما فضحتني بين الناس أيها الكلب المجروب، ما بها الحمير أنها تملأ القرية، فلماذا اخترت الطيور، أمن أجل أن تجعلني أطأطأ برأسي بين الناس، قسماً بالله سوف أجعلك عبرة للجميع، نهض الأب بعدما أشبع ابنه بالصفعات والرفسات ربطه على جذع شجرة التوت الهرمة ودهن جسده بالزيت والدبس وطلب من الأطفال أن يطوفوا من حوله ويبصقوا في وجهه، حتى توسط له أحد الرجال قائلاً للوالد: ما بك هل تريد قتل الولد إلا تتذكر حين كنت في عمره ماذا فعلت بديك العلو الذي مات تحت ضربات قضيبك هيا أطلق سراح الولد قبل أن أفضحك، أطلقَ الأب سراح ابنه محذراً إياه بأنه سوف يقتلع قضيبه من جذوره إن ماتت دجاجة أخرى في القرية، فقدَ الصبي فحولته وصار عنيناً وفي ليلة ما سلك الطريق وغادر القرية دون رجعة، وانقطعت أخباره، ليحمل الطريق غصة أخرى لا لزوم لها، فما زالت الدجاجات تنفق في قرى المنطقة.
أصيب الطريق بوساوس، ليركبه هاجس يقول له: إن عدم التناسق بين طوله وعرضه وراء كل مصائبه، فاستجمع قواه ليعدل أبعاده، صرخت أحشاؤه وجعاً، فتخلى عن المحاولة مستسلماً لمصيره، كجامع أحزان تأتيه من بشر لم يعودوا يتحملون ذواتهم.
أشكال مألوفة في خلقها، لها هيئة الحياة، رؤوس وأطراف وجذوع، تأكل وتشرب، تتنفس، تتزاوج، تنام، تـُصوت، مثل بقية أشكال الحياة في جهات غير هذه الجهة، والاختلاف الوحيد أنها تخاف من نفسها، والآخرون يرتعبون منها، لأسباب غير معلومة، كينونة عارية أوحت للعالم وجوب الارتياب من حياة البلاد العالية، من أرضها وسمائها ومزروعاتها وخلائقها ودروبها وأمكنتها وطيورها، ناسها غير ناسهم ومياهها غير مياههم ونحلها غير نحلهم وحميرها غير حميرهم وحجارتها غير حجارتهم وزمنها غير أزمنتهم... هي الرعب الذي يجب أن لا يتحرك من مكامنه.
تابع الطريق نفسه عشاً للحجل غير مبال بالعالمين، إذ يكفيه إن يصفق الحجل بجناحيه، لينعش رئتي الفضاء وينظف صدره من حشرجة سببتها له عاصفة رملية قادها الجراد.
الحجل متوقع دائما، يعود في أية لحظة، وليس في عودته مفاجئة، فما زال لديه متسع من مشاريع الغناء لم ينجزها بعد، لا بد للحجل أن يعود في كل مرة، ليوقظ الطريق من الرميم، في آخر مرة دفنوه في غفلة عنه في توقيت مستقيم بلا نهاية ليس في محطاته أجراس تنبيه أو مقاعد للاستراحة، فأر كيماوي يتلو ويأتي عكس الاتجاه يقرض المارة على الطريق، فينصب الموت عرشه في المكان يتخذه عاصمة أبدية.
فقدت القرية نعمة الرتابة فصارت أمنية عزيزة، حين أضاع الطريق فسحة استراحته، سحبوا من عنابر فراغه زمنه الاحتياطي، وما كان من الزمن الموجود بين يديه فقد اختنق تحت عجلات دوريات الدرك، فكان عليه أن ينقب عن خام الزمن في أبدان أطفال خنقهم غاز رباني حجز زمنهم في صدورهم المرصودة بالخردل، ليتابعوا مشوارهم الكيماوي في شوارع حلبجة التي خلت من الزمن، سحلوا الطريق.. جروه خارج مشيئته.. وألقوا به في مشيئة الرب ذي القرنين غفوراً رحيماً، مدفوعين بتوجسات من منعطف قد يأتي به الطريق على حين غرة، يوزع الزمن بطريقة أخرى، لينال كلُ من له رغبة في العبور حصة عادلة، كانوا يعرفون أن أبناء البلاد العالية متخمين بالعبور يتطلعون إلى عالم يتقبل استيعاب قراهم كما هي دون تعديلات أمينة، خافوا أن يلتقط الطريق حصته، فتدب الحياة فيه ليلقي عن ظهره كل ثقل غير مرغوب فيه ويتفرغ كسابق عهده صفحة يدون عليها الأطفال صرخاتهم المحبوبة التي تملأ القرى بحس الحياة.
مكان.. لا بدّ منه
تأزم المكان ومن به ومن في خارجه، الجميع يسأل: متى يقدح الفتيل ليشعلوا سجائرهم: ولم يكن إشعال السجائر أمرا هينا في تلك البلاد، فحين خطر على بال السلطان التركي تحسين صحة دولته العليلة قرر إدخال زراعة التبغ إلى البلاد ليغطي على مؤخرته المكشوفة أمام ملوك أوربا الذين أشبعوا السلطنة نكاحاً، انتشرت زراعة التبغ مثل زراعة الموت في البلاد العليا وصارت تجارة رائجة من يزرع الموت في قرية أرمنية يدخل الجنة ومن يزرع التبغ في حقله بدل القمح يدخل نعمة الثراء، مات السلطان وماتت دولته وبقيت البلاد مزروعة بعظام الأرمن وجذور التبغ، أدمن السكان أحزانهم وأدمنوا التدخين، ثم جاءت سيدة عجوز كانت حينها حسناء عاهرة، لتحل محل دولة السلطان، فأقامت مأدبة للقبائل لم يدعَ إليها أبناء البلاد العالية، ليجدوا أنفسهم ينجرفون جهات نائية أمام مسطرة كريستالية في دول مستولدة بالأنابيب، فما عاد بمقدورهم التنقل على سجيتهم، فقد شطحت المسطرة شرقا وغربا وشمالا و جنوبا، لتخط عشوائيا على جسد المكان قرارَ تمزيقه، فصارت فواصل بين الفلاح وحقله بين الأب وابنه بين أحياء القرية، حيث امتدت أسلاك شائكة، وزرعت ألغام وأقيمت نقاط حراسة وجمارك و على المعابر بين أحياء المدينة الواحدة فرضوا لغات وضرائب، وما عاد بمقدور مزارعي التبغ نقل بضاعتهم من قراهم الشمالية إلى قراهم الجنوبية، فقد صار الفلاح من عائدية دولة وحقله من عائدية دولة أخرى ولا بد من بروتوكولات للعبور، لم يقتنع الأهالي بواقع تمزيقهم بين الأنابيب فتابعوا حياتهم كما كانت دائما، يتنقلون في بلدانهم دون حواجز، حين اقتربوا من الحدود حصدتهم البنادق من كل الجهات، فتحولوا مرغمين إلى متسللين يدخلون منازلهم خفية فصاروا مهربين، وسرعان ما اكتسب الأهالي مهارة فائقة في تجارة التهريب فصاروا أسطورة على لسان الجميع، لم يكن التهريب بالنسبة لهم تهريباً بالمعنى الدارج بل رغبة في تثبيت إرادة أو إعلان تحدي أو رفض واقع مفروض على مكانهم قسرا، أراد المهربون أن يقولوا هذه بلادنا ولسوف نتجول فيها بحريتنا فهذه الأسلاك والألغام غريبة عنا و لا تعني لنا شيئاً، خريطة لم نرسمها فلن نلتزم بخطوطها ثمة خريطة تخصنا ليس فيها حقول ألغام ولا نقاط حراسة سوف نتبع خرائط قلوبنا لنؤكد لابناء سيدة القطب بأننا باقون في الوجود ولن تهزمنا خرائطكم البائسة، اشتهر بين المهربين الزعيم كاوارو بالشجاعة والجرأة والإقدام حيث امتلك قافلة من الخيول والبغال كان يـُحملها من ثدي الجبل بالشاي والتمر وينطلق بها ليلا نحو الشمال ليعبر الحدود مع رجاله الذين يتقدمهم ابن بريشاني صاحب المهارة الفائقة في كشف الألغام وإزالتها، ليفتح معبرا للقافلة فتشق طريقها وتدخل معركة حامية مع دوريات حرس الحدود التركي ويخترق رجال كاوارو بقوة الرصاص صفوف العسكر فيلوذون بالخنادق ليفسحوا طريقا للقافلة كي تمر، كانت هذه الحركة من العسكر بمثابة اتفاق ضمني بينهم وبين رجال كاوارو تنص على السماح للقافلة بالمرور مقابل ضمان حياة العسكر وحتى لا يَتهم الضباط عساكرهم بالتواطؤ مع كاوارو أو الخوف منه كان الجنود يصوبون فوهات بنادقهم نحو السماء يطلقون النار بغزارة حتى يعتقد ضابط المراقبة في مركزه المحصن أن جنوده يقاتلون المهربين بضراوة، ولكن لم تكن الأمور تجري دائماً بهذه السهولة إذ قد يصادف أن يكون رئيس الدورية غرٌ جديد لا يمتلك خبرة عن كاوارو فيقرر مواجهته ومنعه من عبور الخط، عندها يفتح باب الجحيم على نفسه وعلى جنوده ويتورط في اشتباك عنيف يجبره في النهاية على الدخول إلى الخندق والانصياع لمشيئة القافلة بعد سقوط ضحايا بين عساكره، تمر القافلة وتخرج من ساحة المعركة إلى غرة الجبل ، حيث ينتظرها أدلاء يقودونها إلى مخابئ آمنة بعيدة عن أعين الأتراك، في هذه الأثناء يلتقي كاوارو بعملائه ليبادل بضاعته بالتبغ وفي مساء اليوم التالي يُحمل القافلة بالتبغ ويتجه إلى طريق العودة ليدخل معركة أخرى مع العسكر تضمن له العبور إلى الجانب الآخر من الحدود حيث يكون ابن بريشاني قد فتح لهم معبرا وتدخل القافلة إلى ثدي الجبل وتفرغ حمولتها على وجه السرعة في منازل المدينة قبل أن تأتي دورية الجمارك وتصادر التبغ المهرب، وترتاح الخيول في إسطبل خارج المدينة، وفيما بعد يباع التبغ في الأرياف سرا، ليأتي دور إدارة الجمارك لمكافحة تجارة التبغ المهرب، والطريف في ذلك أن دوريات الجمارك نادرا ما كانت تعترض طريق كبار المهربين أما خوفا منهم وإما لتلقيهم رشاوى كبيرة منهم لذلك كانت تغطي على تواطئها مع المهربين بمداهمة القرى ومصادرة كميات تافهة من التبغ الموجودة بحوزة الأهالي للاستعمال الشخصي والحقيقة أن الجمارك لم تكن تخرج لمصادرة التبغ بل كانت تغطي على مهمتها الرئيسية المكلفة بتنفيذها وهي ترويع الناس ومضايقتهم ومراقبتهم وزيادة الضغوطات عليهم لدفعهم إلى ترك قراهم والهجرة إلى المنافي لأغراض تتعلق بالأمن القومي، كانت دوريات الجمارك تأتي تفتش البيوت وتقتحمها بالبنادق المصوبة على صدور الرجال ليرتكبوا أعمال فظيعة، فصارت كلمة الجمارك أكره كلمة في مفردات القرويين يريدون سماع أية كلمة إلا هذه ومن فرط كرههم لها ولرجالها ابتكر الأهالي اسما جديدا لدوريات الجمارك فسموها (البقرة الممحونة) كناية عن شراسة عناصر الدوريات في تعاملهم مع الناس مثل البقرة في موسم الجماع تصبح مهتاجة وعنيفة تطلب ثورا ليلاقحها حتى تهدأ، الجمارك لا تهدأ إلا بعدما تملئ القرى رعبا ومع التكرار صارت البقرة الممحونة كلمة سر بين الأهالي يطلقونها فيما بينهم للتحذير من قدوم الدورية حتى يتسنى لهم إخفاء ما بحوزتهم من التبغ قبل وصول الدورية إليهم، نظام فعال للتحذير المبكر ابتكره الناس فالكلمة شيفرة صعبة الفهم على عناصر الدورية من عدة نواح، فهي ليست بلغتهم أولا وان ترجموها حرفيا فلن تعطي أي معنى ثانيا وان بحثوا عن مغزاها فلن يجدوا شخصا واحدا يعطيهم المعنى المقصود من العبارة ثالثا، ولهذا كان رجال الدورية يصلـّون القرية ويقفون كالمساطيل وسط الأهالي الذين يصيحون بعضهم بعضا ) Çêleka bi ga hat Çêleka bi ga hat) فيبادر الأهالي إلى اخذ الحيطة، النسوة يبادرن إلى إخفاء مؤن رجالهن من التبغ في أماكن لا تطالها أيادي عناصر الدورية، ومن لا تجد وقتا، فإنها تخبِّئ التبغ بين ملابسها، أما الرجال كعادتهم يكونون في الخارج عند حيطان أحد المنازل يتسلـّون بالثرثرة وحين يلمحون سيارة الدورية يبادرون إلى التخلص من كل شيء يدل على تعاطيهم الدخان.. علب التبغ.. ورق السجائر.. قداحات.. غلايين.. عيدان التصفية، يرمون بها فوق أسطح المنازل أو حتى في الآبار أو يدسونها في جيوب الأطفال، فالدورية لا تحاسب من تضبط معه تبغاً فحسب بل كل من تجد معه أي شيء له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالتبغ، ولو تسنى لهم لفتشوا دماء الأهالي بحثا عن أثر للنيكوتين والقطران ليثبتوا عليهم جريمة تعاطي تبغ مهرب، والحمد لله أن إمكانياتهم العلمية والفنية كانت متخلفة عن مثل هذه الوسائل المتطورة وإلا لهدروا دم الأهالي بذريعة التحاليل المخبرية، تصل الدورية تفتش الرجال فلا تجد شيء تعيد فحص رائحة الدخان على شواربهم تتفحص أصابعهم فيما لو كانت مصبوغة بأثر احتراق ورق السجائر، ورئيس الدورية يكاد ينفجر غيظاً انه متأكد بأن القرية مليئة بأكياس الدخان المخزنة لمؤن الشتاء فأين هي، يبحث عن حجة حتى يُنفس عن غضبه فيستفز أحد الرجال بإهانة ما حتى يفتح مشاجرة عندها يطوقون القرية بالبنادق ويهينون الرجال بالضرب والشتائم ويقتحمون حرمة البيوت يقلبونها رأساً على عقب، أفعالهم لا تدل على أنهم يبحثون عن التبغ بل يمارسون حقدا أسود أكثر من نوايا الذين كلفوهم بالمهمة، الدورية مزودة بصلاحيات مطلقة يحق لها أن تتخذ أي إجراء وأن تتصرف كما تريد هي ليست دورية جمارك بل استلاب من نوع ما غير معروف يفرض سلطته على القرية قمعاً وقهرا ليعاملوا الأهالي معاملة أسرى. ضرب.. شتائم.. إهانات.. نتف شعيرات شوارب الرجال.. تكسير حاجات المنازل، فيخرج البعض عن طوره ويدافع عن كرامته، فيجتمع عليه عناصر الدورية وتقع اشتباكات يُهزم فيها عناصر الدورية فيأمر رئيسها بإطلاق رصاصات تحذيرية يعقبها توجيه فوهات البنادق صوب صدور رجال عزل يطلبون منهم الاستسلام أو الموت. يستسلم الرجال تـُقيد أياديهم وأرجلهم ويلقى بهم في صندوق السيارة ريثما يرحّلونهم إلى المدينة، تتابع الدورية تفتيش المنازل وسط سخرية النساء وضحكات الأطفال، الذين يظهرون مع أمهاتهم وأخواتهم وجداتهم وعماتهم استخفافهم بعناصر الدورية بهدف إغاظتهم وتحديهم وكأنهم يقولون هذه القرية متخمة بالتبغ فتعالوا وخذوه إن كنتم قادرين أيها البغال، النسوة واثقات بأنهم لو فتشوا القرية عاماً كاملاً فلن يعثروا على حفنة تبغ وهذا ما كان يضيق صدر رئيسها الذي يشبه جيفة كلب ميت انتفخ بطنه عفناً فخطر له أن يمد يده ويفتش حنوكي زوجة ابن المختار فانهالت عليه بالصفعات وطردته مع عناصره من منزلها طرد الكلاب.
بقي كاوارو ورجاله سنين عديدة يرفضون خطوط التقسيم يتنقلون بين أسفل الخط وأعاليه بطريقتهم دون استئذان من أحد، بدون جوازات سفر، بدون تأشيرات دخول بدون بوابات، وبدون حواجز جمركية، لإيمانهم بأن التنقل في باحة الدار لا يحتاج تصاريح دخول، في آخر طلعاته وكان الزمن قد بدا بالتحول دخل في معركة حامية مع العسكر التركي فأصاب العديد منهم وقتل ضابطاً كبيراً، وكان هذا يكفي لاستنفار الجيش على طرفي الحدود، ليتم إغلاقه تماماً بتشديد الحراسة وتكثيف الدوريات وزراعة المزيد من الألغام مع تكتيكات أمنية مستحدثة ومنسقة بين القائمين بالأمور على طرفي الخط، بات كاوارو مطلوباً في تركيا حياً أو ميتاً فأدرك أن زمن البطولات قد انتهى، ليترك التهريب، ولكن بقيت قصصه وأحداثه دافئة في ذاكرة المكان.
بقيت سفوح طوروس ترنو بنظرها شطر براريها شوقاً وحناناً فيسيل الجبل أدمعا تجري في نهر دارا، سمع الأتراك بحنين الجبل يتدفق إلى السهول العليا في الجنوب، فسدوا النهر بالاسمنت، تأوه الجبل فخرج من جوفه عشاق جدد فتيات وشباب أخذوا على عاتقهم تهريب قلوبهم إلى بعضهم البعض شمال الخط وجنوبه غير آبهين بالخرائط الدبلوماسية، فقد حفرت البلاد علوها خرائط على أرواحهم المشطورة بينها، فصعدوا وهبطوا يريدون أن تلتئم أرواحهم على وقع خطواتهم الواثقة وهم يرتقون الجبل شمالاً يجرفهم شوق عالي فيسكرون على إيقاع دمهم الذي أرعب الذئاب فاستعانت بالقردة قبل أن تفيض الجبال ثانية وتخرج الأمور عن السيطرة جاء القرد متحالفا مع خنزير، فأسقطوا نجما على جزيرة مهجورة أسيرا، ولكنه ظل ساطعا في منفاه يهدي حوارييه إلى دروب النجاة عشقا، فعادوا يمشون على أرواحهم يبحثون من جديد عن أشواقهم المفقودة في قلوبهم التي أدمنت الجبال حيث تعلمت هناك كيف يمكنها حماية النجوم من السقوط، لم يكن تبغ خورسي الذي يلفه الرجال سجائر يشتعل بغير قداح الحب ولم يكن يدخنه غير المكروبين ممن انشطرت نوازعهم شمالا وجنوبا، فلم يعد شيء يجمع عشقهم سوى دخان حرائق اتخذوه انتماء، وحين اكتشف الآخرون أن الدخان صار هوية اخترعوا ناراً بلا دخان، ليحرقوا المكان جثة مجهولة ملقاة على خرائط الغيب، منعوا التبغ حتى ينشغل الرجال بالتفكير فيه لينسوا مسائل أخرى ربما تكون أهم من علب التبغ المعدنية المزخرفة التي يتباهى بها الرجال ليخفوا خيباتهم الكبرى المتوالية في جيوبهم داخل تلك العلب التي يتفاخرون بها، حيث صارت أحجامها.. نوعية المعادن المصنوعة منها.. وبلد المنشأ.. جمال زخارفها.. تحدد مكانة صاحبها، علب تبقى حديث مجالسهم وسهراتهم يتداولونها فيما بينهم مواضيع للخلاف بين الرجال على علبتين أيهما الأفضل، وسرعان ما تقع مشاجرة ويتدخل البقية لفض الاشتباك وتهدئة النفوس، لتدور علب التبغ بين الرجال، يلفون سجائرهم ويدخنونها، فالدخان يهدِّئ الأعصاب ويعطي فرصة للصلح بين المتخاصمين، إذ أن أفضل ما يمكن عمله في الأجواء المتوترة هو ضيافة السجائر، كبادرة حسن نية تجاه الآخرين وإظهار مشاعر الود نحوهم، وكانت هذه العادة تدل على كرم المضيف وسخائه، علب شغلتهم حملوها دليل إدانة الآخرين لهم بارتكاب جريمة الاحتراق لم يقبلوا حتى بالاحتراق هوية للأهالي، فالاحتراق نوع من أنواع الوجود وما كان الآخرون يقبلون بالبلاد العليا وجوداً حتى لو كان في صيغة اشتعال.
كانت السآمة تعتصر نفوس القرويين ولم يكن ما يشغلهم عن حياتهم المملة سوى التجمع خلف جدران المنازل وغالباً ما يكون منزل الآغا أو المختار أو جامع القرية أو المدرسة إن وجدت، وتبدأ الجمهرة بالثرثرة لتدوم ساعات وساعات حتى يكتشفوا في النهاية أنهم يخدعون أنفسهم بثرثرة ظلت تتكرر منذ مئات السنين بدل أن تسليهم تزيدهم مللاً، فتراهم يصمتون وكل واحد منهم يفكر بوسيلة جديدة تخرجه من هذه الرتابة البليدة الكئيبة وحين لا يجدون شيئا، يشغلون أنظارهم بمراقبة مجريات الحياة اليومية في القرية، يتابعون أتفه حركة وكأنها تحدث أمامهم لأول مرة. النسوة مشغولات بأعمالهن المنزلية.. الأطفال يلعبون في ساحة القرية.. الكلاب تتوزع أحياء القرية تنبح تارة وتقلب القمامة تارة أخرى بحثاً عن عظام طازجة.. الدجاج خلف البيوت ينبش كتل البراز بمخالبها وتنقرها بمناقيرها إفطاراً شهياً، ويذهب الرجال بأنظارهم بعيدا إلى الحقول والبراري، الحمير تطارد بعضها بعضا. الأغنام في مراعيها. حتى ينتهي بهم المطاف على الطريق، أمل وحيد يمكن أن يـُكسر الرتابة، حين يأتي بطيف ما جديد ينشغل الرجال بالسؤال عن ماهيته من هو ما هو من أين يأتي أين يذهب، ولم يكن الطريق كريماً كل مرة ليأتي بشيء مسلٍّ، فإن كان خالياً تنقبض صدور الرجال ويعودون إلى خداع أنفسهم بالثرثرة القديمة، فقد ملـّوا من الصمت، كثيراً ما كانت الرتابة تدفعهم إلى المشاجرات وفي أحسن الأحوال إلى ألعاب مملة عافتها نفوسهم لعبة الكابا.. غار وقروش.. لاكا..بنافي.. فإن لم يسعفهم ذلك يذهبون إلى لعبة (النيشان) حيث يضع أحد الرجال علبة تبغه دريئة فيقوم بقية الرجال بإطلاق الرصاص عليها. طبعاً ممن يمتلكون مسدسات، كانت المسدسات أيضاً ميزة من مزايا الفخر والاعتزاز، فالرجل لا تكتمل شخصيته بدون حيازة مسدس فيثق بمسدسه أكثر من ثقته بنفسه، ولكنهم لم يستخدموها يوماً ضد عناصر دوريات الجمارك، فاقتصرت مواهبهم في استخدامها بالرمي على علب التبغ ليس لإظهار براعتهم في الرمي بل للتبختر بها أمام أهل القرية خاصة الصبايا، كانوا مستعدين لرمي خراطيش كاملة على العلب الفارغة أو على الكلاب فقط ليثيروا إعجاب فتاة ما تنظر إليهم من شرفة منزلها، فإن اشتغلت نار الغيرة والحسد كانوا يصوبون مسدساتهم على بعضهم بعضاً.
حاولت السهول أن تعود إلى سابق عهدها قبل أن يدخل السلطان زراعة التبغ إلى البلاد العليا فوجدت نفسها قد أدمنت الدخان انتماء لا مهرب منه، انتماء شاحب في صدور ملتهبة حظروا عليها السعال ليبقى القيح في عروق الرجال يفسد دمهم، وتنطفئ ذاكرة الطريق فلا يعود يطالب بملامحه الأولى الحميمة قلادة على صدر السهول التي احتضنته منذ قيامها.
زحفت السماء عالية غير مبالية بالشمس تجر خلفها رياح ملوثة برائحة خمرة مغشوشة أسكرتها، فهبت على الشمس تغازل خصلاتها الذهبية، لم تكن الشمس في مزاج جيد لتعاشر أحداً، لتوجه صفعة على وجه الريح وتهوي به أرضاً ويسقط في الأفق سراباً مترنحاً يتوعد الشمس بالانتقام من غطرستها الفجة، فأرسلت إليه الصيف تمعن في تأديبه، وبقي السراب يهلوس في صمته، حتى امتلأ الفراغ غيظاً، أتخم بطن القرية ليتثاءب الملل مكرراً تاريخ باهت بعناوين لاذعة تلوك التراب الملبد بالانتظار، تذوق المكان صلصاله القديم شرنقة طرحت هلاماً، هلام طرح قافلة تتماوج منزلقة كتلة كوكبية تزحف من جوف السراب باتجاه القرية في حركة صيفية راكدة تبعث على القشعريرة.
قافلة.. لا بدّ منها
القرية شاشة افتراضية دائرية الأبعاد مصابة بڤايروس خبيث عطل مساماتها الكهروروحية، بعد همود خلاياها لم تجد منفذا للعبور إلى ملفاتها المفتوحة على فوضى عارمة، فانتشرت أشكال مفلطحة على سطحها في استوائه البالغ، لتخرج الأشياء من صورها المألوفة مخلفة في الأجواء توترا مجردا تداخل مع إدراك مجرد، لم يفهم الأهالي ما يجري في القرية، ولكنهم أحسوه في ذواتهم ذكرى بعيدة لاحت لهم لأسباب يجهلونها، وجوه بدت مألوفة وكأنهم قد شاهدوها في مكان مضى في زمن ما، مع علمهم أنهم للمرة الأولى التي يشاهدون فيها هذه الوجوه، شحذ الرجال خواطرهم لعلّ أحدهم يتذكر موطن تلك الأحاسيس التي راودتهم دون سابق إنذار ولكن عبثاً، تـَسآل الصبي ارناويت بصيغة جواب :ماذا لو كانت هذه الأحاسيس قادمة من غد مجهول لم نصل إليه بعد أو أنه لم يصل إلينا بعد، ألا ترون الصور التي تنتابنا أنها غريبة عن الصور التي عشناها طوال حياتنا هذا لأننا لم نرها قبل الآن كونها مشاهد وجودنا الذي لم يأتِ بعد أو أنه مضى في غفلة عنا فلم نحس بقدومه ربما نحن نسير على طريق خطأ في مجهول خفي لا نعرف ماذا نريد وما يخبأ لنا على محطاته التي لم نصلها بعد، زاد كلام ارناويت الرجال اضطراباً وأثار مخاوفهم ليسود الهرج، فانبرى الملا صلاح يوبخ الصبي لأنه تحدث في أمور الغيب، مطالباً بمعاقبته على كفره، فانقسم الرجال فريقين بين الصبي والملا ونسي الجميع أمر مشاعرهم الغامضة وانشغلوا بالمهاترات، فتدخل الآغا حيث أخذ الملا جانباً ليأمره بالتراجع عن اتّهاماته بحق الصبي وإلا فسوف يطرده من القرية بعد أن يقطع لسانه. وضح الآغا للملا قائلاً: إن الصبي طفرة من المعرفة وإنه على حق وعلى ما يبدو أنه يملك علماً أفضل بكثير من علمك العقيم أيها الملا، عاد الملا إلى القوم يخبرهم بأنه أخطأ بحق صبي صغير لا يعرف ماذا يقول وإن رب العالمين لا يحاسب إنساناً غير بالغ على زلة لسان، تراجع الملا فأعطى جرأة للرجال لينضموا برأيهم إلى رأي الصبي فارتفعت من يومها مكانته بين أهل القرية حكيماً عالماً وبقي الملا في قرارة نفسه يعتبر الصبي شيطاناً جاء يقطع مورد رزقه، اصطحب الآغا الصبي بمفرده إلى مجلسه يطلب منه توضيح رأيه بإسهاب، فأجابه الصبي أن لا رأي له إنما هي رؤية بدت له أخذته إلى وجود ما قد يكون ماضياً أو قادماً ليشاهد صور جديدة للقرية ليست من الوضوح ما يكفي لوصفها إنما هي ومضات سريعة موجعة تضرب عقله وتختفي تعقبها صرخات آتية من غيب آخر تحكي عن ندم ما اقترفوه أو هم في طريقهم إلى اقترافه، انقبض صدر الأغا وقال: في نفسه أيها المسكين لقد عرفت أكثر مما يجب أن تعرف في أوان غير أوانك كان الله في عونك لأن المعرفة في قرية يصلي في مسجدها إمام منافق لا تعني سوى العذاب و المتاعب، وضع الآغا يده على كتف الصبي ينصحه بعدم البوح برؤاه لأحد.
كان الطريق يتنصت إلى حديث الآغا مع الصبي و يعيش الأجواء ذاتها من الحذر والاضطراب فلا يعرف ماذا يفعل ليعيد الأشياء إلى طبيعتها، أمعنت الشمس في تعذيب الرياح، فازدهر السراب وقت الظهيرة، وغادر الأهالي إلى منازلهم حيث لم تعد الحرارة تحتمل تاركين الطريق خارجاً وحده تحت الشمس لا يبالي بعنجهيتها البغيضة، أطبقت الظهيرة هوجاء على المكان تلهب ظهور الحيوانات وأسطح المنازل لتتقصف أعمدتها وتطقطق ألواح الخشب من فوقها، تغلغلت الحرارة تحت إبط البيوت الطينية توقد جحيماً في الأبواب و النوافذ تلفح أخشابها ومساميرها لتئنّ وجعاً، والصيف يتحرش بالأشياء و يجبرها على التذمر، شيء ما ينخر داخل مفاصل القرية التي تكاد أن تتفكك، بينما الأهالي ينعمون بظلال منازلهم خاملين خدرين ينامون فيما وراء ذواتهم هرباً من لفحات جحيم مشيد في قلوبهم المتعبة، تاركين الكلاب تتلظى في صاج ظهيرة مصهورة، لتمط ألسنتها خارج أفواهها تلعق الهواء الباقي وكأنها تحتضر.
تضامن الأطفال مع الكلاب، فبقوا بالخارج أيضاً يلعبون الغليان تحت وهج السآمة التي فارت في دواخلهم، فهربوا من ظلال منازلهم غير معنيين بالشمس وأحقادها ولا بالسماء وأنانيتها، وجوه من حبات بطاطا مشوية تحت رماد المواقد تشربت بشرتها الحنطية بسمرة متفحمة بفعل الاحتراق الإرادي تحت مظلة الرب الخفية، عيون خاوية من النظر حيث لا يوجد ما يستحق المشاهدة في القرية فراغ ممتلئ بذاته لا يشد فضول الأولاد أو يجذب عقولهم الصغيرة على تحمل الملل الذي لا يستطيعون استيعابه كشيء لا يدركون وجوده الضروري في حياتهم فيهربون إلى الشمس مفضلين الاحتراق على السآمة، أفواه مفتوحة تتحدث إلى بعضها صراخاً وتنطلق رشقات تمهيدية من الشتائم المتبادلة ينفسون بها عن غضبهم من مألوف يطوق جماجمهم جموحاً يتطلع إلى مغامرة لم يخوضوها بعد لتنقذهم من رتابة أيامهم التي لم تنفع معها تحايلهم عليها بألعاب مقرفة ضجروا منها، جربوا كل شيء فضاقوا ذرعاً من التكرار الذي لم يبارحهم ولم يبارحوه، ليخرجوا من صورهم بافتعال مشاجرات لم تعد مسلية أيضا، وفي المراعي يتلظى الرعاة في يومهم الناجر يصيحون من الضيق على أغنامهم يسوقونها من مرعى إلى مرعى وأينما ذهبوا تكون الشمس قد سبقتهم إليه، فيظلون يراوحون جيئة وذهابا، فالثبات يعني الاشتواء. تسير الماشية محمية بأصوافها يقودها مرياع يتبختر في مشيته فيترنح جرس نحاسي يتدلى من عنقه يأتي بأعذب الألحان، معزوفات ملائكية تدخل مسامع الأولاد إيقاعٌ سحري متناغم مع مشية الكباش المطلية بالسورنك، الرعاة حائرون مع الشمس التي لم يجدوا مهرباً منها، ليغرقوا في سيول من العرق تفيض من مساماتهم وحين تجف ألسنتهم يلقون بأجسادهم تحت بطون حميرهم يستظلون بظلها وهم يتكورون على أنفسهم لإنقاذ أطرافهم من لسعات الشمس والذباب، الأرض تختنق والهواء يزحف مهزوماً يدخل وهجاً إلى أنوف الرعاة ليشوي أغشيتها رعافاً ثم تتيبس وتتشقق فتدمع أعينهم حرقة وحين يصيبهم الصداع ينامون تحت بطون الحمير ولا يستيقظون إلا مع المغيب. نبهت الأجراس الأطفال الضجرين لتوقظ فيهم مجاهل أحاسيسهم رغبة في اكتشاف ما، فيهرعون إلى حميرهم يمتطون ظهورها منطلقين في سباق إمبراطوري غير متوج يطاردون براءتهم المكسورة بالعزلة، يتسابقون حتى مشارف القرية وينتهي السباق دون فوز أو خسارة إذ لم ينجح أي منهم في اللحاق بغريمه الغامض الذي يركض في روحه ويسبقه أبداً، خيبة أخرى تدفعهم إلى التجمهر على بيادر القرية بحثاً عن تسلية جديدة فإن كان حظهم طيباً يعثرون على جرديغزال يخرج من جحره في توقيت خطأ يطلب نسمة يتنفسها ليصادف الموت أمامه يأتيه على أقدام صغيرة لجيش من الأطفال الغاضبين فيركضون خلفه صائحين.. جرديغزال.. جرديغزال.. طاردوه.. أمسكوه.. يركضون حفاة على الحصى المدببة والأشواك اللاذعة والجرذ يهرب ويناور بمهارة ويراوغ وكلما أوشك أحدهم على الإمساك به يقفز قفزة رائعة ويبدل وجهته معاكساً سيره ليوقع مطارده المتحمس أرضاً من فرط سرعته وينطلق سهماً بين عشرات الأيادي والأقدام، يشق طريقاً إلى النجاة يقوده خوفه إلى انعطافات ذكية حادة تسقط الأطفال على الحصاة فتدمى أكواعهم وركبهم فيزدادون حماسة وغيظاً ويصرون على الإمساك بالطريدة مهما طالت المطاردة، حيوان منكود سيئ الحظ يهده الخوف والتعب فيفقد قدرته الرشيقة على الجري و المناورة يلجأ إلى أول جحر يصادفه وهو يعلم أنه يؤجل موته دقائق معدودة، يأتي الأولاد بالأسمال يسدون بها فوهة الجحر ثم يطوفونها بالماء ليداهم الطريدة فتخرج مترنحة فاقدة العزيمة وهي توشك على الغرق لتستقبلها العصي والحجارة فتموت قبل أن تشبع من الهواء الذي خرج من أجل تنشّقه. يتصارع الأطفال على الغنيمة أيهم أحق بها ويتفق الأقوياء منهم على اقتسامها فيما بينهم ليظهر خلاف آخر هذه المرة على تناول لحم الطريدة هل هو حلال أم حرام..؟ بعضهم يحرم وبعضهم يبيح، فقهاء الفطرة قبل أن يعرفوا الحلال والحرام اختلفوا حولهما كما تعلموا من ذويهم الذين ما عرفوا فاصلاً بين الحلال والحرام إلا إذا احتاجوا إليه في موقف ما قد يفيدهم في مسألة عارضة، انقسم الأطفال فريقين متصارعين على لحم الجرديغزال بعضهم أباح أكله وبعضهم حرمه وكانت حجة الفريق الثاني أن الطريدة من سلالة نبيلة من معشر القوارض تقترب في نسبها من قبيلة الأرانب والثعالب أما الفريق الأول فاعترض بحجة أن معشر القوارض لا توجد بينهم انساب نبيلة وتبين أن الخلاف ليس على الحلال و الحرام بل على استساغة البعض لتناول لحم الجرذ أو عدم استساغته، فالمسألة تتعلق بالاشمئزاز من تناول بعض اللحوم، وفيما هم مختلفون تسلل الكلب العجوز سوغان بين الأولاد ليخطف الجرذ من بين أياديهم ويلتهمه على الطاير لقمة سائغة دون أن يشغل باله بالحرام والحلال، فالوقت ضيق على مثل هذه المسائل التي لم تجد حلاً خلال بضعة عشر قرناً. فر الكلب بعيدا ينظر إلى الأولاد وهو يلعق شفتيه ليبين لهم أن شريعة الكلاب أكثر مرونة من شرائع البشر وأوسع تفسيراً، وضع الكلب حداً لصراع الأطفال، فأخذوا ينفضون الغبار عن ملابسهم ويتفحصون الخدوش التي أصابتهم أثناء المطاردة يزيلون الدماء عنها بقليل من بصاقهم ثم يمسحونها بأكمام قمصانهم المتسخة بعرق جباههم ثم يتفرغون للحديث عن مغامرتهم يصرخون بمليء حناجرهم عن بطولاتهم في مطاردة الجرذ والإيقاع به ثم يشبعون الكلب وصاحبه بالشتائم ويغلقون الحدث عند هذا الحد، حيث لم يبقى شيء يضيفونه إليه فيبحثون عن تسلية جديدة، بينما الشمس الخبيثة تشوي فروة رؤوسهم لتحيل سوادها إلى اصفرار محترق داكن مغبر، وتندس أشعة لئيمة في أجسادهم تقلص جلود ظهورهم و تشقق شفاههم الرقيقة فتنزف دما فيهرعون إلى الآبار يرطبون أياديهم وأرجلهم ويلعبون بالتراب فتتشقق ظواهر أكفهم وأقدامهم وتتمدد عظامهم مطقطقة بين لحومهم تحت الجلود لينفثوا لهيباً مع أنفاسهم عناصر تتفاعل بمقادير ربانية عشوائية مقتربة من خط الانفجار، أدمغتهم تنصهر في مراجل جماجمهم العنيدة بالوراثة وتتمطمط الشرايين والأوردة فيسير الدم راكداً بطيء الجريان نهر أدركته الشيخوخة لا يقوى على تدفق الشباب وتغوص مسامات بشرتهم أعماق ارتوازية في خلاياهم تلاحق قطرة عرق ترطب جلودهم المتيبسة، لتتدفق الدهون المذابة وتسيل إلى خارج أجسادهم تلطخ الأجواء برائحة محرقة قائمة، بركان في كل طفل يقذف كيانه حمماً تتلاشى صياحاً حامياً وثرثرة لا نهائية وشتائم، يحاربون الشمس يمرغون أنفها في التراب يفقدونها هيبتها ويحطمون غرورها يمسكونها من جدائلها الحارقة يروضونها شعاراً مشرقاً فوق راياتهم العالية.
أطفال باتوا جهات استثنائية في خرائط لم تـُرسم بعد، أبناء ذوي الرؤوس العنيدة يشربون الشمس تبرماً والشمس تسقيهم الحريق فيسكر المكان في جهاته الأربعة في دمه ويغني الحجل نجيعه الجميل أبداً ويسقط الأطفال في كؤوسهم اللاهبة، بعضهم يتبخر وبعضهم يهلوس أنفاساً لم يستوِ شواؤها لتملأ أرواحهم برائحة دمهم المحترق دخانه يكفي بساتين الآخرين ليحميها من الصقيع كلما جاءهم برد الشرائع رسم نصوصاً على خنجر مقدس.
تشابك الزمن تقاويم وتواقيت شعيرات كثة على مفرق المكان فأخذ أمسه بأصابعه المكسورة يمسد خصلات غده القلقة ينزع مقهوراً عن غرة خاصرته شعيرات المشيب التي غزت يقظته المصدومة بالكتمان.
سراب في مخاض استلقى على ظهره جاءه الطلق فاستعان بالأفق يمارس طقوس الولادة، انفرج رحم الأفق في عراء سريالي فانزلق منه هلام قافلة كوكبية غير مستعجلة على القدوم إلى وجود مشكوك في جودته كبضاعة بائرة، ولادة عسيرة، السراب يتلوى وجعاً من مخاضه، الضوء يغمض عينيه لا يريد أن يسمع أنيناً يخدش مسامعه المرهفة، مشهد رآه لا يحب أن يتكرر أمامه، ليلى الطفلة المرأة بنت التسع سنوات رحمها كان ضيقاً كعش إله لم يقوَ على الحمل فماتت في المخاض واختنق الجنين في عنق شهوة عابرة لزوج بغل وأب جشع ومنذ ذاك أصيب الضوء برهاب الولادة يهرب بعيداً كلما أحس بشيء من حوله على وشك الولادة.
بلغت الشمس ذروة نشوتها ارتعشت في شبق لذة قذفت نطاف الغيب قشعريرة باردة صعقت ظهور الأولاد السابحين في سيلان أبدانهم فتنادوا.. قافلة.. قافلة.. قاقـ قـ قافلة على الطريق قافلة تزحف إلى القرية، وأخيراً جاء شيء ما يفرج عن كرب الأطفال، أتاهم شبح لاح طيفه بين السراب وهو يصارع صمته المدوي ممتشقاً السكون ليثبت حقيقته الوحيدة القادرة على طرد السآمة من قلوب تفحمت في أجساد غضة تنتظر تسلية جديدة، لم يستطع الأولاد التأكد من مشاعرهم تجاه القادم الجديد، فقد علمتهم تجارب سابقة لا تحصى تحتل معظم مساحة ذاكرتهم، أن معظم الأشباح الآتية سرابا كثيرا ما تنقلب من تسلية محتملة إلى كوابيس تطبق على صدر الطريق لتقطع أنفاس ذويهم.. دوريات الجمارك.. الدرك.. الاستخبارات.. قطعان البدو .. دائرة الصحة المدرسية.. غرباء يخرجون من السراب ويصبحون سادة، ساد الهرج و المرج بين الأطفال وهم يصرخون ويتقاتلون ويتبادلون الشتائم جراء اختلافهم في تحديد هوية الشبح القادم، توقعات تتضارب أيكون شريرا أم خيرا، التبست أحاسيسهم، صرة حيرة ما عادوا يعرفون ماذا يريدون أن يكون الشبح الآتي، لم يعودوا واثقين من رغبتهم في قدومه بل تمنى بعضهم لو يعود الشبح من حيث أتى، هواجس شتى تقفز في كياناتهم تتزاحم في عقولهم، برهة يفكرون جيئة وذهابا، يصيح ديك علو على حين غرة فيجفل الأطفال وكأن الشبح أمسك كلا منهم من قفاه، ثم يستبشرون خيرا بصوت الديك كإشارة فرج، فتهدأ عقولهم وتستقر قلوبهم، القافلة تمشي الهوينى ثقة صوب القرية والأطفال يتساءلون لمن تكون القافلة.. مسافرون.. عابرو سبيل.. تجار ماشية..بدو.. عفاريت.. شياطين.. أرادوها أيّ شيء تكون إلا أن تكون قافلة مفاوز حيث تحتفظ ذاكرتهم الحاضرة بسجل سيّئ عنها، قطعان ماشية وإبل لا بداية لها ولانهاية تقضم خصلات مزروعاتهم سنابل مسلوبة، ذاكرة مشحونة بصور ذوي السيقان العارية المحترقة التي فحمتها الرمال عيدان نصف محترقة، رمل أبدي ينبض في أفئدتهم كثبان ضغينة فطرية تتخذ ما تصادفه غنيمة مشروعة، جماجم صقلتها الصحارى على إيقاع الغزو، قوالب رمادية معدة سلفا لالتهام الأخضر و اليابس يستبيحون نضارة الحقول هباء منثورا لماشيتهم الشرهة تحرسهم كلاشنكوفات مطعمة بطلقات عرقية محشوة ببارود الضغائن يمارس التمييز بين الإبل و بين السنابل تحمي الدواب و تأسر الزرع.
هذه مشكلة الأولاد مع القوافل حين تأتي من السراب تنغص عليهم عيشهم وتفسد فرحتهم بتسلية ينتظرونها، بلادة تلتهم أماني طال انتظارها نضوجاً بات على الأبواب وحين تستعد للولادة يكتسحها رمل الجماجم الرمادية وتطرحها الإبل بعراً على بيادر القرية، تجمعه إناث المغول حطباً لمواقدهن، دخانها يمعن في استفزاز الأطفال وأهاليهم، بيوت شعر قاتمة منسوجة من حسد عريق أصحابها يحاصرون القرية بحلكة سوادها تمارس كرمها المثقوب، مواقد تطير شرراً تحط على الزرع الهشيم فتغدو الحقول لهباً وسعيرا، وتحترق الأماني أبداً وتأتي دورية الدرك وتسجل الحادث قضاء وقدر، موسم الأماني احترق، القرية مكروبة مقهورة، رائحة القمح المحترق تملأ رئتي الرب دخاناً يدمع عيناه فيضع قناعا واقيا روسي الصنع ويؤكد أن الحادث قضاء وقدر ويدس رأسه تحت الغطاء ويقول في نفسه يا لفظاظة هؤلاء الجبليين يريدون أن أتهم شعبي بجريرة حقه المقدس في الغزو، حشرات القرية تكفر.. نساؤها.. طيورها.. سماؤها.. وكذلك صوفي أونس يـُكبر للصلاة كفراً، رجال حانقون يديرون ظهورهم يتخذون الشمال قبلة يصلون الغضب، ربهم يخاصمون.
الأطفال ذاكرة شقية مرهفة، تسمع و تدون، فلا يفوتها شيء، تحفظ الأشياء من الوهلة الأولى، تكتب الفواجع على قرص ذهبي غير قابل للعطب، فلا تنسى مشاكل الأهل مع المفاوز ، الشكوى محظورة، التبرم ممنوع، ذباب القوة في أوردة الصحارى يطن شريعة للغدر المبين، هياكل ملحية تصلبت بعرق الضباع تحت إبط تتري تكلست روحه مع عظامه جوعاً، فاتخذ الدنيا مرتعاً لدوابه، وقضاء حاجته الكريهة أمام نوافذ بيوت القرية، حقدٌ دفين يفوح من فتحاته العلوية والسفلية كرائحة نبوءة كاذبة، جحافل القمل تزحف خلف أذنه إلى الفتح الكبير غريزة باسلة تنطق العنف حقاً، أهلاً بالخراب.. دجاجة صائمة من يردعها عن حبات حنطة سمينة ملقية على طريقها تهيج حوصلتها فيسيل لعابها الجهادي نهماً ساحقاً ماحقاً يضمر سوءاً للسهول العليا الخصيبة، أنياب الرماد في ممالك العنكبوت تنسج حديداً حول خاصرة جهاتها النائية أقاليم حنطية تحت رحى طاحونة مذهبية تطحن عظام السنابل بتهمة الشعوبية، إقليم زنديق أقيم عليه الحد.
موقع صعب، نهاره عسير، حريق قائم، المكان يدوخ في متاهة أخطاءه السابقة، دول من دخان صيرته جهات قصية، وكان بالأمس القديم أعلى من الصيرورة، الأطفال ينطقون لهبا لا يسمعهم احد، فيحرقون أطرافهم ليسقطوا في جحيم لغة بقيت متأججة على ألسنتهم وشفاههم، حروفها ممنوعة معاجمها محظورة ، النطق بها تهمة، جهات الأعالي أقاليم مسلوقة في طنجرة مقدسة تحيل الفيل بعد طبخه إلى أرنب، نطقت القرية أوجاعها، فسموا لسانها اعوجاجاً وصار صوتها رطانة، وقف حمكو ابن الست سنوات في يومه المدرسي الأول أمام معلم متجهم الوجه تخاله ضابطاً عثمانياً يتأهب لتتريك كومة من البلقان، ليسأل الولد بلغته الإلغائية العسكرية (شو اسمك وووللللا)، صمت حمكو وهو ينظر إلى المعلم بعينين جامدتين أخافت المعلم، فكرر سؤاله، وكرر حمكو نظراته، انزعج المعلم صرخ بالولد (شــــــــو اسمــــــك يا حمار)، رد حمكو شو اسمك يا حمار، صفعه المعلم، هرب حمكو إلى باحة المدرسة يُمطر العالم بالشتائم والحجارة، جاء الأهل، استغرب المعلم سلوك الطفل، فأخبروه أنه وأقرانه ما زالوا صغاراً على فهم لغة المعلم لأنهم قبل المدرسة لا يعرفون غير لغة واحدة رضعوها مع حليب أمهاتهم هي لغة القرية التي لا تنطق بغيرها من اللغات، ازدادت عصبية المعلم وهو يضرب كفاً بكف متبرماً يقول: ومتى كان للعالم لغة غير لغتنا حتى تنطقوا بها هل جننتم هذه خيانة هذه عمالة اعتباراً من الساعة لا أريد أن أسمع في هذه القرية غير لغتي أنا داخل المدرسة أو خارجها والويل لمن يبربر بهذا الاعوجاج الذي يخدش مسامعي، قالوا له: ولكن غالبيتنا لا تجيد لغتك فإن تحدثنا بها فيما بيننا في منازلنا وأشغالنا فسوف تتعطل أعمالنا كيف نـُفهم نساءنا إذا خطر في بالنا معاشرتهن سوف تتوقف حياتنا إلا أذا وضعتَ لنا في كل بيت ترجماناً محلفاً يجيد اللغتين، أجاب المعلم بلغته العسكرية: هذه ليست مشكلتي بل مشكلتكم وعليكم تدبير أموركم فهذا أفضل لكم من تقليب القرية على رؤوسكم، كان الأهالي يدركون مصدر تهديدات المعلم المكلف أولا بمهمات أمنية ومهمة تعليمية ثانياً، ولكنهم ضحكوا عليه وهم ينصرفون إلى منازلهم يتحدثون إلى بعضهم بلغتهم صراخاً ليسمعهم المعلم جيداً، عاد المعلم إلى حمكو فقام تلاميذ الصفوف العليا بدور المترجم بينه وبين المعلم، فعلموه بأن المعلم يسأله عن اسمه أجاب حمكو بلغته هو: اسمي (كس أم المعلم) وتابع لماذا لم يسألني منذ البداية بلغتي التي أفهمها بدل كلماته الغريبة تلك قولوا له (Navê min hemko ye )، شده المعلم إلى كرسي الخيزران وانهال على باطن قدميه بالعصي يقتل براءته يحذره من نطق هذا الاعوجاج وإلا فسوف يقطع لسانه، صرخ الطفل من الوجع لم يتحمل زملاؤه المشهد تكاتفوا معاً وهجموا على المعلم ضربوه وطرحوه أرضاً، فلم يعرف كيف يهرب من القرية مذموماً مقهوراً تطارده الكلاب، تعلم حمكو بلغة المعلم وصار ضليعاً فيها ونال بها أعلى الدرجات العلمية أصبح حمكو رجلاً ولكن ما زالت قدماه البريئتان توجعانه، فلم يشعر يوماً أنه ينتمي إلى تلك اللغة التي علموه إياها بالعصي، تجربة يمر بها كل طفل في البلاد العليا حين يذهب إلى المدرسة في يومه الأول، فلا يستطيع أن يجد أية روابط بينه وبين تلك اللغة التي يفرضونها عليه بالعصي، أطفال تلك الأقاليم لغتهم لغة السنابل حتى سن السادسة بريئة تخرج من بين شفاههم وألسنتهم وحناجرهم وأسنانهم متوافقة مع حبالهم الصوتية، موسيقى تولد معهم جميلة تتغلغل في أنسجتهم وخلاياهم ونقي عظامهم يسمعونها رضعاً مع ترانيم أمهاتهم وحكايا الجدات يعيشونها في حقولهم، وفجأة تأتي المدرسة فتحيل زهرة طفولتهم كابوساً وتشعل جحيما لغويا على ألسنتهم يرافقهم إلى القبر مع هموم إضافية، تأتي المدرسة لتبني مستوطنات ثقيلة على ألسنة الأطفال لتشطرهم نصفين متناقضين.
جاءت البلاهة مدائن طارئة على البلاد العليا تمارس السيادة على زمن ليس من زمن القرية، ليقتحم السعير سكينة سنبلة على وشك الولادة، فلم يمتلك الأولاد حيلة غير مشاكستها بالحجارة ولسانهم المعوج يعترض طريق البدو، والكلاب تنبح احتجاجاً، شقت الغيمة شالها غضبا تمزّ شفتيها، والقرية ترفض أن تكون لقمة سائغة.
مشايخ شرعيتها معطوبة اتخذت نباح الكلاب ذريعة لتهاجم الأسماء وتقلب المعاني رأساً على عقب وحين لم تكتفِ اعتصرت المفاهيم فأوجدت قواميس لمدلولات قزمة، اكتسحت النخوة قلوب الأهالي لتخرج الأيادي عارية تردع أخطاء الرب بالإضراب عن الصلاة داهمهم السلاح فامتد لحم إقليمهم سياجاً مكهرباً منزوع العظام، حقول تبكي محاصيلها، غضب يستنزف دمه والسماء تنزف غبارا وغارا، والمسافة تذوب بين الغزاة والغنائم، تقشعر الأرض في بدن جكرخوين فيسبق زمانه ويغني للسنابل والفلاحين وعرق الكادحين لينمو الحلم زغباً على أجنحة أفراخ الحجل دافئة أعشاشها الآمنة بجوار قبر سيدها، كتب شعراً بلغة الحجل أصبح الشاعر ملاحقاً أمنياً متّهماً بالتواطؤ مع الحجل على محاولة الطيران جكرخوين خطر على الأمن القومي.
ليس فجأة، بل كما هو غير متوقع خارج المكان ركضت الساعة إلى الصفر لتكبر الأفراخ عقوداً وهي لم تكمل الرضاعة بعد، وتجفل مذعورة من حدس يحذرها من غيمة خردل يعقبها توارد خواطر، كوابيس مرورها لا يشبع إيغالاً في المكان تعكر صفو الأولاد، ثمة بثور متحفزة على جلود نواياهم الطيبة، عجلات حديدية تسحق برعم عندكو، دبابة كافرة تستفز الأرض فتحبل مقتاً، قطعان تطلب أشياء أبعد من الكلأ.. صاح خليلو في رجاله: ويلكم ماذا تنتظرون لقد شارفوا على بيادركم يدوسون بحوافر خيلهم بطون حقولكم ماذا تنتظرون أن يدوسوا بطونكم ويمروا إلى نسائكم من فوق خنوعكم ليناموا في فراشكم موتوا إذاً قبل أن أجد هذا المنظر والله سوف أقتل نفسي إن سمحت لهم باغتنام كلبة جرباء في هذه القرية التي تحمل اسمي، شرفكم على المحك حقولكم مستباحة فأشعلوها بيادر للاحتقان، اليوم مواسم الشرف، حمل خليلو قلوب السنين ذخيرة احتقان لقـّمَ بندقيته وخرج سداً في وجه الغزاة تبعه الرجال تخنقهم المرارة ويشعلهم الغضب شدوا الزناد فانطلقت بنادقهم بالصهيل ووقعت الواقعة ودارت رحى القبائل تطحن النجوم معركة على تخوم القناعة راسخة بأن المكان باق في اسمه مهما تعددت التسميات أو انقلبت الجهات جهة وحيدة جهة الدم والبارود طازجة في شرايين الأهالي أجيالا وأجيالاً يتوارثون الاحتقان المجيد والسنبلة نبضاتها غضب يتحدى، رد خليلو الغزاة عن تخومه وأشبعهم لغة يفهمونها ساقهم الرصاص نعاجاً شاردة إلى أطراف القمل يلعقون الهزيمة.
مشاهد لا تترك فرصة للأطفال ليرحبوا بالأطياف الغريبة القادمة من الطريق فكل ما يأتي من الجهة الخامسة مع السراب متمايلا يكون احتمال خطر.
استبشر الأولاد بصياح ذاك الديك الساهم الذي لم يصيح إلا ليثير انتباه أنثاه إلى شهوة طارئة راودته، ليترجمها الأطفال على هواهم على أنها فأل حسن، فذاك الشبح الهلامي العملاق المتهادي المترنح على الطريق ليس قافلة للبدو وهذا يكفي بالنسبة لهم، فقد اكتشفوا أن الوقت ربما يكون مبكراً على قدوم البدو فابتهجوا في رعشة زنجبيلية لاذعة سرت في كياناتهم الوجلة واستقرت في غيهب كل واحد منهم لترتفع الطمأنينة إلى أعلى درجاتها رايات مشرقة فوق بيوت طينية داكنة الاتساع.
تقيأ الطريق ثانية ليفرغ أحشائه من كل السموم التي دسوها في روحه عنوة فعادت طياته تنبض طبيعتها مع خفقات قلوب الأطفال المشغولين بطيف القافلة القادمة فإن لم تكن للبدو لمن تكون يا ترى، أخذ كل واحد يخمن والزرع متشبث بجذوره من مغبة الاقتلاع، والأهل ينعمون تحت الظل بقيلولة الظهيرة التي لا بد منها.
بقي الأطفال تحت الشمس يحرقهم الفضول ويحفزهم التوق إلى معرفة صنف الشبح القادم وحين فقدوا الصبر ذهبوا إلى خانيسوري صاحب القدرة النادرة على السمع والبصر والذاكرة الخارقة يطلبون عونه لاستطلاع الطيف القادم فخرج إلى سطح منزله وعيناه تستنطقان الطرف البعيد من الطريق عن نوايا السراب، هاجمت الشمس نظراته الثاقبة حسداً ساطعاً زاغ الكون في بصره ثقباً أسود لتعود عيناه به إلى طور الهيولى، غشاوة غلفت دواخل الأولاد خيبة، وضع خانيسوري كفه فوق جبينه يحتمي من الشمس يرد كيدها إلى نحرها وعاد يسمع نظره.. قافلة تتهادى شبح يظهر ويختفي يصغر ويكبر ينخفض ويرتفع من بين السراب هلام في الأفق، ضرب خانيسوري كفا بكف يهزأ من بلاهة الأطفال التي أنعشت روحه برائحة النعناع البري فبدا من الشرق قوس قزح ضاحك يخبر الأولاد بأن الشبح ما هو إلا قافلة غجر، ابتهج الأطفال فرحاً يرقصون فقد بدأت الإثارة توّاً فالغجر تسلية خاصة ينتظرونها منذ أمد، ارتخت جذور النبات في وادي شمبليلكا تشرب ما تبقى في سرير نهر دارا المنسوب قسرا إلى كنية الخنزير جيران السوء قتلوه مرتين، مرة ألجموا جريانه ومرة سلبوه اسمه فاضطربت ضفافه خجلاً من السهول التي وعدها بالسقاية.
شغف بهيج يسري تحت جلد السآمة، فقد شبع الأولاد من مكايدة الشمس البليدة وهي تكرر الاحتراق.
الغجر أصدقاء الداء، تسلية كونية جديدها لا ينضب، هم غير الشمس غير البدو، لا يضمرون شراً للقرية وأطفالها، الغجر احتراق خلاق طعمه دافق يأتي عبثاً ربانياً ملوناً نقياً كالخفاء يفيض رغبة محمومة في جسد من الحرمل معلق على حيطان المنازل تميمة تحفظ الديار وساكنيها من أخطار النظر.. ألوان تنمو تيهاً زئبقياً متفشياً في رميم شهوات مكلومة تنكر نفسها حرجاً لتذوي الأوجاع النبيلة في جرح كتيم يغمر سواقي نطقه عطش أبكم ترك كدماته قيحا ازرق أنهك روح جانكول بثقله فالتهب الحرمل في جسدها لذة محرمة لينبثق منه الغجر طيفا فجائيا خارج ترتيبات الوجود صدمة وحشية جاءت من قفار غير موسومة حيرة معربدة تسجل حضورها الغير متوقع في هوامش الزمان والمكان مطلق مجرد من المعاني، الغجر مفهوم بري غامض في نوازع البشر يصعد لولبياً إلى ما وراء الرميم يحجز الغيب خواء بشع، للغجر معه عداوة ميتافيزيقية وثارات سرمدية يطاردونه ليعودوا به أسيراً في نفس تخاف تذوق نبتة الكاردي مفوتة عليها فرصة التعرف على رب مشلول النظر أطرش الكلمات نبتة غير محتشمة تنتصب قضيباً لاذعاً كاوياً يغوي النساء وتشتهيه مؤخرات الرجال ويضاجعه الجميع بنظراتهم الشبقة.
تجمهر الأولاد حول خانيسوري ليتأكدوا بأن القافلة للغجر وحين فعل انطلقوا نحو الطريق يرسمون خططاً جديدة لملاقاة أصدقائهم الألداء، طرفان مشاكسان، قرنان على رأس شيطان ينطحان قدراً جمعهما على طريق واحد، الغجر في جهة والأطفال في الجهة الأخرى، وفي وسط الجهتين مخاوف متبادلة ملؤها الإثارة، لم يكن الأطفال يتحسسون من قدوم الغجر حيث تربطهم بهم وشائج عميقة، والغجر ما كانوا يجدون أنفسهم غرباء عن أبناء السهول العليا، جل ما في المسألة أن الأطفال كذويهم يمازحون الغجر مزحة ثقيلة العيار، من باب التسلية فيغضبون وتقع مشاجرة تنتهي بالتراضي ويحل الغجر ضيوفاً على القرية على الرحب و السعة.
استنفر الأطفال بانتظار لحظة وصول القافلة إلى القرية ليتشاجروا معها ترويحاً عن النفس في مغامرة غير محمودة العواقب، فالغجر رجال أشقياء ونساء شرسات يحملون غضباً أبدياً في أياديهم وعلى ألسنتهم لا يتحملون مشاكسة بعوضة لهم والأطفال متحمسون إلى هذه المشاكسة، تضعهم الرهبة بين فكي الحيرة والتردد ماذا لو سقط أحدهم بين أيدي الغجر وهو يشاكسهم سوف يمزقونه قبل أن تأتي أمه لنجدته ماذا لو تلقى ضربة دبوس في خاصرته فتسحق عظامه ماذا لو رماه غجري بضربة مقلاع تفج رأسه.. احتمالات كلها واردة تعيد الأطفال خمسة خطوات إلى الوراء ماذا لو دخل الجميع في مغامرتهم وتحرشوا بالغجر متعة لا تتوفر في القرية كل مرة، فالغجر لا يأتون كل يوم هم متعة عابرة تستحق المجازفة، يتقدم الأولاد من أجلها عشر خطوات إلى الأمام، القافلة تمشي الهوينى والأطفال تتنازعهم الأحاسيس بين إقدام وإحجام، والشمس تتصيد الفريقين بمكرها الفاقع.
هبت نسمات هواء حملت رائحة الغجر إلى خياشيم كلاب خاملة فباشرت النباح متكاسلة لتدخل على الخط منحازة إلى الأطفال تحذر النسوة من قدوم الغجر ثم لحقت بهم إلى مشارف القرية من جهة القبلة عند مدخل الطريق إليها تنتظر بدورها قدوم الغجر لتنتابها ما ينتاب الأولاد من مشاعر مضطربة فالغجر والكلاب خصوم الداء حربهم مفتوحة منذ الأزل لم تكسب الكلاب ولا معركة فيها وها هي مجبرة على خوض واحدة جديدة نتيجتها معروفة سلفاً، بدا يأس جلي في نباحها المتعسر الذي لم يثق به الأطفال حيث لم تعطهم أملاً في الاعتماد عليها في معركتهم المتوقعة مع الغجر.
ازداد السراب تموجا وتمايلا في الجهة الأخرى من الطريق، فصَيرَ القافلة شبحا عملاقاً مفلطح التكوين يترنح في سيره منزلقاً نحو كل الجهات، تارة يتبعثر وتارة يتكاثف، حركة متحولة تأتي مرعبة ترتسم في أعين الأولاد أشكال عفاريت و غيلان، وحوش وعمالقة ومجانين، تملأ أفئدتهم هلعا فتزيدهم اضطرابا حتى يكادون يجمعون على التخلي عن مغامرتهم مع الغجر والعودة إلى منازلهم سالمين، ولكن الشغف يجبرهم على البقاء، يخرج العملاق من السراب ويدخل في مرمى النظر ليحدث تأكيدا بالمشاهدة انه قافلة غجر يصيح الأطفال ذويهم في المنازل:.. غجر.. غجر.. الغجر قادمون الغجر قادمون احذروا، تسارع النسوة إلى حفظ الأشياء الثمينة في منازلهن، فالغجر يملكون خفة يد ومهارة ربانية وجرأة في سرقة ما يقع عليه أنظارهم، والسرقة لدى الغجر حق مكتسب يعترف الآخرون به فلا يخافون عقاباً والأهالي متسامحون فلا رادع لهم سوى حرص النسوة على مقتنيات منازلهن ريثما يرحل الغجر.
دارت حكايات كثيرة عن سرقات الغجر، أكثرها رعباً للأمهات هي التي تدور حول خطف الأطفال حيث الغجريات يخطفن الرضع من مهادهم، وفيما بعد يكبرون في كنفهم فلا يعرفون منبتاً غير خيمة الغجر فيكبرون على الترحال والتسول غجر أصلاء.
وصلت القافلة مشارف القرية وشقت طريقها وسط الأطفال المتحفزين وكلابهم الذين تفرقوا على جانبي الطريق يكتمون أنفاسهم، حتى عبرهم الغجر إلى البيادر دون أن يجرؤ واحد منهم على مشاكستهم، حطت القافلة رحالها وباشر الغجر برفع الأثقال عن ظهور حميرهم ونصبوا خيامهم المعدودة المنسوجة من الأسمال البالية ليستوطنوا القرية بضعة أيام، وهنا بدأ الأطفال يتحرشون بالغجر على مسافة آمنة تبيح لهم الهرب في وقت الضرورة، حرض الأطفال كلابهم لتهاجم كلاب الغجر السلوقية الرشيقة الصيادة الأكثر نبلا من كلاب القرية، ومع نباح الكلاب جفلت حجل الغجر ترنق في أقفاصها فتطاير ريشها وساد الوشي في بيادر القرية، تجاهل الغجر تحرش الصبية بهم فازدادوا جرأة وألقوا رشقة من الحجارة مترافقة مع زخات من الشتائم والأغاني المعدة سلفاً لمناكفة الغجر بغية استفزازهم، حيث لا يطيب للأولاد مقاماً ما لم يتشاجروا مع الغجر فغنوا:
qereçîno qelyano، şivanê me di wenyano، qereçiyê tu hatî çi، li gundê me ma birçî، heydê ji gundê me here ، geşt tune ye ji te re، zadê salê ne başbû، inbarê me valabûn
يكظم الغجر غيظهم، ولكن لوقت قصير ثم يخرجون عن طورهم فيهاجمون الأولاد بالعصي والدبابيس والمقاليع ويطاردونهم فيهرب الأطفال متفرقين إلى منازلهم وكلابهم تسابقهم إلى الفرار فتنطلق ريحاً.. هلعاً.. تتعثر تتدحرج تخونها قوائمها فلا تنهض فتتبول على نفسها خوفا يعيدها إلى رشدها فتنطلق سهما لتختفي بين الزرع نباحاً.. يعلن خسارة الأطفال للجولة الأولى ويعيدون الكرة بلا جدوى، فيَجدُ الغجر في مطاردتهم حتى عتبات منازلهم، فيلوذ الصبية بذويهم ويعلنون الاستسلام، في حين يرتفع صياح الغجر بالتهديد والوعيد والشكوى ومعاتبة الأهل الذين لا يردعون أولادهم عنهم قائلين: ما بكم ألستم عشائر حتى تسمحوا لأولادكم أن يفعلوا بنا هكذا هل نسيتم الأعراف والتقاليد ليس في هذه البلاد من يبخل على الغجر بالإقامة في قريتهم بضعة أيام، نحن منكم وأنتم منا إلى من نلجأ إذا ضاقت أعينكم عن فعل الخير بنا، يسمع الأهل عتاب الغجر فيردعون أطفالهم، ويعود الغجر إلى أشغالهم لينهوا نصب الخيام وتجهيز أقفاص الحجل وتوريد الحمير إلى الحياض ثم سوقها إلى المراعي.
الغجر مجتمع صغير، بضعة خيم هزيلة يقطنها بضعة ذكور وإناث وأطفال يتوزعون المهام بإحكام، الريادة تكون للإناث اللواتي يشكلن المعبر الوحيد إلى عالم أصغر من عالمهم يربطهم بالآخرين، مجتمع متجول يلتقط رزقه من مجتمعات القرى المستقرة.
الذكور يقضون جل أوقاتهم في الخيام، يصنعون الغرابيل، وبعضهم يتجولون في القرية لتركيب الأسنان الذهبية للصبايا والشباب الذين يتباهون بها في مجالسهم، أما الغجريات فيخرجن إلى المنازل يتسولن، والتسول عند الغجر عطاء وحق آخر مكتسب وواجب على الآخرين والجميع متفقون بأن تسول الغجر عطاء وليس شحادة.
تخرج الغجرية وهي تحمل على كتفها جعبة كبيرة وبيدها عصا خيزران طويلة رفيعة تهش بها الكلاب وتردع الصبية وغالباً ما تحمل على ظهرها رضيعاً، غالباً ما يكون اسمه دوقو أو لوند، يكون مشدوداً بإحكام بقماش متسخ مشبع بالعرق والغبار ورائحة الشمس، والرضيع طوال الجولة التي تدوم ساعات عديدة يبقى على ظهر الغجرية واقفاً في جرابه القماشي فاقداً للوعي أو نائماً، رأسه يتدلى من الجراب عيناه مغمضتان، دمية مشبعة بالقذارة هامدة لا شيء يدل على الحياة فيها.. نـَفسٌ مقطوع.. حركة جامدة.. جسد صغير معلق بالقماش لا يضجر لا يتعب لا يوقظه جوع ولا يقرصه عطش ولا يتألم من لسعات الشمس الحارقة التي تطارده من الصباح حتى المساء وهي تكوي دماغه الطرية فلا يسمع نباح الكلاب التي تقيم الدنيا وهي تلاحق الغجريات، مع صراخ الأطفال ينادونه: دوقو.. لوند.. دوقو.. لوند، وكأنه على ظهر كوكب آخر لا يحس بشيء، كوكب يخدر ساكنيه، دوقو في سباته الأبدي، كثيراً ما ظن الأهالي بأن الرضيع ميت أو لعبة محكمة الصنع، غلب الفضول نساء القرية فتحسسن الرضيع في غفلة عن الغجرية ليتأكدن منه إن كان آدمياً، أو كان فيه أي شكل من أشكال الحياة، فوجدنه نابضاً بالحياة، أما الدليل الظاهري على حياته، فإنه بين الحين والآخر يتبول في موضعه، ليترك قرصاً رطباً يتشربه الجراب المتسخ بالأتربة والغبار والعرق، وسرعان ما تجفف الشمس البقعة الرطبة، فتحيلها إلى لوحة تشكيلية رائعة متداخلة الخطوط والدوائر تقسيمات تكعيبية بديعة بالغة الغرائبية، تلخص معاناة مخلوق ألقي به فيما وراء عالم غريب لا يفهم لغة الرضع، شعره كث دبق مشبع بالتراب والقش، لم يعرف غسيلاً ولا مشطاً، صهرت الشمس لون بشرته فصار ذهبياً فاحماً، وجه ملائكي منتفخ الخدين براءة شفاه وردية، أنف دقيق يسيل منه المخاط يتجفف في جريانه معلقاً يتدلى على شفته العلوية لوحة أخرى مرسومة على وجه ملاك سقط من الجنة، دموع تبكي حظ صاحبها العاثر ترسمه مجرى جدولين يجريان على خدين مغبرين مرتعاً للذباب..، دخلت الغجرية أول بيت في القرية بكامل هندامها الميتافيزيقي تنادي ربة المنزل: يا أهل الدار.. أنت يا زوجة الآغا يا بنت المختار يا ربة المنزل هيا تعالي واقضي حاجتي لأمضي في سبيلي فالوقت يداهمني.
لم يكن حظ الغجريات موفقا دائما مع ربات المنازل، بعضهن بخيلات.. متعجرفات.. غليظات القلوب، وبعضهن متسامحات، كريمات، بشوشات، معطاءات، تظل الغجرية تنادي حتى تخرج ربة البيت إليها لتقول بترفع باد: هذه أنت ماذا تريدين يا مقصوفة الرقبة ألم تكوني هنا منذ أسبوعين فلماذا رجعت مبكرة، تـُظهر المرأة الكبرياء، والغجرية تقرأ دواخل السيدة صفحة مفتوحة، فالغجريات يملكن فراسة وحشية في معرفة معدن النساء تبيح لهن العزف على الوتر الذي تحبه كل امرأة حتى تكسب ودها، ممارسة جاءت بعد خبرة طويلة من تعامل الغجريات مع عشرات النساء من سيدات المنازل في اليوم الواحد.
خاطبت الغجرية ربة المنزل وقد عرفت أنها امرأة تحب التباهي فقالت: أتيتك يا ابنة الأكارم طمعاً في عطائك مثل كل مرة، تبدي المرأة ممانعة في البداية، والغجرية تتابع التملق والإطراء حتى تلين عريكة السيدة فتقبل بمنحها العطاء تأتيها بماعون من الطحين، تسألها الغجرية أن كانت تريد علكة البطم لتقايضها بماعون آخر من البرغل أو الطحين، فتوافق السيدة فتسألها الغجرية طعاماً أو شراباً، وبذلك تكسب الغجرية قلب المرأة وتنال مقابلها الكثير من العطاء، نجحت بعض الغجريات في كسب محبة وصحبة سيدات القرى من بنات البيوتات الثرية صاحبة النفوذ، فتتعاهدن على الأخوة.
من عادة الغجريات أن لا يدخلن البيوت جماعات بل مثنى أو فرادى، ليحصلن على حصة أكبر من العطاء وغالبا ما تترافق غجرية متزوجة مع واحدة عزباء، ورغم الحكايات الرهيبة عن شراسة الغجر وحدة طباعهن ومشاكلهن وقلة حيائهن، فقد اشتهرت بين الغجريات فتيات بارعات الجمال سحرن قلوب كبار رجالات قرى السهول العليا من الآغوات والمخاتير والأثرياء، فكانوا يتمنون لو لم يكونوا من أبناء الذوات والحسب، ليتسنى لهم الاقتران بتلك الحسناوات البارعات الساحرات، حيث لا تجيز الأعراف التزاوج بين أبناء العشائر وبين الغجر الذين لا أصل ولا فصل لهم.
بقيت فتنة الغجريات حديث الساعة بين الخلان كلٌ يحكي لخله عن معشوقته الغجرية، طارت شهرة عذراوات الغجر تنتشر بين أهالي القرى فصارت أسماؤهن أشهر من أسماء عذراوات القرى فمن لا يعرف.. فاتو.. هدلي.. خجو.. جموكي أما أشهرهن جمالا فكانت زينا.. زينا الغجرية zîna qereçî التي كانت تصرع أكثر الرجال وقاراً بفتنتها فتضربهم في عز كبريائهم المحشوم ليفوزوا بنظرة إلى محياها، حيث لم تنجب البلاد العليا مثيلاً لجمالها البهي، صادقت زينا زوجة كبير القرية هايدار، فأكرمتها وأجزلت لها العطاء، فقد كانت امرأة كريمة وعطوفة، طيبة القلب تعلقت بزينة الغجرية واتّخذتها أختا لها، فكلما جاءت زينا إلى القرية استقبلتها زوجة هايدار بالحفاوة و التكريم واستضافتها عندها، تكفيها مشقة التجوال بين بيوت القرية لتعطيها أضعاف ما تجمعه من قرية كاملة، فترتاح زينا عند صديقتها، تغتسل وتتناول طعاماً، توطدت الصداقة بين السيدة والغجرية حتى رفعت الكلفة بين المرأتين، فأخذت زينا تتصرف بحرية في بيت سيدتها، حتى لمحها زوج السيدة، فسلبته لبه من النظرة الأولى، بهاءٌ لا يوصف، بقي روحه معلق بها منذ تلك اللحظة، فلم تغب عن باله ولم تغادر خلجات قلبه، لتستوطن كيانه وتدق بجمالها وتداً في أعماقه لا يمكن انتزاعه، لم تملك زينا من سمات الغجر سوى اسمهم فقد كانت حسناء ذات وقار وبهاء وكبرياء خفي تحت أسمال الغجر، خطر على ذهن هايدار أن يقترن بها وسرعان ما تذكر أنه سيد القرية ابن الحسب والنسب وليس من مقامه أن يتزوج بغجرية، فانشطر قلبه، وقد أدرك صعوبة اقترانه بجارية غجرية فأصابه حزن عميق اشتد عليه، فتحول مع الزمن إلى كآبة قاهرة وأصبحت زينا جرحاً مفقوداً في كيانه لينزف جسده أوجاعاً لم يعد يحتملها.
أقام الغجر عدة أيام في القرية ثم ارتحلوا كعادتهم حيث لا تطيب لهم الإقامة في مكان ما إلا سويعات أو أيام، سعادتهم هي الترحال يدورون في البلاد طولاً وعرضاً وحين تصل الرحلة إلى نهايتها يعود الغجر من حيث جاؤوا حركة دورية لا تنتهي ذهاب وإياب، يمرون في نفس القرى التي مروا بها سابقاً ويقيمون في نفس القرى التي يتوقفون بها عادة رحلة في ذاتها غايتها الترحال إذ ليس للغجر موطن يسكنونه أو منبت يشتاقون إليه، البلاد كلها مسقط رأسهم.
رحل الغجر عن قرية السيد، وطالت غيبتهم فاستبدّ الشوق بهايدار، ليسقط صريع المرض فاعتزل الناس وأغلق على نفسه باب المضافة لا يغادرها إلا لحاجة ماسة وهو يفكر بزينا ليل نهار، دون أن يجد حلاً، ليكتشف بعد عشر سنوات من زواجه من ابنة عمه التي أنجبت له ثلاثة أطفال بأنه لا يكن لها أية مشاعر لا حب ولا كره امرأة اكتشف أنه لا يعرفها فاعتزلها دون إرادته، انتبهت الزوجة أن أحوال زوجها ليست على ما يرام فقد تغير سلوكه نحوها تماماً وأنه يسير من سيئ إلى أسوأ وقد عرفت ببصيرة المرأة أن علة زوجها ليست في جسده بل في مكان آخر منه غير ظاهر، ارتعبت الزوجة من أعمال السحر والجان وعيون الحساد فراحت إلى حكيمة القرية العجوز متكي ذي الموهبة الشيطانية في معرفة علوم الغيب وغوامض الأشياء تشرح لها حال زوجها، سرقت العجوز من الزوجة خواطرها ومخاوفها التي لم تظهرها، لتقرأ بفطرتها البرية دواخل الزوجة فقالت: يا ابنتي زوجك عاشق محتار يوجعه الحب حيث تعترضه على طريق المحبوبة عقبة لا يستطيع إزالتها، غضبت السيدة قائلة: من التي في القرية بجمالي وأصلي ونسبي حتى تسرق قلب زوجي مني؟ من هي التي فـَضَلها الآغا علي بجمالها ووجاهتها أنا ابنة عمه قبل أن أكون زوجته من لحمه ودمه فكيف يفعل بي ذلك..؟ قالت العجوز: المحبوبة ليست من قريتنا وربما ليست من القرى المجاورة، قد تكون أبعد حتى من المدن التي نعرفها من حولنا قد... سكتت العجوز ولم تكمل حديثها فسألت السيدة: قد ماذا..؟ أيتها العجوز أكملي كلامك..؟ أجابت العجوز: الله اعلم، ثم قالت: في نفسها قد تكون المحبوبة زينا الغجرية.. توسلت إليها السيدة تسألها نصحاً فأشارت إليها العجوز بالسحر وشيوخ الطريقة، خرجت السيدة متوترة إلى بيتها لتقتحم خلوة زوجها وهي تكظم غيظها فأخذت تلاطفه وتتودد إليه فما حركت شعيرة في كيانه لتغادر مجلسه غاضبة فقد تيقنت من كلام العجوز متكي.
لم يتحمل الزوج غياب زينا عن القرية، فركب سيارته ليخبر زوجته أنه ذاهب إلى العاصمة في أمر يهمه، وغادر القرية متنكرا في ملابس تاجر محلي، واخذ يجوب قرى المنطقة يدور في الطرقات يسأل القوافل والمسافرين والرعاة عن قافلة للغجر حتى عثر عليها في إحدى القرى بعد عدة أيام، فتظاهر بان سيارته قد تعطلت قرب مخيم الغجر، ليجد ذريعة يدخل بها بينهم يطلب جرعة ماء لعله يلمح طيف زينا ويفوز بنظرة إليها، تقدم هايدار من القوم مناديا: هيه يا جماعة ألا نجد عندكم جرعة ماء، لم يعهد الغجر أن يطلب أحدٌ منهم شيئاً فهم بالعادة من يطلبون فاستغربوا طلب السيد الذي فضل الوقوف عندهم بدل الوقوف عند أحد بيوت القرية، فسألوه من أين أتيت إلينا هل أنت غريب عن هذه النواحي نحن لا نملك مضافة حتى نستقبلك اذهب إلى مضافة سيد القرية حتى يقوم بواجب ضيافتك، أجاب هايدار أنا عابر سبيل مستعجل في أمري لا وقت لدي للجلوس في المضافات أريد أن أشرب جرعة ماء ثم أنصرف، ولسوف أكرمكم مقابلها، حين سمعوا كلامه عن الكرم دعوه إلى الجلوس فدخل إحدى خيمهم متردداً محرجاً وكأنه يرتكب فعلاً شائناً، فالرجل مشهور في المنطقة والناس يعرفونه، ماذا يكون موقفه لو لمحه أحدهم جالساً في خيمة الغجر هذا لا يليق بمقامه الرفيع، ولكن هو الحب يسرق العقول قبل القلوب لا يعرف العيب، وكرمى لعيني زينا يهون كل شيء أمام هايدار الذي دخل و جلس وعيناه تمسحان وجوه الغجريات اللواتي يلمحهن، حتى أشرق نور زينا فتلعثمت دقات قلبه وفاض روحه وصاح دون علمه... ها زينا كيف حالك.. عـَرفته زينا أنه السيد زوج صديقتها، جاءت إليه مرحبة ودون أن يطيل همس في أذنها بأنه قطع كل تلك المسافة من أجل أن يتحدث إليها... هبط قلب زينا إلى ركبها فقد عرفت ماذا يمكن أن يقول لها سيد شريف قطع مسافة طويلة بحثاً عنها، فقالت مرتبكة: عبدة ذليلة ماذا تطلب منها يا سيدي لماذا لا ترحل إلى أهلك قبل أن يفتضح أمرك وينكشف سرك سوف لن يرحمك قومي الغجر فتصبح أضحوكة بين أهالي قرى المنطقة، ولكن هايدار أصر في طلبه مؤكداً رغبته في لقائها بضعة دقائق، رضخت زينا لطلبه فواعدته على التلاقي ليلاً خلف خيام قومها بين الزرع، خرج هايدار وتابع طريقه ثم عاد ليلاً في الموعد المحدد ليخبر زينا بعشقه لها وأنه لا يريد منها متعة عابرة أو قضاء نزوة بل يريدها زوجة فإن وافقت فسوف يهرب معها إلى بلد بعيد فلا يعرفهم فيه أحد ليعيشا حياتهما سعداء بالحب، رفضت زينا طلب السيد إخلاصاً لصديقتها ونصحته بالعودة إليها فهي أروع منها جمالاً وأرفع مقاماً وأشرف نسباً، حاول هايدار إقناع الغجرية بدون جدوى وسرعان ما ودعته متهربة من إلحاحه، ورجعت إلى قومها بقلب كسير، ظلت تفكر طوال الليل تسأل النجوم لماذا وهبها الله كل هذه الفتنة التي لا تستحقها كغجرية كانت عدالته تقتضي أن يخلقها سيدة حرة طالما قد وهبها كل هذا الجمال، انزعجت زينا من أصناف العدالة كلها، وفي الصباح رفضت الخروج إلى المنازل للتسول مع قريناتها من الغجريات، فقد أيقظ كلام السيد روحاً أخرى في كيانها، فشعرت لأول مرة أن لها وجودها الخاص خارج كيان مجتمعها الصغير المثقوب بألف ثقب بل رأت أنها أرفع قيمة من أهلها وناسها فقررت التمرد عليهم، اجتمع عليها الأهل لإقناعها بالذهاب إلى العمل، لكنها رفضت بعناد هددوها وبخوها ضربوها ولم يفلحوا معها، قناعة نزلت في نفسها فلن تحيد عنها، وهي تقول لنفسها لو لم أكن غجرية لطاردني ألف سيد مثل هايدار وركعوا أمام قدمي يطلبون الزواج مني تباً لي تباً للغجر تباً لهذه العدالة المعوجة، وحين أدرك الأهل أن الشيطان ركب رأسها، قاموا بربطها وأعطوها مهلة حتى المساء فإن لم تعد إلى التسول يقتلونها ويرحلون، خافت الأم على ابنتها، فالغجر يفعلون ما هو أفظع من الذبح، فقامت بغفلة عن القوم بفك قيودها واستعجلتها الفرار، خرجت زينا إلى البراري تهيم على وجهها متجنبة السير على الطرقات تلوذ بالليل ستاراً من ذويها الذين خرجوا لمطاردتها، جنّ الليل حالكاً وزينا في العراء ترتعد خوفاً فإن نجت من قبضة ذويها هل تنجو من مخاطر العراء. فكرت أن تلوذ بإحدى القرى، فجالت بنظرها في كل الجهات، لم تجد بصيص نور يهديها إلى الأمان، فغرقت في دموعها حالكة المرارة وهي لا تدري أنها دخلت سهل اليكمرا الذي يتجنب الناس دخوله في واضحة النهار، بقعة مهجورة قفر خالٍ مرتع خصب للجان والعفاريت طالما تحدث عنها حسنكا الشجاع متباهياً فهو الوحيد من أهالي قرى المنطقة من تجرأ ودخل سهل اليكمرا، كان حسنكا صاحب أكبر قطيع ماشية في المنطقة ولم تكن المراعي المتوفرة تكفي لرعي قطعانه فخطر بذهنه أن يقود أغنامه إلى سهل اليكمرا حيث المراعي الخصبة والعشب الوفير لعلمه أن الرعاة يتجنبون رعي قطعانهم في تلك الجهة خوفاً من الجان لتبقى المراعي هناك على حالها لم تهتك قطعان الأهالي عذريتها، سوى بضعة حيوانات سائبة أو برية ترعى فيها هنا و هناك، ساق حسنكا قطيعه ليلاً وعبر إلى عمق السهل المسحور ليجدَ ما توقعه من أعشاب وحشائش كثة تملأ الجوار عبقاً وعطراً وليس هناك ما يعكر الأجواء غير سكينة محيرة حيث لم يسمع حتى صرير الجنادب، قال حسنكا في نفسه هذا عز الطلب ليس هناك رعاة ينافسونني على المرعى وليس هناك لصوص يترصدون أغنامي وليس هناك ذئاب تتأهب للانقضاض عليها، بحر من الخضرة و السكينة ملكي أنا وحدي ليس هناك ما يثير القلق سأترك أغنامي ترعى على سجيتها وأتمدد مرتاحا أتنسم هذا العطور الخلابة، لف حسنكا جسده بفروته واستلقى على العشب الوثير ليسكر في سحر المكان فغلبه النعاس، وبعد حين استيقظ على صوت الزغاريد والطبول والمزامير وكأن هناك عرساً كبيراً في الجوار قائماً في هذا الخلاء الفسيح، اعتقد حسنكا أنه يحلم فلم يكلف نفسه بفتح عينيه ليستطلع الأمر وعاد إلى غفوته اللذيذة، فعاد الصخب أكثر وضوحاً في مسامعه، استغرب قليلاً وبدأ يشك في الأمر هل هو نائم أم يقظ فإن كان يقظاً من أين تأتيه هذه الجلبة إذ ليس ثمة قرية في الجوار حتى يسمع منها ضجيج الأعراس ثم إنّ الوقت ليس وقت إقامة الأعراس في القرى فقد دخل الليل في الهزيع الأخير حيث الناس نيام، فقال لنفسه يبدو أنني نائم وما أسمعه ما هو سوى أضغاث أحلام ربما لأن المكان الذي أنا فيه بسحره الخلاب أسكرني فبدأت أحلم بالجنة، تجاهل الأمر على أنه مجرد أوهام، الماشية ترعى من حوله في حبور وفرسه أمام رأسه يصارع النعاس، وقريباً منه يقف كلبه الذي برك على مؤخرته متحفزاً متسمراً بمكانه لا يأتي بحركة، قال حسنكا لو أن ما أسمعه حقيقة لنبح الكلب، فسأل كلبه بتكاسل أليس كذلك يا صديقي وقبل أن يسمع الجواب غلبه النعاس ثانية، فاقتربت الطبول والمزامير من مسامعه أكثر وأكثر بل أخذت تدق فوق رأسه، لكزته العروس بقدميها تناديه.. هيه أنت أيها الإنسي ما بك تتجاهل عرسنا هل أنت أطرش أم أبكم هيا انهض وشاركنا أفراحنا هل أنت نائم في أذن ثور فلا تسمع صخبنا لقد أقمنا الدنيا ولم نقعدها وأنت ما زلت تشخر انهض أيها الإنسي وشاركنا فنحن نرحب بك بيننا هيا هيا إلى الحفل، نهض حسنكا وبقي مصراً على أنه يتوهم السمع والبصر إلى أن لاحظ كلبه كيف يرتجف هلعاً، فقال لنفسه: إذا كنت أتوهم فما به الكلب يرتعد وقد عرفته طوال عمري كلباً مغواراً لا يخاف اللصوص ولا يكترث بالذئاب وما إن يلمح طيفاً بعيداً أو يشم رائحة غرباء حتى ينبح لينبهني وسرعان ما يهاجم الدخلاء، ما به متسمر حائر خائف ماذا يرى ولماذا يخاف من الشيء الذي يراه، حينها أدرك حسنكا أنه قد دخل قرية الجان فسأل العروس دون وجل هل أنت من الجنيات، فأجابت ماذا تتوقع، عندها عرفها من ردها ماذا تكون، حافظ على رباطة جأشه، سألها هل أنت العروس، فقالت: نعم، باركها حسنكا وتمنى لها السعادة و الهناء، كان حسنكا قد سمع سابقاً من حكماء القرية نصيحة تقول إذا صادف أحدكم جنية فلا يخاف ولا يرتعد وليحافظ على رباطة جأشه فالجنيات لا يحببن الرجل الجبان، وقد عمل الرجل بنصيحة الأجداد لتخبره الجنية أنها لا تريد له شراً بل جاءت تدعوه إلى حفل زفافها، ليرافق جماعة الجن إلى الاحتفال يشاركهم أفراحهم، فلم يسمحوا له بالانصراف حتى بزوغ الفجر، عاد بعدها إلى القرية حيث شبعت أغنامه لتدر الحليب أضعافاً مضاعفة، وحده الكلب أصابه الصرع فما عاد قادراً على الحركة ربما لأنه لم يسمع بنصيحة حكماء القرية، فيما بعد تصادق حسنكا مع الجنيات فأخذ كل ليلة يسوق قطيعه إلى سهل اليكمرا لترعى وليتسلى هو مع الجنيات، حدث ذات مرة أن ذئباً خطف رضيع جنية تستحم في بركة ماء وقد تركت رضيعها على العشب نائماً فأخذت تصيح وتولول.. الذئب أخذ رضيعي الذئب أخذ رضيعي. يقال إن الإنس أمهر من الجن في مقارعة الذئاب، ما إن سمع حسنكا صراخ الجنية حتى قفز على حصانه يطارد الذئب حتى لحق به فرماه بسهم نافذ صرعه وأنقذ الرضيع من براثنه، وعاد به إلى أمه فوجدها عارية من ثيابها فاشتهى جسدها من اللمحة الأولى، لم تعرف الجنية كيف ترد الجميل إلى حسنكا ولكنها بفراسة الجن عرفت أن الرجل يشتهيها فدعته إلى مواقعتها، تردد حسنكا لكن سحرها غلب عقله، أغراه الجسد العاري فضاجعها ليجد لذة لم يجدها في أية امرأة من الإنس، حيث له في القرية خليلات كثر غير زوجته، أخذت الجنية عقله فصارت تواعده كل ليلة حتى شاع أمرهما بين الجان ووصل الخبر إلى زوجها وكان جنيّاً شريراً، شيطانياً، قرر الانتقام من حسنكا بالنيل من زوجته ومضاجعتها، خرج الجني إلى قرية حسنكا، دخل بيته واندس في فراش زوجته فظنت أنّ زوجها على غير عادته قد أبكر بالعودة من المراعي، سألته عجباً رجعت الليلة مبكراً يا حسنكا لم يجبها الجني بل مد يده إلى جسدها فأيقظ غرائزها وضاجعها ثم كشف لها حقيقته فصارت المرأة جثة هامدة وعاد الجني يخبر حسنكا ما فعل بزوجته، فصارت عداوة بين الرجلين، حيث أقسم حسنكا أنه لن يغادر سهل اليكمرا إلا بعد الثأر من الجني الذي أدرك أن حسنكا يريد قتله فغاب عن ناظريه، وكلما أراد الكيد له يظهر أمامه من بعيد وحين يحاول حسنكا مهاجمته يختفي برقاً، فبقي حسنكا طوال عمره هناك يبحث عن فرصة للنيل من الجني دون طائل، ومات دون أن يدرك ثأره، من وقتها حـَرّم أهالي قرى المنطقة على أنفسهم الاقتراب من سهل اليكمرا .
دخلت زينا قرية الجان دون أن تدري و جلست تبكي هلعاً و جوعاً، فتاة أتعبها الضياع وسط غلاف لا نهائي من عتمة صماء، تكورت زينا على نفسها تقلص جسدها لتخبئ نفسها من مخاوفها، تجمهر حولها الجان متفرجين يتهامسون فيما بينهم، فأحست بعيون ترمقها في الظلام وقد سمعت همهمة من حولها أحست بأشياء تحدث في الخفاء دون أن تجد شيئاً، زحفت زينا على الحشائش تتلمس طريقها تفكر بالهرب ولكنها شعرت بأن ما تهرب منه يتابعها خطوة بخطوة وكأنه يسير معها فاستجمعت ما بقي لديها من شجاعة لتنادي المجهول المحيط بها مرتبكة، أنت يا من تكون أتوسل إليك أن تخلصني من عذابي فإن كنت خيرا تعال ودلني على قرية أرتاح فيها وإن كنت شراً فتعال واقتلني وخلصني من هذه الحياة فلم تعد لي قدرة على التحمل، سمع الجان كلامها فاختلفوا فيما بينهم، الشيطانيون منهم قالوا: سوف نظهر أمامها لتموت رعباً أو يصيبها الجنون، أما الرحمانيون منهم فقد أرادوا مساعدتها بالعثور على قرية يقودونها إليها وكانت حجتهم أنها إنسية بائسة تستحق الشفقة فلا تحتاج معاناة إضافية فوق معاناتها من معشرها البشر، ومن حسن حظها أن كبير الجان عمل برأي الرحمانيين، فظهر أمامها بمظهر أحد الرعاة وناداها: هيه من ينادي في هذا الخلاء ماذا تفعل هنا في هذه الليلة القاتمة، فرحت زينا حين سمعت صوت آدمي في ذاك القفر الموحش، فصاحت: ها أنا هنا أيها الخال أنا فتاة تائهة أدركني الليل في هذه البراري فلم أعرف طريقاً إلى قرية مجاورة أرجوك ساعدني أكاد أموت من الخوف، صاح الجني: لا تخافي يا ابنتي أنت الآن في أمان أنا قادم إليك. قاد الراعي الفتاة إلى أقرب قرية وحين بلغ مشارفها ولاحت أنوارها قال لزينا: هذه هي القرية فتابعي الطريق نحو أنوارها واطرقي باب أول بيت تصادفينه، أما أنا فسوف أعود إلى البرية فقد تركت أغنامي هناك بلا راعٍ وأخاف عليها من اللصوص والذئاب، شكرته زينا داعية له بطول البقاء وتابعت السير حتى وصلت القرية فطرقت أول باب صادفته، ولم تسمع رداً طرقت ثانية وثالثة وهي تنادي: هيه يا أهل الدار أرجوكم أنجدوني أنا فتاة يتيمة ضائعة لا أعرف أين أذهب في هذه الليلة القاتمة، حتى سمعت صوت خطوات حذرة تقترب من الباب ليسألها أحدهم من خلف الباب دون أن يفتحه: من الطارق ماذا تريد في هذا الوقت المتأخر من الليل، أجابت زينا أنا عابرة سبيل تائهة، سألها صاحب الصوت: هل تقسمين بأنك من الإنس و لست من الجن، قالت زينا: يا عماه أقسم لك على ذلك فالجان لا يحتاجون إلى طرق الأبواب حتى يدخلوا البيوت، قال الرجل نعم كيف فاتني هذا وأسرع بفتح الباب وما كاد يفعل حتى هوت زينا بين يديه فحملها الرجل إلى داخل الدار ليوقظ زوجته لتنظر في أمر فتاة مسكينة هبطت من جوف الظلام نجمة متعبة تخلت عنها السماء، توقعت الزوجة أن تكون الفتاة هاربة من أهلها جراء فعل شائن فمدت يدها إلى بطن زينا تتلمسه فيما إذا كانت حاملاً أم لا، ثم أولجت إصبعها في مهبلها لتتأكد من عذريتها اطمأنت على غشاء بكارتها، لعنت المرأة الشيطان على سوء ظنها بالفتاة البائسة فالتفتت إلى زوجها تسأله: ترى ما قصة هذه المسكينة انظر إلى وجهها كيف يتقطر حزنا وكآبة يا لها من ملاك بائس انظر إلى الحسرات والمخاوف المرسومة على محياها لا شك أنها لاقت أهوالاً كثيرة قبل أن تصل إلينا والله بدأت أشفق عليها كم تبدو منهكة فلنتركها ترتاح حتى الصباح لنعرف حكايتها.
عاد هايدار إلى قريته، توجس منه الطريق فحذر المكان، جلس في المضافة مطرق الرأس ساهماً يرسم لواعجه خطوطاً على أرضية الدار الطينية يمرر أفكاره عبر أصابعه يبحث عن حل في الطين الندي المرشوش بالماء ينظر في المربعات التي رسمها ليعرف في أيّ منها أضاع عقله حين عشق زينا، فلم يجد غير الحيرة و الكآبة مربعات جليد تحتل كيانه في ذروة صيف حارق، نهض سائراً إلى النافذة يتأمل الحقول الناضجة المعدة للحصاد التي ستزيده جاها و ثراء، فلم تسر خاطره بل خطر له أن يشعل النار في داره وأرضه وزرعه، تمنى لو تباد القرية و العشيرة قرباناً لزينا التي لا يحرمه منها سوى هذه الأشياء التي يتمناها الجميع عزة وجاها، بصق هايدار على الزرع والعشيرة والقرية ثم أخرج من جيبه حزمة أوراق نقدية كبيرة وأشعل فيها النيران وهو يقول لها: ما نفعك إذا كنت عاجزة عن تحقيق أمنيتي في الفوز بقلب زينا بل أنت العائق الأول والأخير أمام حلمي في الزواج منها اذهبي إلى الجحيم إذاً. ماذا أفعل بك ما دمت غير قادرة على تحقيق مرادي أنا تعيس ولست بقادر على إدخال البهجة إلى قلبي. فاحت رائحة الحريق في الدار ركضت الزوجة إلى المضافة وكانت متأخرة فقد وجدت حزمة النقود متفحمة ولكنها لم تتحسر عليها بقدر تحسرها على زوجها سيد القرية الذي بات غريب الأطوار كيف هوى به الحب مراهقاً غاضباً نسي واجباته تجاه قومه فصار موضع سخرية الناس حيث كثر حوله اللمز والغمز، تقدمت الزوجة من زوجها معاتبة ناصحة تسأله: ما بك أيها الرجل تعتزل قومك وتهجر أهل بيتك ماذا حل بك تملأ القرية حزناً ويأساً وكآبة لماذا تبقى صامتاً أخبرني بمصيبتك أنا زوجتك وابنة عمك وموطن أسرارك علني أساعدك.. أجابها بنبرة حازمة غاضبة وحزينة: احذري يا امرأة لا تتخطي حدودك أنا من يساعد الناس لا أحتاج من يساعدني لا أحتاج عقل الدجاجة في رأسك الكبير المليء بالتبن ليقدم لي النصائح مشكلتي بيني وبين نفسي لا أنت ولا العشيرة قادرون على مساعدتي اذهبي عني هذه الساعة فأنا لا أطيق نفسي حتى أطيقك، سألته الزوجة: لماذا أحرقت النقود فأجابها: أفكر في إحراق القرية والمحصول ولا يردعني غير شيء واحد هم الفلاحون الفقراء الذين أخاف أن يجوعوا مع عائلاتهم. قالت: أنت غاضب إذاً، أجابها غاية الغضب غضب من الرب ومن الأرض والعشب ومني ومنك ومن الحياة، خرجت السيدة والخيبة تتدفق في كيانها، عرق بارد على جسدها يجرف عطرها الهندي الذي جلبه لها والدها من الحجاز في موسم الحج، امتزجت رائحة العطر برائحة العرق شمها السيد فتقززت نفسه منها وهو يتذكر عطر زينا الإلهي يملأ أنفاسه بشذى الربيع، لم تعرف زينا العطر يوماً لكنها كانت العطر كله. خرجت الزوجة إلى والدها قلقة على زوجها لتخبره بكل شيء وتحذره من هايدار الذي قد يركبه الغضب فيحرق المحصول أو حتى يحرق نفسه أجاب الأب: ابن أخي وأعرفه حمار ابن حمار حين يغضب يفعل كل شيء علينا أن نحرسه حتى لا يؤذي نفسه ولا يؤذي أهل القرية ما ذنب هؤلاء المساكين أن يخسروا محصولهم أمام نزوات زوجك الطائش أعرفه كلب ابن كلب عنيف حاد الطباع حين يهدد يفعل، القرية في خطر بل قرى المنطقة ومحاصيلها كلها في خطر علينا أن نكلف الرجال بحراسة هايدار حتى يعود إلى رشده قبل أن يرتكب حماقة.
حين تشتعل النار في هشيم الزروع تقوم القيامة في غمضة عين يكون السعير بلا بداية ولا نهاية، يمتد شاسعاً نهماً يكتسح الزرع، بدوي جائع يمد لسانه عالياً يلدغ أطراف الرب طالباً المزيد وينبثق الهواء خائناً يكوي قصبات القرية لهيباً ليزداد سعاراً، إن هي دقائق وتحول الحقول سواداً يلطخ وجه الأرض أوجاعاً تعتصر القلوب أهوالاً، تـُخيم الفجيعة على الجميع، الطريق يبكي، أما النساء فيلبسن الحداد و يلطمن خدودهن ويضربن صدورهن وينتفن شعورهن، والأطفال يصرخون، الرجال واجمون وقد اكتوت وجوههم واحترقت أطرافهم وجوه مكتوية تحاول ردع الوحش عن غلالهم عبثاً، دخان ينبعث من رماد الأماني المعقودة على الحصاد المقتول، يخنق طيور السماء ويشوي دواب الأرض.. الأفاعي تعض جسدها المشتعل والعصافير تختنق فيلقيها الوجع في النار والفراشات تتلاشى أمام لفحات الموت الكاوية التي تحاصر الغصون.. الحريق يلتهم القرية ولا يشبع ليتجه إلى القرى الأخرى، يخرج الملالي إلى أسطح مساجدهم يكبرون مبتهلين إلى الله أن يلجم النيران، فتزداد سعيراً ويستنفر الأهالي يضعون السواتر الترابية أمام الفيضان الذي يكتسح كل شيء، فلا تنفع الموانع، وتذهب جهود الناس سدى، فلا أفلحت الجرارات ولا أكياس الخيش الفارغة المبللة بالماء التي يصارع بها الأهالي السنة اللهب، طوفان جحيم يتقدم والأهالي يحاولون أن يضعوا حداً لطغيان القدر، فإن فشلوا ينتظرون الريح أن تقول كلمتها لتبدل وجهتها وتعاكس سير النيران لتوقف هذا الوحش المقدس فيعود أدراجه ويسقط في شر أعماله لينطفئ تاركاً جذوة مشتعلة في حلق كل مخلوق مر به.
جمع العم رجالات القرية في مجلسه يخبرهم بأن هايدار في مزاج سيئ للغاية وقد يدفعه ذلك إلى ارتكاب حماقة تحرق المنطقة كلها وعليهم توخي الحذر ريثما يتم الحصاد، اتفق الرجال على خفارة لحراسة المزروعات من خطر هايدار ومن النيران على مدار الساعة، شاع الهلع والرعب في نفوس الأهالي فأخذوا يستعجلون الحصاد تحسباً لأي طارئ، وصل خبر الخفارة إلى السيد فأشفق على حاله قائلاً لنفسه: هكذا يا زينا جعلتني سخرية على لسان أهل القرية فصرت حديث النساء في مجالسهن، قاتل الله جمالك وأنت بفتنتك تدفعينني إلى الجنون لم يبقَ أمام رجالي سوى وضعي في قفص كما فعلوا مع حميدي الذي أخذت كمولا عقله وأنت أخذت عقلي فماذا أفعل وليس لي سلطان على روحي التي غدرت بي والتحقت بك.
في الصباح نهضت زينا وسط ترحيب أهل البيت بها وحين غلبهم الفضول، تخلوا عن لباقة الضيافة ليسألوا ضيفتهم عن حكايتها، خافت زينا أن تخبرهم بقصتها فالناس لا يثقون بالغجرية حتى لو كانت تحتضر، راحت زينا تختلق حكاية قابلة للتصديق فقالت: أنا من قرية جبلية في أعالي الخط، يتيمة الأم أعيش مع أبي وزوجته الشريرة التي ظلت توغر صدر أبي وتحرضه علي، وكان والدي شيخ مسن طيب القلب متسامح مسالم تسيطر عليه زوجته، فغلبته على أمره وأجبرته على القبول بتزويجي من عجوز ثري فقبضت مهري، ولم يبقَ أمام أبي سوى القبول بذلك، وحين عرف بعدم رغبتي في الزواج من رجل بعمره اقترح علي الهرب إلى هذه القرى جنوب الخط لأبحث عن حظي في قرى السهول، رافقني أبي إلى خط الحدود ثم ودعني وعاد إلى الجبل، ومشيت هائمة على وجهي تقودني الدموع وكلما صادفت قرية كنت أتردد بالدخول إليها فأنا فتاة خجولة وبقيت أسير في العراء حتى داهمني الليل ليهرسني الخوف والجوع والتعب والضياع حتى صادفني أحد الرعاة فقادني إلى مشارف قريتكم وعاد إلى أغنامه وأنا جئت ألوذ بكم أطرق بابكم الكريم.
ذعر أهل البيت حين ذكرت لهم زينا الراعي الذي ساعدها، فسألها أحدهم من أية جهة دخلت القرية.. من جهة الشرق.. سرت قشعريرة في كيان جميع السامعين جعلتهم يقفزون من أماكنهم مذعورين، وقد انتصبت شعيرات أبدانهم فصاحوا معا: يا الله إنها قادمة من اليكمرا يعني أنها كانت في قرية الجان والراعي الذي دلها إلى القرية من حسن حظها جني رحماني أو ربما شبح حسنكا، يبدو أنها أطعمت مسكيناً ذات مرة ليلطف بها الله أو إن حظها الطيب لم يوقعها بيد جنية شيطانية وإلا فالله أعلم ما كان سيحدث لها، اقترب الرجل من زينا قائلاً لا تيْئسي يا ابنتي من رحمة رب العالمين الذي طالما أخرجك من قرية الجان سالمة فسوف يساعدك ويعوضك عن الظلم الذي لحق بك.
أقامت زينا بضعة أيام في الدار، حتى جاءها نداء خفي يطلب منها الرحيل للبحث عن شيء مجهول تفتقده، فاستأذنت من مضيفيها بالانصراف، عرض عليها صاحب الدار الإقامة معهم يخبرها بأنها صبية جميلة ووحيدة والسفر منفرداً غير محمود لفتاة في عمرها بل هو خطر عليها، فكرر طلبه في البقاء معهم ريثما يفرج الله كربها من حيث لا تدري، ولكن زينا أصرت على الرحيل، وهبها أهل الدار حماراً محملاً بزوادة الطريق كما زودتها ربة المنزل بجعبة من النصائح والمحاذير.. ضعي خماراً على وجهك حتى لا يطمع المسافرون بجمالك.. البسي ملابس رثة حتى لا يطمع اللصوص بك.. تظاهري بأنك امرأة كهلة بائسة حتى لا يطمع الأشرار في ملامستك وإياك إياك السفر ليلاً إذ كلما اقترب المغيب أسرعي بالذهاب إلى أقرب قرية إليك، والله إننا قلقون عليك وإذا ما ضاقت الدنيا بك عودي إلينا بابنا مفتوح أمامك دوماً.
ودعت زينا أهل البيت وانطلقت بحمارها إلى المجهول مصيرا تبكي بمرارة وهي تقول: بالأمس صادفني جني طيب فماذا يصادفني اليوم وغدا.. شيطان أم عفريت... غرقت زينا في أفكار مجردة منشغلة عن ذاتها وعن العالم تاركة الحمار يحدد وجهتها فلم تنتبه إلا وهي تجد الحمار واقفاً على حوض بئر في إحدى القرى يشرب الماء وقد شارفت الشمس على المغيب فعملت بنصيحة المرأة وأوت إلى إحدى البيوت وفي الصباح تابعت المسير، في الأيام التالية صار طريقها شفرة صدئة تمشي في روحها وهي تمشي حافية على حوافه، حيث توقف عقلها في سؤال راودها أين سأرحل إلى من وليس لي موطن ولا قرية ولا أهل إلى متى أسافر هل لرحلتي نهاية هل أستطيع اختيار هذه النهاية أم النهاية هي التي ستختارني ماذا لو حدد الحمار مصيري وأنا مسافرة إلى لا شيء، انقبضت نفسها فسألت الحمار: ترى لماذا تكون رحلتنا باهتة..؟! فأجابها الحمار: لأنها خالية من الغاية أنت تهربين ولكن لا تعرفين ممن تهربين ولا إلى أين تهربين والأسوأ انك هاربة من نفسك حينها مهما طالت رحلتك فلن تجدي مقصدك ولن تجدي الأمان في أي موضع، لم تندهش زينا من قدرة الحمار على النطق والتفكير بل أذهلها أنه عرف كيف يعيد صياغة الأسئلة التي طرحتها على نفسها، فصارت بفضله مفهومة حين ساعدها على تحديد السؤال الذي يقلقها أكثر ذاك السؤال الذي لم تعرف كيف تطرحه على نفسها بشكل مفهوم.. نعم هي لم تعرف لماذا هربت من معشرها الغجر ولماذا لم تبقَ في ذاك المنزل ولماذا لا تريد الاستقرار في أي مكان، كان بمقدورها العودة إلى ذويها والانصياع لأوامرهم ولأنها لم تفعل فهي تهرب من شيء أفظع من الذبح تتحمل من اجله مشقة الخوف والتشرد هي ذي تهرب من التسول لتجد نفسها وحيدة تجوب القرى طلباً للمأوى أو كسرة خبز، تعبت زينا من الطريق تسير فيه ويسير فيها، فانعطفت جانباً ونامت في العراء غير مبالية بالأخطار، فلم تستيقظ إلا في ساعة متأخرة من الليل استلقت على ظهرها تتأمل في الكون الفسيح، تسأل نفسها: كيف لا تجد لنفسها موقع قدم فيه كيف له أن يستوعب السماء وما فيها من نجوم ولا يستطيع استيعابها شعرت به ضيقاً يطبق على صدرها، فنادت الحمار ليجيب متثائبا: أعرف أنك ستقولين إن النجوم مثل الغجر رحلة مبعثرة في الأبدية وكذلك أعرف أنّك غجرية، سألته: هل أنت حمار أم فيلسوف أم ساحر أم جني من أين لك كل هذه القدرة على النطق والفراسة والحكمة وقراءة أفكاري بل إنك تسبقني إلى ما أحاول التفكير فيه أكاد أن أقع في غرامك، أجابها الحمار سأخبرك سراً فلا ترتعبي لست من ينطق بل هذا الذي حل بداخلي يحرك لساني ويشغل دماغي، قالت: ومن هو الذي بداخلك إن شاء الله ليستوطن لسانك ويحل في عقلك ليحادثني، أجاب الحمار: ذاك الراعي الذي أوصلك إلى قريتي في تلك الليلة بعد أن ودعك دخل في جسدي ولم يخرج إلى الآن، نهضت زينا وقالت أنت الراعي الذي قادني إلى القرية، أجاب: نعم أنت دخلت الدار وأنا دخلت بطن الحمار لأحرسك.. ارتعبت زينا وعـُقد لسانها وراحت في غيبوبة، فتدثرت الأنجم بالغيوم وسكتت الجنادب إلا جندب مهاجر بقي يصدر صريراً انتحارياً على شاطئ بعيد، عز على الجني أن الخلائق كلها خافت منه فخرج من جوف الحمار وعانق شفتي زينا المغمية عليها وغادر إلى موطنه.
مسّدت شمس الصباح خصلات شعر زينا الكثة فاستيقظت، وقبل أن تفتح عينيها نادت الحمار: هيه أنت أيها الجني أرجوك لا تؤاخذني لأنني ارتعبت منك ليلة الأمس فهذه أول مرة أتشرف فيها بمقابلة جني، فلم تسمع جواباً من الحمار، نهضت زينا إلى الحمار تمسد وبره وتمرر يدها فوق رقبته تكرر الاعتذار، فلم يحرك الحمار ساكناً، فقالت لنفسها يالي من حمارة حمقاء كدت أموت ذعراً ليلة الأمس جراء أوهام مضحكة، هلوسة جعلتني أصدق أن حماري صار ناطقاً، لم تعرف إن الجنادب والأنجم صدقت هلوستها أيضاً، قفز سرعوف ساهم على شعرها يحدق فيها بعينيه الكبيرتين، فانتزعته بلطف ووضعته على كفها تسأله: ما بك نهضت باكراً هل خرجت في طلب رزقك أم هربت مثلي من شيء لا تعرفه هل عندكم معشر الحشرات غجرٌ أيضاً هل العشق عندكم مشروط بالأنساب والألقاب هل أنتم أيضاً عشائر و قبائل سادة وعبيد لماذا تحدق بي صامتاً هكذا هل تشفق علي، نظر السرعوف ثانية إليها ثم قفز راحلاً، تناولت زينا بعض من الزاد وشربة ماء وركبت الحمار تسأله: هيا يا عزيزي لنرَ أين ستأخذنا هذا اليوم وقد ألمحت السرعوف وهو يرتقي ظهر أنثاه يلقحها، نادته هنيئاً لك طوبى لكم معشر الحشرات كم حياتكم سهلة.
تراكمت الأوساخ على جسد زينا وعلى ملابسها، هاجمت الحكة فروة شعرها، تذكرت نعيم حمام صديقتها زوجة عشيقها هايدار، وبها تذكرت مشكلتها كلها فاعترفت لنفسها أنها تحب هايدار وأحست لأول مرة طوال رحلتها بأن الطريق قد توقف عن الجريان فيها وجاء دورها لتجري فيه فقد وجدت أخيراً غاية لرحلتها فأخذت زمام القيادة من الحمار لتقوده هي إلى مصيرها المحتوم الذي كانت تعرفه منذ البداية ولكنها كانت مترددة في الاعتراف به.
ساءت حالة هايدار وهو يفقد رشده يوماً بيوم حتى نخر جسمه، فخرجت الزوجة تعمل بنصيحة العجوز متكي تسأل عن شيخ طريقة أو مشعوذ فعثرت على الاثنين معاً، زودها الشيخ بأدعية ونصائح فلم تثق به فراحت إلى الساحر الذي أرهقها شرحاً للطريقة التي سوف تسترد بها زوجها طال الشرح وكثرت شروط الساحر وهذا ما أعطاها قناعة إنّ طريقته أنجع من طريقة الشيخ، لم تستوعب السيدة شروح المشعوذ فطلبت منه الشرح من جديد، فأخذ يعيد لها على مهله جهنم وصفة طبية.. حين يكون البدر في يومه الأول ويدخل المريخ برج الميزان خارجا من برج الحوت خذي عظمة فك علوي لكلب ميت واطحنيها جيداً ثم انتظري القمر في يومه الرابع عشر فخذي بعراً مجففاً لعنزة في حولها الثاني افردي البعر تماماً واخلطيها مع العظمة فإن غاب القمر اخرجي عصراً إلى البرية واجلبي خنفساء مع نبتة خرنوب وسحلية وضعيها جميعاً في صرة حمراء حتى تيبس وبعدها دقي الصرة واطحنيها واخلطي محتواها وفي رأس الشهر الجديد قصي خصلة من شعرك مع ظفر إبهامك الأيسر وقطرة من بولك ثم أضيفي كل ما جمعته إلى بعضه واطبخيه في قدر نحاسي واسكبي عليه كوب ماء وآخر من حليب البقر وآخر من حليب أتان مولودة حديثاً ونقطتين من حيض فتاة عذراء وانتظري حتى تستوي الخلطة جيداً وبعد منتصف الشهر الجديد باشري بعلاج زوجك بأن تضعي له ملعقة من الخليط في طعامه على الفطور والعشاء وفي كل مرة حين تقدمين له الطعام ردّدي هذه العبارة مرتين ،،روفيبوشير كوليبونئيل ،،ولسوف ترين كيف يصبح السيد بغلاً تحت إمرتك.
خافت الزوجة أن تقضي الخلطة على زوجها، ولكن هي هواجس النساء أرغمتها على العمل بنصيحة المشعوذ وحين واظبت على دس الخلطة في طعام زوجها، أحس الرجل بطعم غريب في زاده، فاعتقد إن عشقه المصلوب قد أفسد عليه نعمة تذوق الطعام وما إن تناول الخلطة أياماً أخرى حتى بدأ يعاني أوجاعاً مبرحة في بطنه وصداعاً شديداً في رأسه مع نوبات حادة من الإقياء، مما دفعه إلى الشك بزوجته، فأخذ يراقبها حتى كشف فعلتها معه، فلم يخبرها بشيء ثم غافلها وراح يستطلع الخلطة التي تقدم له ليجد عجينة داكنة متعفنة تفوح منها رائحة خميرة بائرة فعرف أنّها من أعمال السحر وعرف كذلك أن المرأة في البلاد العالية لا تقع في شراك السحرة و الدجالين إلا إذا كانت خائفة أن زوجها عاشق لغيرها ربما تخطفه منها فلا تجد غير السحر لتنقذ نفسها من ضرة تنافسها في زوجها فالسحر يحبب الزوجة إلى الزوج وتنفره من الغريمة المحتملة، فهم السيد أن العجينة لا تعني غير شيء واحد وهي أن الزوجة متأكدة أنه يعشق غيرها فخاف أن تقتله عن جهالة بتلك السموم المكدسة لديها التي تطعمها إياه صباح مساء، ولم يشأ أن يفاتحها بالأمر حفاظاً على مشاعرها فقرر طمس مشاعره وكبت همومه في روحه وإجبار نفسه على العودة إلى حياته الطبيعية.
خرج هايدار إلى الناس يأمر وينهي كما عهدوه طوال عمرهم، وفتح باب المضافة للزوار والضيوف، وتفقد أحوال القرية، وجال بين المزروعات، وتفقد المواشي، وداعب الأطفال، ولاطف النساء، ثم عاد إلى بيته وفي الليل ذهب إلى مخدعه يغازل زوجته يبادلها القبل، فكادت أن تطير فرحاً لتنفجر أنوثتها المؤجلة منذ عدة أشهر دفعة واحدة، أمضى هايدار ليلة حمراء مع زوجته التي تأكدت أنه عاد إلى سابق عهده كما كانت تعرفه، نهضت في الصباح، وهي تقول لنفسها سوف أغمر ذاك الساحر بالليرات الذهبية لقد أنقذ زوجي وأنقذني والله إنه يستحق أكثر من الذهب، بقيت الزوجة نشوانة في فراشها متكاسلة لا تريد مفارقة رائحة فحولة زوجها التي بقيت عالقة بجسدها وثيابها، فنادت الجارية تأمرها بأن تبلغ الرعاة بذبح الذبائح لتدعو رجال القرية إلى وليمة كبرى إعلاناً بعودة زوجها سيداً للقرية ولم تصبر إلى أن يأتي الليل ثانية، فأيقظت هايدار بقبلاتها لتحرك غرائزه فألقت بجسدها الحريري فوق صدره تبثه شبق الأنثى مواء هرة في شهر شباط قبلات دافئة لمسات حرة أشعلت فحولة الذكر انتهت بمضاجعة صباحية لذيذة كانت كافية لتطمئن السيدة بأن زوجها بألف خير، خرجت من مخدعها تتفقد إعداد الوليمة، في تلك اللحظة وجدت زينا تدخل بحمارها إلى باحة الدار، فخرجت تستقبلها بالترحاب.. أين كنت يا مقصوفة الرقبة قد طال غيابك هذه المرة فكان الشوق يسأل عنك دائماً تعالي تعالي قدومك اليوم فأل حسن فقد كان سيدك منذ أشهر في حالة سيئة للغاية وعلى ما يبدو أنه يتعافى في اليومين الأخيرين وابتهاجاً بالمناسبة فقد أقمنا اليوم وليمة، لك نصيب فيها حظك طيب لن أسمح لك بالمغادرة ما لم تتناولي رزقك من طعام الوليمة، بكت زينا وأجابت بصوت حزين أختاه ألم تلاحظي أنني جئت وحدي دون الغجر لقد هربت من قومي ولن أعود إليهم أبداً فإن سمحت لي سأقيم لديكم جارية أخدمك طوال عمري خذيني عبدة أو مربية لأطفالك فلم يعد لي من أهل أو مأوى سواك إن رجعتُ إلى قومي سوف يقتلونني، لاحظت السيدة إنّ زينا جاءت إلى القرية بمفردها فعرفت أنّها مكروبة فأشفقت عليها ودعتها لتدخل الدار وترتاح وتغتسل وتتناول الطعام ثم تتحدث مع سيدها في مشكلتها أما الآن فإنها مشغولة بزوجها وضيوفه.
انشغل هايدار بدوره بترتيب المضافة والإشراف على الخدم يأمرهم أن تكون المضافة على أفضل ما تكون، مد الخدم السجاد العجمي والبسط والفرش والوسائد والأرائك وجهزوا أباريق الشاي والقهوة ودنان الماء فأشرقت المضافة بالعطور عماراً لتعكس صورة صاحبها على أكمل وجه مؤكدة عودته القوية إلى قلوب رجال عشيرته، فلم ينتبه لقدوم زينا بقي الصخب حتى ساعة متأخرة من المساء في بيت هايدار، حتى غادر الناس المضافة فزال الضجيج وخف الازدحام واطمأنّ هايدار إلى أن كل شيء سار على ما يرام، فشكر العبيد والخدم ووعدهم بمكافأة قيمة وانصرف إلى زوجته، التي انتهت من أشغالها وتفرغت لصديقتها الغجرية.
سمعت السيدة كلام صديقتها إلا الجزء المتعلق بزوجها، كررت زينا طلبها في البقاء بدار السيدة التي رحبت بها وأخبرتها أنه من اللباقة أن تستأذن زوجها في هذه المسألة، فطلبت من زينا أن تخلد إلى النوم لتذهب هي إلى هايدار تفاتحه بشأنها، دخل الزوجان مخدعهما عروسين هكذا ظنت الزوجة التي لم تشبع من ليلة الأمس فأخذت تغوي زوجها وتثير غرائزه ليضاجعها، شعر الزوج بالاشمئزاز ولكنه لا بد أن يسايرها مخافة أن تعود وتطعمه العجينة السحرية، فبادلها المداعبة مرغماً وحين أراد مواقعتها أصابه الإقياء وكاد أن يفضح أمره حين ارتخى عضوه قبل أن تأتيه الرعشة فتدارك المشكلة بأن أغمض عينيه وهو يتخيل أنه يضاجع زينا فعاد قضيبه منتصباً كما لم يحس بذلك قبل هذه المرة فقد أحس بمتعة أخرى في الجماع لم يعهد ألذّ منها حيث انسجمت روحه مع جسد زينا المتخيل فتناغم جسده مع جسدها فصار راغباً بالجماع ارتفعت آهات الزوجة تئنّ لذة ترعش كيانها لتمس روحها في السماء السابعة حتى جاءتها الرعشة، استرخى الزوجان منهكين خاملين، تمددا بالفراش وأنفاسهما تلهث والعرق فاتراً يتصبب منهما عنبر دافئ، الزوجة في ذروة الغيب مرحاً وحبوراً تسبح في بحر من الرضى لتسترد أنفاسها فألقت برأسها فوق صدره تهمس بغنج في مسامعه.. سيدي حدث شيء بسيط اليوم لم أرغب إشغالك به كي تتفرغ لضيوفك حيث لم يكن مستحقاً أن أخبرك به في حينه لأخبرك الآن.. سألها الزوج وما هذا الشيء الذي لم تحدثيني عنه.. أجابت لي صديقة غجرية أحببتها وارتحت إليها وكلما زارت القرية أكرمها و أحسن إليها وقبل أن تنهي حديثها سألها ما بها صديقتك، فقد دارت في نفسه الوساوس وأدرك أنها ستحدثه عن زينا فلم يصبر على سماع التفاصيل بل أراد إن يسمع النهاية.. أكملت الزوجة حديثها صديقتي تدعى زينا وقد تشاجرت مع أهلها فهددوها بالذبح لتهرب منهم وتلوذ بك طالبة الحماية طمعاً في عطفك و كرمك أن تقبل بها جارية لك، لم يصدق هايدار ما يسمع، فسأل ليتأكد أتقصدين إن الغجرية هَهنا في بيتنا هذه الليلة نائمة بيننا، الزوجة نعم إنها هنا فقد وصلت قبيل الظهيرة.
صار قلب هايدار طبلاً يدق عليه محو ضارب الطبل الشهير الذي ما أنجبت البلاد العالية مثله، لم يعد هايدار قادراً على التحكم في خفقات روحه أو تهدئة دفق شرايينه التي فاضت دماؤها أنهار شوق.. تصبب العرق بارداً من جبينه وسالت على ظهره قشعريرة مبهمة مفاجئة غير قابلة للتحمل تشوش مشاعره، لم يعرف هل يحزن أم يفرح أم ماذا يفعل، خبر أذهله خطف كيانه إلى أقاصي الكون ألقى به في اللامعقول.
انتبه هايدار إلى نفسه فكرر السؤال الغجرية هنا هل قلت إنها صديقة لك، الزوجة نعم إنها هنا وهي صديقة غالية لدي ماذا أقول لها في الغد هل أصرفها أم أبقيها..؟ تدخل هايدار لا.. لا.. لا يا عزيزتي حرام أن نطردها خاصة أنها لاذت بك من بين كل النساء سوف نؤويها حسنة لوجه الله ليبارك في رزقنا ويحفظنا سالمين، اتفق الزوجان على إيواء زينا وقد اعتقدت الزوجة أنها قد حققت اليوم جل أمانيها فنامت قريرة العين على ضفاف السكينة تنعم بالاطمئنان دون أن تدري أنها هوت بزوجها في قعر بئر عميقة، كانت قد جاهدت لتخرجه من البئر المحرمة، بشق الأنفس لتذهب جهودها سدى إذ سقط الزوج في القاع الذي نجا منه تواً، بقي هايدار ساهراً ينظر إليها وهو يقول في نفسه لا أعرف هل أشفق عليك أيتها الحمقاء أم على حماقتي أم أغضب من الأقدار وقد حملت بيدك عود الثقاب الذي سوف يشعل النار في غلال قلبي لتحيلها إلى رماد كرمى لزينا ربما القدر يعبث بمصائرنا فجاء بزينا في اللحظة التي قررت فيها طمس مشاعري وتجاهل نداء روحي اليوم بالذات جاء القدر ليخرب كل ما بنيناه على مدى السنين.
طافت قوافل الحيرة في كيان هايدار لتستقر أرقاً في عينيه حتى الفجر بقي ساهراً قلبه يحمله إلى مخدع زينا يهم بفتح الباب والدخول إليها فيردعه عقله إلى مخدع زوجته، طفح الكيل به فاختار طريقاً ثالثة فخرج هارباً إلى البراري يمشي بلا هدى حتى بلغ رابية سفحها الشرقي يطل على مسيل مقتول. تمدد هايدار على الأرض توسد صخرة واضعاً كفه تحت إبطه، طفل كئيب اشتهى لعبة لم يحظَ بها فنام زعلان وقد خسر الدنيا.
نهضت زينا مبكرة تفكر بمغادرة القرية قبل أن تصحوا السيدة لتنقذ نفسها من اقتراف إثم فظيع فتخون المرأة التي وهبتها حبها وحنانها وثقتها ورفعتها إلى منزلة أختها وهي غجرية تافهة.. عرفت زينا إن البقاء يعني الخيانة فهي تعرف مدى هيام هايدار بها فإن أقامت في داره سوف يلح عليها في طلبه حتى يقنعها بالذي في رأسه نحوها ولسوف تضعف في النهاية وتوافقه على طلبه فتسلم روحها إليه لتقبض روح سيدتها العطوفة التي ستكون أكثر الضحايا احتراقاً وعذاباً، بقيت زينا تحاور نفسها فراحت تتذكر المصائب التي صادفتها وهي مشردة على الطرقات حيث لا مأوى يسترها غير بيت الصديقة، بحجة الخوف من الضياع في حياة التشرد أقنعت زينا ضميرها لتبقى حيث هي.
وفي اللحظة التي قررت البقاء حملت الشمس القرار إلى هايدار بشرى سعيدة أيقظته لينهض صافي الذهن فنفض الغبار عن ثيابه وترك الحيرة نائمة على الرابية وعاد إلى القرية يتبختر بخطى ملؤها الثقة، خاطرٌ أخبره إن زينا تحبه كما يحبها هو، وأنها لم تهرب إلا لتصل إليه يعني أنها غيرت رأيها فجاءت لتقيم معه حبيباً، لم يبقَ أمام هايدار سوى أن يفكر بطريقة ليقابل محبوبته ويهنأ برؤيتها فقد مضى زمن طويل على فراقها، لم يكن من السهل على سيد القرية أن يخفض من مقامه ويتواضع ويكلم جارية أو غجرية فكيف لهايدار أن يلتقي بزينا دون أن يخسر مقامه الرفيع بين أهل بيته وأبناء عشيرته.
مشكلة غير سهلة شغلت بال هايدار ولكنه كان مستعداً أن يفعل أي شيء ليجد لها حلاً ولو تطلب الأمر أن يتزوج من زينا سراً أو يهرب معها إلى مكان بعيد تاركاً الزعامة والجاه خلفه فالمهم بالنسبة له هو أن توافق زينا على مطلبه.
نهضت السيدة تجر ذيل الكبرياء حبوراً، لا شيء يعكر صفو راحتها، أنوار ذهبية على صفحة وجهها تنعكس في طبق منير ينضح ورداً وتفاحاً وبريق الماس صافياً يشع من أساطير عينيها، حديقة عبقة تفور في جسد عطر يفوح أنوثة مروية، بعد ليلة عارمة الندى تبدت بقاياها ارتواء على شفتيها تورماً أصاب الكرز .
طلبت من الجارية أن تجهز لها الحمام فضحكت الجارية في سرها وقالت لمَ لا..؟ أمضيت ليلة حمراء لتغتسلي من الجنابة طوبى لك لقد سمعتْ الخلائق كلها شهقاتك وآهاتك، سمعها كل من في الدار فارتعشت حجارة الدرج وتدحرجت الأواني على الرفوف واستيقظ العصفور من حلم لذيذ نعسان ليقبض بمنقاره على قفا أنثاه ويرتقي ظهرها يلاقحها في غير موسم الجماع زقزقت الأنثى زقزقة عصفور وقع بين مخلب قطة مندهشاً مستغرباً، فتشاجرت مع فحلها ليطير بعيداً بفعلته في جنح الليل فتكسرت جناحاه وسقط صريع شهوة دارت في مسامعه، انتقلت عدواها إلى كل من سمع أنات السيدة، هاجت الكباش ترتقي ظهور إناثها تواقعها فجاء ثغاؤها نشيداً للشبق، استنفرت كلاب القرية تلاحق إناثها لترتقيها في الخلاء فارتفع النباح أنيناً لذيذاً خالط أحلام بنات وشباب القرية فامتد الشيطان وليفاً لازوردياً في فراشهم يداعب نومهم لتأتيهم الخديعة رعشات حارقة أمنيات صعبة المنال هطلت أحلاماً دافئة، وحدها الجارية نسيها الشيطان فبقيت تتخبط في هياجها محمومة تعضّ فراشها والفراش يعضها فتسير في أنوثتها مسامير لهب تكويها شبقاً كادت أن تصرخ ليردها الحياء لتعض على أصابعها تلجم صرختها ولم تعرف أن الشيطان لا ينسى أحداً ولكنه حين زارها ليعطيها حلماً وجدها صاحية فأصابه الحرج وانسحب، سمع الشيطان لهاث روحها فأشفق عليها ودخل عقلها يذكرها بالعادة السرية مدت الجارية أصابعها إلى جسدها المنصهر تمارس العادة السرية حتى غابت عن الوعي بعد شهقة قاتلة أتبعتها رعشة.
دخلت السيدة الحمام ونادت على الجارية لتغسل ظهرها.. جسد بض ناصع البياض اشتهته الجارية فتمنت لو تكون عبداً ليغتصب سيدته وبعدها ليحرقوه ليسلبوه خصيتيه، وضعت الجارية يدها على ظهر السيدة فسارت شرارة كهربية في كيانها صاعقة أسرع من البصر انتهت برعشة هزت جسدها و أخذتها إلى عالم آخر فراحت في غفوة وقد تجمدت يدها على ظهر سيدتها ساهمة، نادتها السيدة ويحك أيتها الكسولة ماذا تفعلين هل أنت نائمة هيا أسرعي واذهبي لتعدي لنا الفطور.
وصل هايدار إلى البيت وخرجت الزوجة من الحمام في ذروة النشوة وبقيت زينا في الفراش لا تغادرها ارتباكاً فهي لم تزل حائرة بين البقاء والرحيل، أحضرت الجارية الفطور وتناوله الزوجان وحملت الجارية الفضلات إلى الرعاة والخدم.
تذكرت الزوجة أن لديها ضيفة فذهبت لتبشرها بأن السيد قد وافق على بقائها في البيت، سمعت زينا وقع خطوات على الباب فتظاهرت بالنوم فدخلت السيدة ورفعت عنها الغطاء لتوقظها وتقول لها كلاماً.
اسمعي يا زينا أنا وسيدك أعطيناك ثقتنا وقبلنا بك مقيمة بيننا، منذ اليوم أنت واحدة منا لا نريد منك شيئاً مقابل ضيافتنا لك سوى الإخلاص لنا سوف أتخذك وصيفة لي فلا تبالي بأحد غيرنا أنا وسيدك، تصرفي كسيدة حرة كما لو أنك من أهل البيت فلا تقومي بعمل لا ترغبين القيام به، مقدارك عندي أرفع من الخدم و الجواري هيا اذهبي إلى الحمام اغتسلي ثم تعالي إلي آخذك إلى خزانة ملابسي خذي ما يعجبك منها سوف أجعلك أجمل عروس في القرية لدي مساحيق تجميل فاخرة وعطور نادرة وكحل نبيل وأحذية، فتزيني وتعطري أريدك سيدة محترمة جديرة بالإقامة في هذه الدار.
نهضت زينا وعملت بكلام صديقتها وبعد تناول الفطور جلست المرأتان تتجاذبان أطراف الحديث، بينما السيد يحترق في المضافة عله يلمح طيف الحبيبة زينا ولكن خيلاءه ومكانته أمام أهل بيته لم تسمحا له بالتنازل للذهاب إلى مخدع النساء ليسلم على زينا ويكلمها فبقي يقطع المضافة جيئة وذهاباً يكابد نفسه بشرب القهوة ويتجلد بنار الصبر سيجارة يشعلها من عقب سيجارة تمالك الرجل نفسه بضعة أيام يتحين صدفة ليكلم زينا فترك للزمن أن يرسم هذه المناسبة التي تبيح له اللقاء بالحبيبة دون أن يحط من شأنه.
ولم يطل الانتظار فقد دخل في ليلة إلى مخدع زوجته ليجدها تسامر زينا التي هبت لتنصرف ولكنه أمرها بالجلوس متصنعاً نبرة استعلاء صارخ وبنظرة فوقية سألها برأس لسانه أنت ضيفتنا الغجرية الهاربة من قومها..؟
- نعم يا سيدي أنا هي.
- ما هو اسمك..؟
- جاريتك زينا...
- طيب يا زينا هل تـُحسن السيدة معاملتك هل تحتاجين شيئاً ما..
- لا يا سيدي السيدة غمرتني بحنانها وكرمها لست أحتاج شيئاً غير رضاكم عنا ولكن.. صمتت زينا وقطعت كلامها، فشجعتها السيدة على البوح بما في فمها ولكن ماذا يا زينا هل قصرت معك في شيء تكلمي فإن سيدك بيده أن يفعل لك كل ما ترغبين به بل أكثر مما تتصورين أو تحلمين به، فتابعت الغجرية كلامها لينطق عنها الخوف سيدي أخاف أن يأتي قومي إلى القرية في إحدى جولاتهم ويعرفوا أنني مقيمة لديكم فيقتلونني، ضحك السيد من بساطة الفتاة ثم صمت، لترد السيدة قائلة أيتها الحمقاء أنت لا تعرفين إلى من تتحدثين إنه هايدار الذي تخافه العشائر وتهابه الدولة فهل تخافين شرذمة من الغجر وأنت في حمايته اطمئني فلن يجرؤ أحد على المساس بك طالما أنت في هذا البيت، أكمل السيد كلام زوجته ليزيد زينا اطمئناناً فقال حين يأتي أهلك إلى قريتنا من السهل التفاهم معهم بشأنك.
سمحت السيدة لزينا بالانصراف ومضت الأيام ثقيلة عليها وعلى هايدار، عطش خانق جفف روحه وأمامه سلسبيل زينا يجري بين يديه ولا يستطيع أن يرشف منه شربة تبلل ريق الطريق الذي كاد أن يقتله الحرمان.
فيما بعد أصيبت زينا بالحمى وتطلب نقلها إلى المدينة للمعالجة ولحسن حظ هايدار أنه الوحيد في القرية من يملك سيارة ومن يملك أسرار قيادتها، لتهرع إليه الزوجة تخبره بضرورة نقل زينا إلى الطبيب، تظاهر هايدار بالترفع عن مرافقة غجرية فتوسلت إليه السيدة تلح عليه وتستعطفه ليسعفها قائلة: إنها وحيدة غريبة مستضعفة خذها إلى المدينة حسنة لوجه الله هذا لن يقلل من مقامك بين الناس فأنت لن ترافقها إلا لأنها مريضة ولسوف يعذرك الناس في ذلك.. بعد شيء من الرفض و الممانعة وافق السيد على إسعاف الغجرية، لسانه يقول شيئاً وقلبه يقول النقيض، إذ لم يصدق متى يضعها في السيارة وينطلق بها منفرداً، فرصة انتظرها شهور طويلة تأتي إليه على رجليها، حمل الخدم زينا إلى السيارة وأدار هايدار محركها بوقود كيانه، شيء مذهل زينا جالسة بجواره وأمامه طريق طويل فرصة شاسعة ليحدثها بكل جوارحه ليحكي لها ما جرى له منذ أن غادرها مكسور الخاطر حين جاء إليها طالباً الزواج، فانطلق يقود آمالاً ذابلة دبت فيها الحياة ثانية عادت أحلامه نضرة فصار الطريق حريراً والقرى جنائن معلقة والأفق مطلق الأماني، مر الوقت سريعاً ليجد هايدار نفسه أمام عيادة الطبيب، فحمل زينا ودخل بها إلى العيادة وبعد المعاينة أوصى الطبيب أن تبقى المريضة تحت إشرافه بضعة أيام وبعد الاطمئنان على صحتها، خرج هايدار ليستأجر بيتاً فخماً في أرقى أحياء المدينة وانتظر في الأيام التالية حتى تتعافى زينا ليعود ويفاتحها في رغبته بالزواج منها فخاطبها.. أي زينتي هذه هي المرة الأخيرة التي أفاتحك بحبي لك لن ألح عليك ولن أجبرك على شيء ولا تظني أنني أستغل ضيافتنا لك لأعرض عليك حقيقة مشاعري نحوك كوني متأكدة أنه مهما كان ردك فلن يتغير موقفي منك ولسوف تظلي عندنا إلى ما شاء الله من هذه الناحية لا تخافي مقامك محفوظ في كافة الأحوال والآن قبل أن تفكري بالرد دعيني أقول لك كلمة بقيت محصورة في روحي وقد جاء وقت إطلاق سراحها، عزيزتي زينا تعرفين مقامي العالي بين أبناء عشيرتي وخلال إقامتك عندنا ربما عرفت الكثير من أخلاقي وطباعي لست ذاك الرجل الذي كلما رأى امرأة جميلة يتهافت عليها ولست ذاك الرجل الشهواني الذي لا يشبع من النساء ولا يوجد عائق أمامي لأتزوج من أربعة نساء حرائر يناسبن مكانتي، كنت قبل معرفتي بك أعشق امرأة وحيدة هي زوجتي وما نظرت إلى غيرها من النساء نظرة شهوة تعرفين أنها بارعة الجمال حلوة المعشر وكان هذا حالي حتى رماك القدر على طريقي وصرت خليلة زوجتي ومنذ أن لمحتك أول مرة تغيرت دورة الأكوان فرحل هايدار الذي أعرفه وجاء هايدار الذي يجلس بقربك هذه الدقيقة ليتخلى عن كبريائه ويطارد فتاة غجرية اعذريني أنت تعرفين كيف ينظر الناس إلى قومك وكنت مثلهم إلى أن عرفتك فإذا بي أعشق غجر العالم من أجلك فأخذت أبرر لنفسي حق الاقتران بك متخطياً الأعراف والتقاليد الصارمة التي تعيب زواج أبناء الذوات من الغجر أقنعت نفسي بخرق هذه القاعدة لتكون سابقة يتحدث فيها الناس بطول البلاد وعرضها والحقيقة لا أعرف لماذا أفكر بالإقدام على هذه الخطوة التي ستقضي علي كسيد في قومي هل أقول الحب لا أظن أن الحب يفعل ذلك عاطفتي نحوك لا أجد لها تفسيراً هي ليست إعجاب ذكر بأنثى ولا نزوة عشق طارئة ولا ذلك الذي يسميه الناس غراماً بل إيحاء مجهول يأتي من بعيد ما، لا أستطيع تحديده هل هو في مجاهل ذاتي هل هو روح تائهة تبحث عن مسكن لها في كياني هل هو مشيئة الغيب أن يلهو بمصيري، شوق دفين يحوم في أجواء دمي أحسه أنه قبلي كان يجري في شرايين أحد غيري ليعطي قلبي نبضات هي ليست نبضاته التي أحفظ صوتها غيباً مذ كنت رضيعاً، المحك يا زينا ربيع تأخر في القدوم وحين جاء لم يجد مكاناً يحط فيه فدخلت خريف جسدي ترجعين فصول عمري المطوية في ذاكرة الطريق عبقا تحت حوافر خيول الدرك لا أعرف يا زينا كيف أبسط لك كلامي حتى تفهمي مقصدي فأنا نفسي لا أعرف ماذا أقصد لست من يتحدث إليك هذا الجسد بقربك صورة خاوية فلا يغرك عليائه، هناك في موضع ما داخل الزمان أو خارجه بمكان أو دون مكان كيان ممتلئ يملي علي الحديث فانقله إليك هل تظنين أنني اهلوس، فاجأته زينا وهو في ذروة التماهي في نجواه، لتقول: كغجرية لم أفهم عبارة من كلامك حيث لم أعهد قومي يتكلمون بهذه الروح التي أيقظت روحي فراحت تشرب كل كلمة تدخل مسامعي لتفعل فيه عجباً لأفهمك تماماً حتى أنني أستطيع تكملة ما تبقى من كلام في خواطرك فروحي اليوم تقرأ الغيب وما يدور في غده طالما حاولت الهروب منه أعرف يا سيدي أنك ضحية القدر وأعرف أنني الطعم الذي سوف يوقعك في شباك المجهول مصيراً ليس له ملمح ما نحن إلا جسدان أدوات تنفذ إرادة تفوق قدرتنا وكل ما أخشاه أن لا تكون هذه الإرادة ودودة فالكون مليء بأشياء تحب الأذية من باب التسلية وهذا ما يزيدني هلعا، أجابها هايدار ليكن ما يكون طالما أنت مقتنعة بأننا لعبة في يد خفية قاهرة فلا مهرب لنا منها فلنمارس مصيرنا مغامرة تنقذنا من عذابنا ولو برهة قصيرة، هناك نهر دافق في روحي يفيض يجرفني إليك ليصب في جسدك فهل اسمي هذا حب، خذيني بحيرة ضميني بين ضفتيك قبل أن يهدرني اليأس في عراء الألم.
تحدث العاشقان طوال أيام النقاهة وبعد تردد وحيرة اعترفت زينا لهايدار بأنها تحبه أكثر مما يحبها ولكنها لا تريد الزواج منه حتى لا يخسر منزلته بين قومه ولأنها لا تريد الغدر بصديقتها، ولكن هايدار أقنعها في النهاية فعقد عليها القران بعد أن اتفق معها على إبقاء الأمر سراً على أن تقيم زينا في المدينة ليقضي هايدار نصف الأسبوع في القرية ونصفه الآخر معها في المدينة وبعد شهر عسل قصير عاد هايدار إلى القرية ليخبر السيدة إن الغجرية تعافت وغادرت المشفى دون علمه فلم يعرف أين ذهبت.
تابع هايدار حياته مشطوراً فترك جسده لزوجته في القرية وبقيت روحه لزينا في المدينة وما كان ذلك يزعجه.
ازدادت زينا رونقاً وبهاء وصارت سيدة بكل معنى الكلمة فقد دخلت برفقة زوجها وسط جديد غير مجتمع الغجر ولا حتى مجتمع القرية فأخذت تتعلم أنماطاً أخرى من الحياة من آداب الكلام واللباقة وحسن التعامل مع الآخرين وقد كلف زوجها معلمة لتقوم بتعليمها وتثقيفها وسرعان ما استوعبت زينا إيقاع حياتها الجديدة مما زاد هايدار إعجاباً بها إذ كان يقول لنفسه كلما رأى زوجته تتخلص من طبائع الغجر إذا كان صحيحا بأن الغجر يسرقون الأطفال فلا بد إن تكون زينا واحدة من هؤلاء البؤساء معدنها يدل على أنها من أصل نفيس إنها في سلوكها وكياستها أشبه بالأميرات، فأعجب بها أيّما إعجاب وازداد تعلقاً بها فأخذ يطيل المكوث معها فلم يعد يذهب إلى القرية إلاّ مرة في الأسبوع.
موت.. لا بدّ منه
استنفر معشر زينا كلهم في الصباح حين اكتشفوا فرارها فأخذوا يجدون في البحث عنها، إنها سابقة في تاريخ الغجر المدون على الهواء أن تهرب فتاة منهم، سابقة خطيرة أن ترفض الخروج إلى البيوت متسولة بين القرى سابقة يجب وأدها في لحظتها حتى لا تتكرر فتكون عبرة للأخريات.
ثروة الغجر هي نساؤهم خاصة الفتيات منهن حيث تعتمد الأسرة الآباء و الأبناء والإخوة على الفتاة في توفير أسباب عيشهم، الغجرية نملة في مجتمعها مكافحة تلتقط رزق قومها وهي تجوب الأرياف وتقطع المسافات وتلاقي الآمرين كلما دخلت بيتا لتطلب عطاءها بعضهم يمنحوها وبعضهم يمنعوها والكثيرون يزعجوها فتعاني هجمات الدبابير والطيور الجارحة لتعود بالرحيق إلى قومها، بدونها تموت الخلية وتنهار المستوطنة ويزول مجتمع النمل، الغجرية سر ديمومة معشر الغجر الأسطورية حين تخرج من الصباح إلى المساء من بيت لبيت ومن قرية لقرية تجمع الطحين والبرغل أكداس ثقيلة على كتفها فتعود محملة إلى خيمتها تسلم الغلة إلى رب الأسرة ليذهب إلى المدينة ويبيع كد نسائه في السوق فيجني نقوداً يقضي بها حاجات أسرته فمن أين للغجر القدرة على البقاء دون نسائهم ومن أين لهم القدرة على الاستغناء عن فتاة، الكارثة عندهم حين يفقد غجري إحدى نسائه حيث تفقد الأسرة بفقدانها شريان حياة يمدها بأسباب البقاء.
الطريق خير من يعلم بذلك إذ طالما سمع بإذنيه من فم الغجر وهم يثرثرون على قارعته في مسألة خطوبة غجرية لغجري، والد الفتاة يطلب مهراً في ابنته يفوق مهر الفتيات الحرائر وحين يحتج والد الفتى ويجادل يرد عليه والد الفتاة.. يا أخي اذهب واسأل عن ابنتي إنها لا تعود إلى البيت إلا وقد جمعت من العطاء يفوق ما جمعته ثلاث من قريناتها تعال وانظر في جعبتها إنّها ممتلئة حتى الفم حيث لا تقدر على حملها فكر يا رجل أنت لا تخطب نعجة بل تشتري كنزاً لا ينضب ستعود ابنتي إلى زوجها كل مساء بما يكفي لإسعاده وإسعاد عياله حين يرزقهم الله أطفالاً، يذعن والد الفتى ويقبل بدفع المهر المطلوب طمعاً في كد الفتاة التي ما جاء يخطبها لابنه إلا لأنّه يعرف أن الفتاة ماهرة في جمع العطاء، فيكون أهل العريس هم الرابحون لأنهم كسبوا نملة عاملة إلى صفهم وسرعان ما تعوض زوجها عن المهر الذي دفعه لوالدها حين تباشر عملها، أما أهل العروس فهم الخاسرون مهما رفعوا من قيمة المهر، فهو لا يشكل تعويضاً عن خسارتهم لنملة مجدة، ولولا أن الزواج سنة الحياة لأمتنع الغجر عن تزويج بناتهم، حتى يحافظوا على النملات العاملات في أسرتهم .
كان هروب زينة خسارة كبيرة لأهلها، وكارثة على جماعة الغجر، حيث لم يحدث أن الغجر قد خسروا إحدى نسائهم، إلا بداعي الزواج أو الموت، أما أن تفر منهم هكذا بدون سبب، فهذا في عرف الغجر غير ممكن، وعملا لا يستطيعون تقبل عواقبه، انه كفر لا رادع له سوى الذبح، حتى تكون زينا عبرة لغيرها، فلا تقدم فتاة أخرى على فعلتها، حتى لا يخسر الغجر مزيدا من النملات العاملات.
قلق الطريق على زينا من نوايا قومها المشاكسين، فراح يضللهم عنها سنين و سنين، والغجر عنيدون شرسون، لا يستسلمون بسهولة، لم يكلوا ولم يملوا في ملاحقتها، سألوا عنها الطيور، وكلما مروا بقرية استفسروا الرضع في مهادهم عن أخبارها، تقصوا أثرها بين المزروعات واستنطقوا الحجر وفتشوا عن آثارها، يقرؤون ضفاف الأنهر والجداول، حتى تعب الطريق من مماطلته لهم، ليسلم مصير زينا إلى هايدار معتقداً أنه وضعها في مكان لا تطاله يد الغجر، تفرغ الطريق لأعبائه الأخرى، وهي كثيرة حتى أنها صدعت قارعته.
في آخر زيارة لهايدار إلى زينا، حين خرج من القرية أحس بشيء يتبعه طوال الطريق، وكلما التفت خلفه لا يجد سوى نبات شوكة الجمل، وقد نما على جانبي الطريق بكثافة بالغة، أضغاث أجمة تكاد أن تيبس ليس فيها ما يثير الريبة، ولكنه كان يشعر بأن الهواء وهو يحف هشيم الشوك يريد أن يخبره بشيء، وحين يصغي إليه السمع يصمت الهواء فجأة وكأن أحدهم يزجره ليمنعه عن الكلام، لم يرتح هايدار لهذه الهواجس المبهمة، فتابع قيادة سيارته مشمئزاً من تقلبات الطبيعة وأسرارها وما فيها من مجاهل الأشياء، حتى شارف على المدينة، ليأتيه هاتف أكثر جلاء يقول: إن الهواء أراد أن يخبرك لتلقي نظرة على ما وراء الأجمة.. خطر له أن يعود ويستطلع ما وراء شوكة الجمل، ثم أهمل المسألة، معللاً النفس بأن النداء مجرد وساوس لا معنى لها، فقد كان مدفوعاً بالشوق إلى لقاء زينا، وصل إليها وأمضى معها بضعة أيام دون أن يخبرها بهواجسه الغريبة التي رافقته قلقاً غامضاً منذ خروجه من القرية، قلق ربما يكون متخفياً وراء الأجمة شاهدته الريح فحذرت هايدار حفيفاً، لكنه لم يفهم ما قالته الرياح، لم يطاوعه قلبه أن يترك زينا وحيدة، فقد هبت الريح من جديد عاصفة شديدة تضرب نوافذ الدار وتبعث صريراً منفراً في الأبواب وهي تصفر في ردهات المنزل قشعريرة موحشة لتطير الستائر عالياً وتهز أغصان شجيرات الحديقة، تساءل هايدار ما بها الرياح هائجة هكذا، إنها ليست غاضبة وليس من عادتها أن تهب هكذا في هذا الوقت من السنة، فتأكد أنها لم تهب إلا لتخبره برسالة تحذره من سؤء تقديره حين تجاهل حفيفها على الطريق، قال في سره: عجباً والله هذه الرياح لا تهب ولا تعصف هائجة هكذا إلا لتخبرني بحدث جلل قد يمسني، أمر عظيم أنا غافل عنه فأي مصيبة تنتظرني، خرج من الدار إلى الحديقة، جلس يصغي إلى العاصفة بكل جوارحه وأحاسيسه، ليفهم ما تحاول الريح إخطاره، هل كانت تريد أن تقول إن ما كان يلاحقك خلف الأجمة قد تبعك إلى هنا خلف أسوار الحديقة، خرج هايدار إلى الشارع تجول حول المنزل من جهاته الأربعة، فلم يجد شيئاً مريباً، ليعود إلى زينا وهو يكاد أن يطلب منها مرافقته إلى القرية لولا تذكره إن هذا غير ممكن، وكان عليه أن يغادر إلى القرية لأمر هام، فلم يبقَ أمامه سوى أن يطلب من زينا الانتباه إلى نفسها دون أن يخبرها بتوجساته حتى لا يثير مخاوفها كامرأة وحيدة، ثم غادر إلى القرية ونفسه منقبضة، وعلى الطريق حين صادف نبات شوكة الجمل، أوقف السيارة وأشعل النار في الأجمة، فسمع هشيمها وهو يتقصف يقهقه ساخراً، فلم يفهم لماذا كانت الأشواك سعيدة بالاحتراق، أمضى هايدار بضعة أيام في القرية وهو في غاية القلق، وكأنه يترقب بين اللحظة والأخرى وقوع مصيبة، هناك في نأيه عوالم تبدت له في أبعادها النهائية أجناساً غير معلومة تلوح له، ما كانت من الإنس ولا من الجن، هي التي كانت تلاحقه على الطريق من القرية إلى بيت زينا، وحين عاد لم تعد معه، حينها أدرك هايدار أن الهواجس لم تكن تريده هو، بل تريد زينا، هذا ما كانت الرياح تحاول أن تخبره به، ولكنه حينها لم يفهم لغة الريح، قفز قلبه من صدره وضرب بكفيه وركب السيارة منطلقاً إلى المدينة وقلبه يسابقه هلعاً واضطراباً، فلم يعرف كيف وصل بيت زينا، ترجل من السيارة مذعوراً يهرول يضرب جبينه ندماً، دخل الدار رجلاً بالغ العنفوان وخرج منه شيخاً هرماً محطماً يغطيه المشيب.
توقف الغجر في البحث عن زينا، فأدرك الطريق أن الموت أدركها، ليذرف دمعتين يضيف بهما اسماً إلى أسماء أحبة كثيرين ماتوا قبلها، ممن غدر بهم الموت قبل أوانهم.
عـَبرَ الزوج المتيم الصدمة إلى ما يعقبها، ليفقد الأحاسيس و المشاعر، فلم يقدر على الحزن أو البكاء، حيث اختنق كيانه في جثة مقطوعة الرأس، أصبحت مشهد سرمدي يتكرر في غده الذي سيأتي إليه بجثث مقطوعة الرأس وحده من يراها، جن جنون الطريق فانشطر ذهاباً وإياباً، سجلان منفصلان لمقطوعي الرؤوس، تأزمت قابلية الطريق على التفهم، فامتلأ بالعقد الإسفلتية، ليزعج المارة غير المبالين بهذه الرؤوس ضائعة الجثث.
عاد هايدار إلى القرية بليد الروح، سلم الزعامة لغيره، ليتفرغ للثأر، يريد أن يستأصل شأفة الغجر، ويقلعهم من جذورهم دون رحمة.
جذور.. لا بدّ منها
لجأ هايدار إلى العارفين والحكماء يسألهم عن معشر الغجر إن كانوا بشراً أم من جنس آخر، جان أو ملائكة، شياطين أم كائنات أخرى غير معروفة، لم يقف الرب على ذكرها في مفكرته اليومية، ولكن أحداً لم يسعف هايدار بإجابة شافية، ليجد نفسه على قبر زينا يسألها عن قومها، من أين منبتهم وما هي جذورهم، خرجت زينا من مدفنها، وألقت برأسها المقطوع في حجر زوجها المتيم تسأله الصبر لأن سردها لحكاية الغجر سوف يطول أكثر مما يتصور، هي حكاية فصولها أغرب من فصول ألف ليلة وليلة غرابة، ولكنها لم تجد شهرزاد ترويها حيث لم يكن هناك شهريار يصغي إليها، وحين جاء شهريار، صارت شهرزاد مفصولة الرأس، ولكنها بطريقة أو أخرى صممت على النطق، فالليل طويل والكلام مباح حتى الصباح، لم يدرك هايدار أنه أقام قبر زينا مزاراً في كبده يحمله أينما ذهب لا يستطيع له فراقاً، خلوة درويش يجالد آلامه، رأى أن يأخذ السلوان علماً غائباً كشف الغيب حجابه في حضرة مرشده والعشق علماً ناهياً يغني العاشق هياماً في بهاء معشوقه يتلمس الغيب في وحدة الأكوان روحاً شاردة تاهت في الوجود منادياً مجهوله متى ترشدني.
مكث هايدار يصغي إلى زينا ينشد دليلاً يقوده إليها فعادت به ماضياً مجهولاً قديماً ليس فيه للزمن غير أطياف وملامح وليس فيه للمكان سوى وجود مبكر غير مكتمل النضوج ماض تحايل على المسامير الأولى فلم تخطه على الصلصال المجيد، أطرق الكاتب بإصبعه على هامش دفتره الفخاري يشحذ أفكاره، فلم يتذكر ما نسي تدوينه، فراح يعترف للكاهنة بأنه سها عن تدوين شيء ما تحايل عليه وهرب من السطور قيوداً، وبخت الكاهنة الكتبة وطلبت منهم أن يتركوا ما بين السطور فسحة للتذكر، ليدونوا فيها ما تركوه عرضة للنسيان وانتظرت، ومعها انتظر الكتبة، صدئت المسامير وجف الفخار وانقرض بناة الزيقورات وجاء البدو، ليختم الماضي ذاته ناقصاً، حيث بقي بعضه هارباً عمداً من التاريخ، ليختبئ في جذوره يضرب حاضر الأجيال ويحير المؤرخين ليبقى الجميع تواقين إلى معرفة أسرار فسحة خالية بين خطوط على رقم الفخار، لماذا لم يدونوا عليها شيء، ترى ماذا أراد الكتبة أن يدونوا عليها حتى تغضب الكاهنة هكذا، ماض هارب أراد أن يبقى حاضراً أبداً في صيغة سؤال مهلك حير العارفين.
هو ذا السيد ينبش كبده ليختم الفسحات الخالية بين سطور الصلصال تاريخاً لكيان عاشق أخذ بالتفكك يناجي زينا أن تخبره الحقيقة، فأشفقت عليه وبدأت الحكاية:
يحكى أن الغجر جنس من معشر البشر عرفوا دون الآخرين لغة العصافير فاستعانوا بعلم الطيور ليقيموا مملكة صغيرة عالية في حفرة ضوء، عشاً أمين على غصن قناعة، راية يرفعها السنونو في سماء الغجر، فعاشوا عزلتهم الحميدة غابة سعادة يقتاتون بها أيامهم البهية يبنون منها قلاعاً وأسواراً تحمي دولتهم فما عرفوا للعنف معنى ولا سكبوا للحقد معدن سلاحهم ضياء وكنزهم رضى وأمنهم خلاء.. مليك عطوف وشعب مطيع وتاج من الحب على رأس الجميع والعرش بستان مفتوح ثماره ثقة حراسه طيور والحاشية أطفال عارفون، ازدهر الغجر قبل أفلاطون مملكة فاضلة تباهى بها الحجل نقشاً على أجنحته يجوب السماوات مسافة مفتوحة لطيب النوايا، مر الحجل أسراباً فوق الممالك المنخفضة تبهر ملوكها بالضياء فثارت حفيظتهم وانتعشت مطامعهم، طيور وضيعة من أين لها هذا الضياء تذهل نسورهم في أقفاصها الذهبية فتحجم عن القنص، خاف شاهنشاه البلاد الواطئة أن تضيع هيبته بضياع هيبة نسوره الداجنة، فاستشاط غضباٍ ليدعو الحاشية والحكماء والسحرة والقادة والفلكيين والكهنة إلى بلاطه يهددهم بسوء المصير، خرَّ الجميع تحت قدميه يسجدون يقبلون أثر خطواته الغير بادية على بلاط عرشه، ابتهلوا إليه جوقة خاشعة.. مولانا حلمك بماذا نحن مقصرين نتضرع إليك أن تعطف علينا وتدلنا نحن عبيدك الخاطئين.. مشى الشاهنشاه خطوتين يتبعه سبع فتاك ليخاطبهم ماذا لو أسلط عليكم غضبي هذا المبين، لتكونوا عشاء له، أين قلاعكم وبروجكم وجنودكم وحراسكم لتسمحوا للآخرين بانتهاك حدودي.. همهم قائد الجند راكعاً وأجاب متوسلاً: مولاي من يجرؤ على انتهاك حرمة سلطانك بنظرة سيئة ودولتك حصن حصين أقسم بك إن المسافرين ليس بمقدورهم الاقتراب من حدودكم إلا كما تريد مشيئتكم فإن رأيتني مقصراً في حماية دولتكم اضرب على عنقي إذ يشرفني أن أكون طعاماً لسبعكم المقدس.. زحف كبير الكهنة يجر من خلفه النفاق يقبل يد مليكه مولاي ارحم عبيدك وأخبرنا أمام مشيئتك إننا عاجزون.
صمت الشاه برهة قبل أن يأذن للحاشية بالجلوس، ليسألهم موبخاً أيها العميان أما رأيتم طيور حجل تمر فوق قصري تبز نسوري خيلاء وتحدياً أين كنتم حينها أين كانت عقولكم الخامدة التي لا تعرف من الأعداء غير ما هو ظاهر من الجيوش والدول اعلموا أن لا بصيرة لكم حتى تجدوا العدو الأخطر الذي يأتي متخفياً اعلموا أيها الحمقى يا من أفسدكم الترف أن الحجل عدو ماحق يهدد مـُلكنا وينذر بزوالنا وأنتم نائمون تبا لكم ولحراس الحدود وأنتم لا تجدون غير مراقبة الظاهر وتهملون الخفاء هذه الطيور التي مرت من فوقنا ليست كمثل بقية الطيور فقد لمست في خفق أجنحتها لغة أخرى ليست تلك التي اعتدنا سماعها من ملوك الدول وهم يقدمون لنا فروض الطاعة، مرت الطيور ولم تأبه بنا بل أنها لم تحسب لنا حساباً نحن الشاهنشاه ملك الملوك ولو لم يكن لها قوة تستند عليها ما كانت تجرؤ على المرور من فوق عرشنا وهي تعلم بالنسور الجوارح التي نمتلكها، أكثر ما يقلقني أن نسوري تقاعست عن الطيران للانقضاض عليها فهل رأيتم نسوراً تخاف الحجل. إنها نذير شؤم سوف يحل بنا ثمة بلاد في مجهول ما لم تخضع لنا ثمة ملك لم يقدم لنا الولاء ربما لم يسمعوا بنا ولا نحن سمعنا بهم وهذا لا يبرر تقصيركم أمامي حيث لا أقبل بوجود بلاد لم تخضع لي ولا أقبل بملك لم يركع بين قدمي مهما كان مجهول الوجود، أين خيولكم لماذا لم تصل إليهم أين جنودكم وعيونكم لماذا لم تسمع بخبر عن تلك البلاد أين جيوشكم لماذا لم تزحف للبحث عنها بلاد يحكمها ملك متمرد يسمو بالطيور شعب يسوس أموره بالضياء لماذا أيها البلهاء لم تحسوا بالخطر هل تنتظرون الحجل أن يقود المجهول إلينا ونحن نائمون.
صمتت الحاشية وكأن على رؤوسها الطير مذهولة خائفة ممّا سمعت من الشاه، فأطرق المستشار برأسه ثم تململ وقال: مولاي على حد علمنا وأنت ملك جهات الدنيا الأربعة لا توجد على البسيطة بلاد لم تخضع لك ولا مليك لم يقدم لك الطاعة إلا إذا كانت تلك البلاد خارج مداركنا أو تكون في بقعة نائية لم نكتشفها قد تكون جزائر نائية تسبح في بحر ضائع أو واحة تحجبها رمال الصحارى أو سهول تلفها غابات كثيفة أو جبال تعزلها الثلوج في الأعالي، قاطعه الشاه أرأيتم التقصير شكوك لديكم واحتمالات تظنون بوجود الخطر الذي أحسه في كياني تظنون بعوالم أخرى ومع ذلك لم تفعلوا شيئاً أنتم أيضاً كالنسور متقاعسون لماذا إذاً كل هذه الجحافل وترسانات السلاح أمن أجل تسمين الجنود في ثكناتهم وصدأ السيوف في المخازن اسمعوا جيدا أمهلكم وقتاً قصيراً لتأتوا لي بالخبر اليقين عن طيور الحجل والبلاد التي جاءت منها حيث نقشت راياتها على ريشها وأرسلتها لتخدش هيبتي هيا انصرفوا عن وجهي وانتظروا فإن لم تأتوا بما يشرح صدري بالرأي السديد فسوف ينضج غضبي سيوفاً على رقابكم.
خرجت الحاشية مذعورة من البلاط تزحف على أطرافها لتعقد جلسة طوارئ مفتوحة والجميع عيونهم شاخصة إلى كبير العرافين الذي انهمك في متابعة الكواكب وقراءة الأبراج وتتبع الأفلاك مستعيناً بالأزياج والجداول يرسم على الرمل خرائط الفلك يضرب الأرقام ببعضها ليجمع طالع الشاه فلم يعثر على ما يثلج صدره، أغمض العراف عينيه ودخل في غيبوبة ليقترب من الآلهة علها تمن عليه بسر من الأسرار تدله إلى الطريق وجاءته الرؤية لتنفتح أساريره حبوراً، عرفت الحاشية أن العراف جاءها بالخلاص فهرعوا جميعاً إلى الشاه ليتقدم منه العراف وهو أكثر ثقة بنفسه حيث لم يسمح علمه لغضب الشاه أن ينضج، فنطق بما اتفق عليه مع الحاشية قائلاً: مولاي ملك الملوك وجدنا أن الطيور المعادية لم تأتِ إلا من جهة الجبال حيث الشمال العالي الذي طالما وقف سداً منيعاً أمام جيوش أسلافك الجرارة وأمام جيوشك تقول الرؤية إن الجبال أنجبت وجوداً آخر تحتضنه في علوها، عالم فريد يسمونه الزوزان عند سقف عالمنا الظاهري، هناك في عالم الأعالي تبدأ الحياة دورة خاصة، لها سهولها ومراعيها وأنهارها وبحيراتها وناسها وسفوحها وغاباتها وثلوجها ومياهها، قمم مجهولة العلو مخيفة لنا يبدأ منها الوجود الآخر محيراً لم يألفه البشر، سمع الشاه كلام العراف فأصابه اضطراب أخفاه عن الحاشية حفاظاً على هيبته أن تهتز أمامهم، فقد كان يدرك أكثر من العراف ومن الآلهة حقيقة الأعالي فقد سمع عنها من أسلافه، حيث بقيت الأعالي حسرة في تاريخ أجداده الذين لم يذوقوا الهزائم إلا على يد أبناء تلك الجهات، ندم الشاه على تسرعه وعلى تكليفه للحاشية بالبحث عن بلاد الحجل فقد جاءوه بالخبر اليقين وبات عليه أن يزحف إلى الجبال وإن لم يفعل اتهموه بالخوف فلم يعد أمامه مجال للتراجع فأصدر الأوامر بالزحف إلى بلاد الأعالي وهو غير واثق من النجاح في ذاك الشمال العقدة.
لم يعرف الغجر حروباً أو قتالاً، حفرة منيرة عالية تتسع لهم جميعاً لتقوم مملكة في قلب كل واحد منهم دستورها كينونة فطرة تسري غريزة مهذبة في ظواهر نبيلة الطباع طيبة السجية.
تحركت جحافل الشاهنشاه، جفل الطريق سقطت ريشة من جناح الحجل فكاد الضوء أن ينطفئ ولم ينتبه الغجر، تقدم الجيش فيلة وضباع والشاه يتبختر بسباعه ودارت عجلات المركبات ثقيلة على جسد الطريق تحمل الجنود والرماح والخيول تجر الأبراج والمجانيق، قيامة تزحف شمالاً إلى الجبال والشمال ثمل في أنواره الصوفية يشرب كؤوس عليائه نشوان والغجر لا يدرون بعالم يجري في مرتفع بأسفل حفرتهم يتابعون السعادة مغمورين بسطوع آهورامزدا على ذرى جبالهم.
وصلت جيوش الشاه سفوح الجبال، تململ الحجل في أعشاشه ليمضي ليلته مسهداً حيث جاءته أحلام والحلم في دنيا الحجل طارئ غير محتمل عكر صفو ريشه الساطع ليبدأ الضوء بالنزيف، صعد الجند الجبال متعثرين يشتمون الشاه في سرهم، قاتلتهم الحشائش والصخور واعترضت طريقهم الأشجار والأجمة وكمنت لهم المنزلقات سحيقة فابتلعتهم المهاوي لقمة سائغة، بلغ الجيش حدود الثلج خائر القوى وعبثاً حاول الصعود إلى الأعلى للعبور إلى ما بعد الثلج الذي تولى الدفاع عن تخومه.. تشاور القادة فتوصلوا إلى خطة لخنق ذروة الجبل دون الحاجة للصعود إليها فأخذوا يضربونها بالمجانيق وقد أكملوا الطوق حول خاصرة الجبل، فوجئ الغجر بالسماء تمطر حجارة وسجيلاً، جفلت العصافير وهي تحترق وقد تمزق الضياء على ريش الحجل، لم يفهم الغجر ماذا يجري لهم فلاذوا بالحفرة العالية والحجارة تمزقهم شواء واللهيب يذيبهم دهشة وذهولاً، طالهم الوجع وفقدت الحفرة أسرار ضيائها فانساب الغجر مع انطفائها وطناً تلاشى غفلة يسحب بقاياه ضوءاً هارباً إلى السماء، ساح الغجر وتبعثروا في حفرتهم بذرة مطمورة بالرماد والحجارة المنصهرة، وتشرد الحجل طائراً مرَّ من فوق رأس الشاه مكسور الجناح فاطمأن على نجاحه في تحقيق حلم أسلافه وصارت له جرأة أن يطلق نسوره في أعقاب حجل جفل من صدمة لم تخطر في باله، رفع الجيش الطوق عن الجبل الذي قرر التمرد أبداً.
طـُمرت الحفرة العالية وفقد الغجر موطنهم وصار عالم القمم خاوياً تصفر فيه الريح، هطلت الأمطار غير مبالية بالشاه وأوامره ونواهيه غزيرة شربت مياهها ركام الحفرة فخرجت من جثامين الغجر براعم نامية، نبات سري طرح زهوراً فاحت عبقاً آدمياً دخل أنفاس الشاه قشعريرة كتمت على أنفاسه فتهاوت الإمبراطورية، نثرت الزهور حبات طلعها على شفاه الهواء وأجنحة النحل وهي تحاول أن تستعيد ذاكرة سابقة تلح عليها أن تتذكر حياة عاشتها قبل هذه المرة فلم تنجح في النفاذ من حاضرها المثقل فأصابها الذبول باكراً، حملت الرياح أضغاث الزهور يلقح بحبات طلعها كل ما يصادفه في طريقه إلى بقاع الدنيا من نبات وحيوان وجماد وبشر، وفي موسم الثمر طرحت الخلائق حملها بشراً تطاردهم ذاكرة قديمة سابقة لمواليدهم مشبعة بالحنين إلى حياة عاشوها ماضياً، فما اعترفوا بالعالم ميلاداً ولا بالأرض التي شردتهم الريح فيها منبتاً.. قلوبهم ترنو إلى طيف إحساس بموطن قديم مبهم يتراءى حلماً غير مكتمل من بعيد سراجاً في ليلة صوتها مدلهم، خاطر هبط في ضمائرهم نجمة تحتضر في التيه فاتخذها الغجر منبتاً يشرفهم.
تدحرجت دمعة حرّى من عيني زينا على خد هايدار واستقرت جبلاً من الملح على شفتيه المرتجفتين ليرتشفها دفعة واحدة غصة مرة علقت عقدة مستحدثة على الطريق لم يهضمها الأهالي.
أردفت زينا مقطوعة الرأس تقول لزوجها هذه الصفحة الأولى من تاريخنا نحن معشر الغجر، فقال هايدار تقصدين السبي الأول أية مأساة عاشها قومك يا زينا، تمنى أن تقول له شيئاً، لكنها لم تفعل فمتى كان الأموات يتحدثون عن أسرارهم، أغمضت زينا عينيها في رأسها المقطوع ونامت في حجر زوجها، فجاهد طوال الليل أن يعيد الرأس إلى الجسد ولم يفلح أرادها جسداً كاملاً حتى ولو كانت جثة هامدة خشية ضياع روحها في الهامش صفحة متروكة بين سطرين مدونين، تظاهرت زينا بالنوم تاركة لزوجها فرصة العبث بروحه وهي تشفق عليه من رحيلها المبكر قبل أن يهنأ بحبها، حاول هايدار وحاول وحاول وهو ينقل الرأس إلى الجسد والجسد إلى الرأس يريد أن يرمم كيانه المذبوح، وحين فقد الأمل حاول البكاء فكاد أن يختنق في حشرجته، حينها فتحت زينا عينيها متظاهرة بأنها استفاقت من رقادها، لتكمل له الحكاية علها تأخذه إلى غفوة بات بأمس الحاجة إليها:
نما الجيل الثاني من الغجر في أصقاع الشتات ومعهم نما الحنين إلى المنبت الأول، موطن مفقود في لواعجهم، أشواك تقض مضاجعهم أينما حلوا فما عرفوا في الأرض مقراً، جالوا الأصقاع صقعاً بعد صقع يدققون في ملامح الأقاليم والبلدان بحثاً عن ملامح أطيافها ماثلة في ذواتهم تراودهم في حلهم وترحالهم فما نالوا سوى الخيبة ليدمنوا التجوال.. خرجوا من نسغ الأشجار يتامى، فلم يتعلموا صنائع العالمين أسباب ترزقهم تؤويهم.. تطعمهم.. تسقيهم.. جاعوا مشردين تاهوا.. افترشوا العراء خارت قواهم هلكوا، اجتاحهم الانهيار فاهتدوا في التيه على طريق يرادف طريقهم، فأخذوا يعرجون على القرى كلما جاعوا أو عطشوا يطلبون عطاء المسافر عابرو سبيل من حقهم طلب زاد المسافر، ومع الأيام صار الطلب عادة فأدمن الغجر مذلة السؤال صناعة وحيدة يجيدونها عمل جديد انشغلوا به فنسيوا البحث عن الموطن المفقود أو اختزلوه سؤالاً يجوبون به الدنيا طالبين العطاء، لم يجدوا فرصة غيرها ليغتنموها عملاً.. مسافرون أبداً إن مكثوا برهة تلدغهم الأرض فيرحلون، كلما صادفوا قرية مروا بها يطلبون زاد عابري السبيل، ومع ديمومة الترحال وطول الأسفار صار الطلب عند الغجر حقاً مكتسباً ارتحلوا ينشدون منبتا يسترجعونه فوجدوا جعبة التسول.
خيمت قافلة منهم قرب بستان وارف ليسمعوا حكيم العصافير على غصن ملكة شجر البستان يقص على قومه حكاية المساء فأخذ يزقزق حزيناً.. كان يا ما كان، كان هنالك شاهنشاه طاغية ضرب طوقاً على بلاد الجبال العالية يضربها بالمجانيق وكرات اللهب ما أجفل أسلافنا العصافير فغادرت أوطانها هاربة من أعشاشها الأولى الآمنة بعد أن فقد أولاد عمومتنا الحجل أنوار أجنحتهم البهية حيث طمر الشاه مملكتهم بالنار والحجارة.
صمت الغجر يصغون بكل حواسهم إلى حكاية العصفور في غفلة عنه، فالغجر بذاكرتهم السابقة يجيدون لغة العصافير حيث عاش أسلافهم معاً ذات مرة في الأولين، نامت العصافير حزينة على أسلافها وتجمع الغجر حول كبيرهم يخبرونه بأنهم سمعوا أو شاهدوا أو قرؤوا رواية العصفور من قبل كأنها حلم بعيد أو حادث قديم سقط في النسيان جاء العصفور لينتشله من قعر ذواتهم ليطفوا على سطح مداركهم ملامح لاذعة تلهب نوازعهم شوقاً إلى شيء خفي يمس شغاف قلوبهم ويبعث في نفوسهم لواعج شتى لتعود الروح إلى حيوات سابقة دب فيها الحنين.. شاركهم كبيرهم أحاسيسهم مؤكداً بأن رواية العصفور تمس صميم مصيرهم المجهول الذي عاشه الأسلاف وقد أكدت الأم العارفة كلام الزعيم مخاطبة قومها ربما لم تنتبهوا إلى شيء آخر في زقزقة العصفور ولكنني انتبهت إليه بكل مداركي.. الحكاية تكمل تلك المشاهد المتقطعة التي تظل تنتابنا وهي توحي لنا بوطن فقدناه منذ أجدادنا أو نحن فقدناه من دون علمنا والله أن العصفور قد وضع بين أيدينا خرائط أرواحنا دليلاً إلى مصير حقيقتنا المفقودة، الرؤية تقول إننا انسلخنا عن وجودنا الأول عقب فجيعة والعصفور يقول إن الفجيعة جاءت من طرف الشاه من طرف البشر.. نعم.. البشر هم وراء تشردنا الأبدي في أصقاع الدنيا بحثاً عن جذورنا الغائرة في غموض لا تستطيع الرؤية توضيحها ما زالت الصورة ناقصة علينا بالعصفور نوقظه ليعطينا الدليل كاملاً إلى قبر موطننا، تقدمت العرافة من ملكة الأشجار حتى وقفت تحتها فصاحت كبير العصافير بلسانه فأستيقظ مرتبكا متبرما معتقدا أن احد أفراد سربه قد أصابه الأرق فجاء إليه يسأله طريقاً إلى الكرى، زقزق العصفور خاملاً ودون أن يفتح عينيه أمر المنادي بأن يعود إلى غصنه لينام إذ ليس من طبع العصافير السهر، ردت العرافة أيها العصفور لست عصفورة في سربك أيها الطائر الحكيم أنا روح معذبة أقحمني حظي العاثر حبة طلع في نسغ شجرة وحين صيرني الرب كائناً جئت في صيغة بشر. ارتجف العصفور وقال على الفور أنت من الغجر وصاح في قومه النذير فطاروا إلى الشرق يطاردون الصباح مسافة نهار تبعدهم عن ليل الغجر، لم يتسنَّ للغجرية استجواب صدفة لن تأتي بها الأقدار ثانية، جفلت العصافير لأنها أفشت لغيرها بسر رباني ما كان يجب لأحد أن يعرفه فخافت من العاقبة، قصة يجب أن تبقى طي الركام في علوها نفياً، عادت العرافة إلى قومها خائبة لتقول أن فرار العصافير يؤكد بأن شكها يقين فهذه الهواجس والخيالات والإيماءات الغريبة ليست مجرد أضغاث أحلام تنتابنا جميعاً دفعة واحدة بل هي صورة الموطن التي تجمعنا كلنا في حلم واحد، روح تطلبنا أكثر مما نطلبها نحن، فلا هي تهتدي إلينا ولا نحن وجدنا سبيلاً إليها، هواجسنا حقيقة وطن سواء كان حياً أو ميتاً أو جراحاً ملقية في بقعة مجهولة من وجود ما، والأرجح أنه موطن مقتول والقاتل إنسان ماذا نفعل بعد هذه الحقائق التي تكشفت لنا هل نبحث عن الجثة أم عن القاتل لندرك ثأرنا.. اعلموا أننا قوم مستضعفون ليس لنا منبت نلوذ به ولا قبيلة نحتمي بها ولا طريق نسير عليه، هذا العالم ليس لنا فيه موضع قدم إنه ليس لنا، البشر يجدوننا مرتبة بلهاء، قطيع بشري عديم العقل والروح سقط سهوا من صفحة تاريخ قديم في سلة مدنيتهم كياناً متطفلاً على فضلاتهم، إن طالبناهم بجثة موطننا فإننا نعلن الحرب عليهم ليتخذوها ذريعة ويفعلوا بنا ما فعل الشاه بأسلافنا وإن فكرنا بالثأر فسوف يمحوننا من الوجود والمسألة ليست في القلة والكثرة بل في قناعتهم بأننا دخلاء على صفحاتهم المشرقة إذ طالما فكروا بإلقائنا من سطح هذا الكوكب قذارة لا بد من التخلص منها ولم يفعلوا إلا لمشيئة الرب الذي وجد أن الفناء راحة لنا فأوحى إلى شعوبه بالإبقاء علينا فقط لنتعذب ومتى ما فكرنا بالثأر فسوف تتمرد الشعوب على ربها وتقتلنا، نحن الخطر الوحيد الذي يهدد أمن الكون ولا يمكن التساهل معنا إلا كما نحن متسولين على أبوابهم نطلب خبزاً، أفضل انتقام لنا هو أن نتابع التسول نستمد من فضلاتهم أسباب بقائنا نجوب مدنهم وقراهم ظاهرنا يطلب عطاءً وباطننا يطلب وطناً سوف نرتحل ونرتحل نجوب الكوكب بجباله وسهوله وبحاره نفتش عن مصير مجهول في منفاه، إن عثرنا عليه فسوف يرفعنا مراتب أعلى بين قطعان الخلائق ويمنحنا القوة لنطالب بدمه فالوطن سحر عظيم حتى لو كان جثة هامدة انظروا كيف استمر في مجهوله حياً في ذواتنا حتى في هذه الأزمنة القاتلة فالوطن ديمومة لها أسراها الخاصة.
وافق الجميع رأي العرافة وانتشروا في الأرض رحلة دائرية متخذين التسول مهنة، طالت الرحلة وتكررت وتوالدت وتكاثرت وتبدلت أزمنتها وتواترت الأسفار أجيالاً وأجيالاً والغجر يصبحون في موضع ويمسون في غيره يلوكون الزمن على دروب الغير، أقاليم صامتة في قبورها وتعود المسافة مفاهيم مجردة للعبث.. وطن اغتيل في الخفاء.. طمر جهاراً شيدوا فوق مثواه دولاً وقواعد لا طريق إلى رميمه الذي أحيل إلى رماد لحظة مقتله، يئِس أجيال الغجر المتأخرون من العثور على منبتهم فنقلوه جثة افتراضية من بدن الأرض إلى ذواتهم فانقلبت الوسيلة غاية واتخذوا عصا الترحال وجعبة التسول موطناً.
تناهى إلى مسمع البشر بأن الغجر عرفوا من العصافير سراً خطيراً صار في حوزتهم اسم قاتلهم فأرادوا أن يبقوا الغجر مخدرين بالعطاء الذي يمنحونهم إياه كلما طرقوا أبواب القرى فأوصوا نساءهم بعدم ردّ الغجريات خائبات أن دخلن البيوت يطلبن العطاء.. حفنة طحين.. حفنة برغل تعويض بسيط عن فقدان وطن، كفارة تغسل يد الأسلاف الملوثة بدم بريء، صدقة تغسل الضمائر من غبار التأنيب، كرم يشتري صمت الغجر.
توافق الغجر والبشر دون عقد مبرم على حل غير معلن، الغجر يغضون النظر عن جريمة وقعت في ماض سحيق بقيت تلهب الحاضر جزافاً والبشر اعترفوا بالعطاء حقاً مكتسباً للغجر.
وضع هايدار يده على فم زينا يطبق شفتيها رفقاً لتكف عن الكلام بعد أن صار كلامها عناء يزيد من أوجاع روحها يثقل كيانها المشطور قبلاً بأقاليمه مذبوحة في مراعي جسد لم يناهز عمره ثمرة غطاها الصقيع في هندسته الأبدية سبات لا يذوب جمود على شفا نزيف سالت طلاسمه خرائط فحواها ذبلت جليداً أصمَّ ذوبانه أسى لم يفارق مقلة زينا حرقة نطقت في ظل جثتها حسرات عصفور في كبد هايدار يلهج.
سكتت زينا عن الكلام ليكمل العصفور الرواية متعمداً ترك فسحات على صوته ليغرد الزمن على سطوره كيفما شاء يعدل الحكاية، والتدوين ما زال في مبتدئه والخبر جار في مضارعه خارج النحو حائر ناجر في صرفه والاختيار بين النصب والجزم لا محل له في الظروف مسكناً يرتاح فيه ليبقى حرفا ناقص المغزى، أبجديات خلت علماً نافعاً، فقه السيوف على الأعناق علم ناجز يفسر الأحكام حداً سافلاً، ضحك الزمان له صعلوك فتح عينيه رأى الوجاهة بعد المزابل مقاماً فلم تبدل الرياش من طبعه فظل يحن إلى المشاش طعاماً في أسه عطش إلى العظام لا يرتوي من الدماء كلما أمعن في القتل جاعت جراء العرش شراهة تقتل، للقتل متعة الخراف مفعول بها ناقص وعلامة جرها السكون والفاعل في محل رفع كامل.. الإنسان وباء.. الرجل علقة.. المرأة كفر.. الطفل هرطقة قادمة.. الآخر من الكبائر.. الحجل قيامة فليقتل الصعلوك ما يقتل مرحى له قواعد النحو تجيز، هكذا جاءت هناك فاعل ومفعول به دائماً وأبداً، للفاعل وظيفة وللمفعول به واجب الطاعة حفاظا على البيان من اللحن، الذبح جهاد أصغر وتفجير جسد فجهاد أكبر، اقتل يأتيك الله أجرك مرتين، اقتل خروفاً.. شجرة دجاجة.. منزلاً.. طفلاً.. امرأة.. راهباً.. بندورة.. فإن لم تجد ما تقتله لا تحتَر فإن إبليس ينكح الحائرين اقتل نفسك واذهب شهيداً خير لك من نكاح الشياطين .
لم ينته التدوين لأن مبتدأ الرواية ماطل خبرها لعل الزمن يعدل فصولها الآتية والعصفور يتابع السرد والكتبة حائرون في إملائها تلهب مؤخراتهم الشياطين.
ظلٌ تنبأ بأصله برعم نما تحت القلاع أزاح عن العشب رعونة الثلج تفرع وأزهر تفتحت قرابين أثمرت وطنا يرفع ركام الزمان عن أجنحة الحجل ويعود الريش ينطق ضياءه.. زقزق العصفور نشيده الأزليّ جفلت النسور الداجنة في أقفاصها الذهبية ترنق بأجنحتها هلعا تموت.. طار الحجل شامخاً يسبح بألوانه على تخوم الشاهنشاه يتحدى الفناء شاه تعفنت عظام دولته آن لها أن تتفتت في مجدها المزوّر آن للغجر وطن يقوم من صليبه المفقود آن للعصافير ضياء آن للحجل عش هادئ آن للحقول أن تطرح السنابل آن للأسماء المصهورة جهات نائية أن تنبض حروفاً غير مجزومة في قلب أقاليمها العالية آن للقبائل أن تروض وللجراد أن يعود لكثبانه البعيدة.. آن للشمس أن تجد لنفسها حطباً غير هذه البلاد آن للرب أن يراجع نفسه ليجد تسلية غير اليتامى.
أطلق هايدار زفرة نارية مع صمت زينا الكاوي ليجد هيولى انتماء بينه وبين الغجر غلبته العاطفة فتخلى عن فكرة الثأر منهم، فهم الاحوج إلى من يثأر لهم، عينا زينا في رأسها المقطوع تحدقان عميقاً في هايدار إلى البعيد الأبعد تعاتبان زمناً خسيساً سكت عن الحقيقة فلم يدون على الفسحات المتروكة ما كان يلزم تدوينه ليستمر جرح الميديين ندوباً في دفاتر الفخار التي ألقوا بها في الرافدين فسبقوا المغول إلى هذا المجد منذ أمد بعيد.
دفن هايدار زينا في زفرته الثانية فصاح الديك بما يشبه العواء حين أحس بالزمن يتلصص حول السور الذي ترقد عليه دجاجاته، ثعلب ماكر تآخى مع عظام الشاه والذئاب، شمت كلاب القرية رائحة خسته فلم تنبح نزولاً عند مشيئة عليا حرمت النباح، نفس المشيئة التي أباحت للزمن أن يتسلل هارباً من التدوين لتبقى زبدة التاريخ طي الفقدان حيث لم تستطع القرية إثبات وجودها لانتفاء زمانها سالت الزبدة رغوة حكاية من وريد زينا يلعق نزيفها الغرباء القادمون على الطريق عنوة.
عاد هايدار يفتش ما وراء الأجمة هناك أشواك الجمل ليضبط أطياف لمحها في ذاكرة سابقة نسخت له مفردات الجريمة السابقة ذاتها والزمن ذاته الأعور يفرغ مداده ليتملص ثانية من التدوين بعد المنعطف الثاني الذي انقلبت فيها الأفلاك إثر مقتل زينا.
العصافير ترفرف عالية بالاحتجاج لتسرد نتف الريش الرواية، المكان هو هو والزمن غائب والعصافير تروي تداخلت الفصول والرواية مفتوحة الأبواب حتى تدرك ثأر أبطالها فابتلعت زينا و هايدار صفحة جديدة في الصميم على دفتر صلصال لم يوقع عليه أحد، رواية تدرك ذاتها لها ثأر مع الزمن محكومة بنفسها تعيد الصياغة تستدرك أسطراً كثيرة ناقصة أغفلها الكتبة عمداً وتستحدث سطوراً متذكرة خريطة بدنها الأول حين كانت تخط نفسها خريطة حية خلاصة وطن حمل رفاته على كتفه جسرا لنفسه يعبر بذاته في ذاته إلى ذاته قيامة في ذاته العليا، قبض هايدار على الزمن وحش جامح ليمتطي ظهره يروضه ليكتب عليه تاريخ غده مكتمل الشروط محل وتاريخ الولادة حتى لا يحصيه الآخرون ثانية في أقاليمهم بقاع مكتومة القيد تستعطف سكارى حقوق الإنسان أن يصحوا برهة حتى يستحصلوا لأصحاب الرؤوس العنيدة على بطاقة تعريف لا تقبل بها أبقار تحترم نفسها.
بعد عناء أوصل الرجل الطحين إلى القرية ودخل داره وهو يلعن أبا زوجته وأبا الحمار هرع الأهل لمساعدته في رفع الأحمال عن ظهر الحمار الذي قاده الصبية إلى الحياض، يسقونه ويغسلونه ويذرون رماد تنور أمهم على تقرحاته، انتعش الحمار حتى أحس بأن وزنه أخف من ذي قبل، فأخذ ينهق بملء إرادته، أطعمه الصبية تبناً وشعيراً وساقوه إلى البيادر ليرعى مع أقرانه فامتلأ بالحبور والرضى، لينهق ثانية كما لم ينهق حمار مثله من قبل، نهيق له وقع آخر في مسامع سيده الذي ارتاح بعد الاستحمام وتناول الطعام، فصارت له رغبة في مضاجعة زوجته في الهواء الطلق، فذهب جامحاً نحوها ويداه تطبقان على فمه فقد كاد كيانه كله أن ينهق، حيث هبط عليه الحب بغتة حين تعرف على قلبه صدفة، ليجد أشياء في زوجته لم يجدها من قبل، قادها إلى الخلاء منفرداً بها ليفجر مشاعره نهيقاً سمعته القرية كلها عدا الحمير لم تسمع فقد كانت مشغولة بالرعي والذباب.
عاد الطريق من خلوته الطويلة تاركاً خزعبلات حجي محمد الأعور عن الحلول ليحل نفسه في نفسه ذاتاً أخرى أبعد غريبة عن الدنيا وعن الغيب فأدرك أنه تأخر عن المكان كثيراً، نظر من حوله فوجد الأسماء التي لازمت ولادته حيث بقيت براعم يافعة في قلوب أصحابها عصية على الاقتلاع.
اجتمع الدرك على مفترق الطريق ينبحون غيظاً، أقاليم كلما اجتمعت عليها العواصم تجرها جهة منسية إلى مشيئة غباء طاغوتي، عادت عواصم في أرواح أجنة المكان موطن عالي اسمه في ذاته محفوظ، راية يخفق بها ريش على أجنحة الحجل، أسراب تبشر الطريق بأن المكان لم يفته بعد إذ لديه فرصة لمتابعة رتابة حياة قرية تقض مضاجع جيران السوء.. أطفال حليقو الرؤوس يعاندون ذويهم يفرون من الأبواب والنوافذ إلى ساحة القرية وحواريها يرتقون فروة رؤوسهم مستفزين الشمس يمرغون عنجهيتها يلعبون بالتراب، وحده ارناويت هكذا كانت تناديه أمه لغرابة أطواره ابن الست سنوات كان له مسلك آخر دون أقرانه لم يفهمه أحد، ولدته أمه وهي تفلح أرضها تجتث جذور عشبة الفريز المتيبسة التي ما إن تصلها المياه حتى تحيا من جديد لتفترش الأرض بساط أخضر منسوج بصرامة يقطع أنفاس شجيرات القطن فلا تجد فرصة للنمو، حياكة ربانية تبعث الحسرة في قلوب المزارعين الذين عجزوا عن مكافحة هذه العشبة القاتلة، آفة تخنق المزروعات في مكانها فيأتي المحصول دون الطموح، امتعضت أم ارناويت من استسلام الرجال أمام عشبة قهرتهم ومن استخدامها كل وسائل التعشيب المتبعة دون جدوى، فخطر على بالها فكرة، قال البعض إنها مجنونة، وقال آخرون إنها حمقاء، ولكنها اتخذت قرارها العنيد حين عزمت على اجتثاث العشبة من جذورها واقتلاعها من أعماق أرضها شبراً شبراً، وسرعان ما باشرت العمل، والناس لا يصدقون، فقالوا: إن هي أيام حتى تيْئَس وتستسلم وتعود إلى القرية، فالمساحة أمامها هائلة، مضت أيام وأشهر والأم تتحدى وهي تفلح الأرض لتدك كتل الطين اليابسة بمطرقة حديدية تفتتها إلى تراب مطحون تستخلص منه جذور العشبة وتجمعها أكداس ثم تشعل فيها النيران، تابعت الأم التحدي وأخذ الأهالي ينظرون إلى عملها بإعجاب، فقد أخذت المساحة الهائلة تتقلص أمامها ببطء، ولحسن حظها هطلت الأمطار مبكرة، فقال المزارعون: الآن سنعرف نتيجة عمل حنوكي، مضت أيام وسرعان ما ارتفعت عشبة الفريز في الحقول خضراء يانعة تنمو بشراهة، إلا حقل حنوكي فقد بقي نظيفاً خالياً من الأدغال، عندها تأكد المزارعون أنها فعلت الصواب وإن كان عملها فوق طاقة نسائهم على تحمل المشقة، وحين عرفت الأم نتيجة جهدها تشجعت لتمضي قدماً في تنظيف ما بقي من أرضها مدفوعة بمديح رجال القرية لها وإعجابهم بإصرارها على التحدي، فضاعفت من عملها قبل أن يأتي وقت البذار، وقبل أن تنجز مشروعها الجنوني جاءها الطلق وهي في الحقل، لتطرح بمفردها مولودها الأول البكر سباسدار وعادت به إلى البيت متباهية، فقد أنجبت ذكراً بعد ثلاثة بطون من الإناث، فاعتبرت ذلك مكافأة لها من رب العباد، وما كادت بضعة أيام تمضي حتى باشرت عملها من جديد تستأنف معركة لاحت فيها تباشير النصر، أعدت الأم لرضيعها مظلة من أكياس القنب الهندي البالية التي تستخدمها النسوة عادة مظلات لتربية أفراخ الدجاج وديكة العلو، سباسدار صوص صغير ملقى تحت مظلة تقيه وهج شمس الخريف المزعجة، بينما أمه في جواره تنكش الأرض تبحث عن سر تجهله حيث لم تعد قضيتها محاربة عشبة فحسب بل شيء آخر كان قد نبت في بواطنها يزعج روحها، فحين انتهت من الحقل الأول تحولت إلى الحقل الثاني والثالث وأخذ ذلك منها شهوراً وسنين، ولم يكن شيء يحيرها سوى طفلها الذي بقي صامتاً هادئا في قماطه وهو رضيع لا يبكي لا يناغي لا يتحرك لم يكن يزعجها أو يشغلها عن عملها المضني، فكانت بين الساعة والساعة تذهب وتتفقده خشية تسلل حية إلى خيمته، فترضعه وتبدل قماطه وتلاعبه لحظات ثم تعود إلى عملها بعد أن تلقي عليه نظرتها الأخيرة وهي تقول له: انتبه يا سبعي الصغير إذا ما لمحت حية اصرخ عالياً لتجد أمك كيف تسحق رأسه بيديها، كانت حنوكي مشهورة في صيد الأفاعي والإمساك بها، ولكن الرضيع كان ينظر بعينيه الصغيرتين إلى ما وراء غيوم الخريف يطارد بهما زرقة السماء اللامتناهية، وكلما ذهبت الأم وعادت وجدت رضيعها شارداً بعينيه إلى ما هو أكبر من عمره فخافت أن تكون به علة خفية، كبر الرضيع وكبرت الأم وخرجت من المعركة منتصرة لتخوض حروبها الموسمية ترتاح في الشتاء وتباشر القتال في الربيع والخريف، خرج الرضيع من قماطه طفلاً وغادر خيمة الصيصان يتبع أمه غداة وعشياً يتدحرج خلفها بين الحقول تحركت يداه وقدماه ولسانه وكان أول كلمة ينطق بها هي فريز فلم يسمع من أمه غيرها طوال شهور رضاعته، ازداد قلقها عليه خافت أن يكون عيب في عقله حيث تتركه وحيدا في الحقل فلا يتبرم ولا يشتكي كما يفعل الأطفال الآخرون بل يسير بعيداً ويستلقي على ظهره ينظر إلى السماء بحنين جارف حتى صعقها ذات مرة بسؤال هز كيانها وأربك عقلها لتغادر الحقل دون رجعة.. أماه: من هو الله أريدك أن تأخذيني إلى بيته.. ذعرت الأم من سؤال شيطاني كهذا كيف يخطر بذهن طفل لم يكد بعد تعلم الكلام، فانهالت عليه باللكمات.. استغفر الله.. استغفر الله.. فليكسر الله فمك أيها الإبليس القزم من أين لك هذا الكلام، سرت رهبة غريبة في قلب الأم وخافت على رضيعها وهي في العراء أن يمسه الغيب بسوء فأخذته في حضنها تغطيه بشالها وركضت نحو القرية تلوذ بدارها والعرق يتصبب هلعاً بارداً من جسدها، بقيت قلقة على طفلها وهي تقول لنفسها: عرفت منذ البداية انه غير طبيعي الأطفال في سنه مثل الدجاج ينامون منذ المساء ولا يصحون إلا في الصباح هو وحده يظل طوال الليل يتقلب في فراشه يتأفف وكأن ألف شيطان يركب ظهره ليمنعوه من النوم ماذا يقولون له، كنت أعرف أن رأسه المدور كبطيخة فجة مليء بأفكار أكبر من عمره كنت أعرف أن في فمه كلاماً يتردد في البوح به.. يا ربي سامحني وسامحه من أين لي أن أعرف أنه سيسأل ذاك السؤال لو كنت عرفت لأطبقت بيدي على فمه حتى لا ينطق به.
قررت الأم حرمانه من مرافقتها إلى الحقول فانخرط سباسدار الارناويت في حياة القرية وانضم إلى الأطفال ولكنه سرعان ما انزوى عنهم حيث لم يجد لديهم ما كان ينقصه، منذ أن كان مضغة في رحم أمه كان يبحث عن شيء ما ضاع منه قبل خلقه، نزلت الروح في كيانه ملبدة بذكرى قديمة، فدبت الحياة فيه مشوشة بأنين سابق، حتى أدرك ذاته حنيناً عاصفاً من مجهول ما، لا يدري إن كان في أعماقه أم هو الكون الأبعد قد حل فيه، أحاسيس دافقة تنتابه من عوالم تتراءى له أحلام مرت به حين لم يكن من قبل، عاشها في لحظة خالية من الوجود، ذكريات غائرة في روحه تطفو خاطفة، أطياف من ضباب كثيف يلفّ صدى همهمات خافتة تدخل مسامعه تهمس له أيها الأبله الصغير رجعت إلى الوجود ناقصاً ونسيت بعضك الأهم يتعذب بفقدانك، هناك كنت كياناً كاملاً فلماذا ضحكوا عليك وأعادوك إلى هنا إلى هذا الجحيم.
في الحقل خرج سباسدار من بطن أمه، وهو مشغول بهواجسه يفكر إن كان ما يفكر فيه حقاً هو بعضه المتروك هناك أم يحن إلى هناك ذاته، أحاسيسه تلح عليه بأن حياته هناك وليس هنا، ولكن أي طريق بعيدة إلى هناك، وقد نسي خريطة هناكَ هناكْ.. حين كانت عيناه تطاردان السماء، كان يبحث عن دليله.. حين سأل أمه عن بيت الله كان يسأل عن بيته الآخر.. حين اعتزل الأطفال كان يريد الذي لم يجده في ألعابهم البليدة، اشمئز سباسدار من أمه وإخوته وأبيه وجده وجدته وعماته وأعمامه، ومن الحقل والأغنام والحمير والبيت ومن نفسه و من القرية.. روح معذبة سجينة جسد غبي منفية عن ذاتها مسافة قهرية.. طفل كئيب مهموم حزين لا يعرف ماذا يريد أو ماذا يريد منه ذاك الحنين الغامض الذي لا يبارحه.
اعتقد الآخرون أنه هكذا خلقة غريبة الأطوار، فلم يعرفوا بدورهم ماذا يريد أو ماذا يراد منه.. أثقلت كاهله أفكار مجردة أوسع من كيانه فسقط في كآبة مزمنة مرسومة على وجه بريء.. آلام تمزقه من الصميم تلح عليه أن يدرك ما لا يمكن إدراكه.. كيان في غمرة النشوء غرق في وجد الصوفية، فأخذ يسبح في معاناته يتأمل، ابتعد سباسدار عن الأطفال، وسار في ساحة القرية بمفرده، حتى بلغ بحيرة حجي أحمد، التي كانت تمتلئ بمياه الأمطار شتاء وتجف صيفاً، لتصبح مرتعاً للدواب والدجاج و الكلاب، مشى سباسدار في قعر البحيرة، ليصادف في جدار طرفها الشمالي مغارة صغيرة، فدخلها دون تردد، وكأنه سيجد ضالته بداخلها علها تخلصه من آلامه، فوجد المغارة مسكناً لجراء الكلبة ملحة، جلس بقربها يطلب منها أن تتوسط له عند والدتهم حين عودتها لتقبل به ضيفاً بينهم، انشغل سباسدار بالجراء يلاعبها ويحادثها حيث رحلت عنه تلك الأحاسيس الغامضة مجهولة المصدر، فأخذ يمارس طفولته لأول مرة، ثم انتبه لإحدى الجراء معزولة عن باقي إخوتها جاثمة لا تتحرك فقال في نفسه: هذا مثلي رجع إلى الوجود ناقصاً ليتعذب حنيناً إلى بعضه هناك، حمل سباسدار الجرو المنطوي على نفسه واحتضنه حيث مالت عواطفه نحوه دون بقية الجراء فسماه على اسمه سباسكو، نام الجرو في حضنه فشعر بسعادة وانتقلت العدوى إليه فتثاءب وراح في إغفاءة عميقة وغاب عن الوجود، مالت الشمس إلى المغيب، وعادت الأم من الحقل فلم تجد طفلها، فخرجت تسأل الأهل والجيران تبحث عنه في بيوت القرية، ذعرت الأم لغيابه، وخرج الأهالي معها يبحثون عن الطفل، وسرعان ما كثرت الأقاويل والتوقعات بين النسوة بين قائلة إنه ربما تاه في العراء ونام في بقعة من الخلاء وأخرى تقول ربما الغجر حملوه في طريقهم، و أخريات قلن لماذا لا نفتش الآبار.. ربما.. ربما.. جن جنون الأم خوفاً على طفلها، وقد خيم الظلام، والظلام فأل غير حسن لأبناء البلاد العليا، إذ كل مصائبهم تقع في وضح الظلام، أخذت الأم تصيح خبط عشواء سباسدار.. سباسداركو.. أين أنت يا طفلي الحبيب هيا عد إلى أمك فقد جاء الليل عد يا خروفي الصغير فالليل مليء بالذئاب.
استغرق سباسدار في نومه داخل الجحر ولم ينتبه إلى نفسه إلا مع نباح الكلبة ملحة عليه حين لمحت في الجحر دخيلاً بين جرائها، ولو أنها امتلكت شجاعة كافية لكانت تهاجمه وتمزقه إرباً خوفاً على صغارها من رائحة آدمية دخلت أنفها على مدخل المغارة، لترجع إلى الوراء وتنبح عليه ليغادر المغارة بطريقة ودية قبل أن تعلن الحرب عليه، فتح سباسدار عينيه فوجد الجحر قاتماً ليخرج منه راكضاً صوب المنزل، وحين اقترب سمع عويل أمه في الجوار فخاف من العقاب، فأخذ يتسلل إلى زريبة الماشية يختبئ بينها ليفكر بطريقة يدخل بها البيت دون أن تعاقبه أمه، ماذا سيقول لها إذا سألته أين كنت، هد الخوف والتعب الأم، فجلست على الدرج الخارجي للمنزل واضعة يدها على خدها تنتظر الرجال الذين خرجوا إلى البراري بحثاً عن الولد، غلبها النوم ليأتي بالفرج إلى سباسدار ، الذي ما إن لمح أمه نائمة في مكانها حتى ركض إليها وارتمى في حضنها، قط أليف يتملق صاحبه صاح ماما.. ماما انهضي أنا جوعان استيقظت الأم ترقص طربا بعودته.. ابني حبيبي.. كبدي هل رجعت الحمد لله الحمد لله وبعد أن لثمت كامل وجهه عناقاً قروياً وحين اطمأنت على سلامته اكفهر وجهها وانقلبت سحنتها، فأمسكت بأذنه تشده بقوة تريد اقتلاعه وهي تقول: والآن قل لي أيها الشيطان أين كنت لقد مزقت كبدي هلعاً وكدت تسبب لي نوبة قلبية إلى متى تفعل بي هكذا متى تصبح طفلاً مثل بقية الأطفال تصرفاتك أيها الجني سوف تفجر مرارتي انظر القرية كلها خرجت للبحث عنك وأنت مثل العفريت تقف أمامي أين كنت هل خرجت من باطن الأرض أيها الشقي، خلعت الأم حذاءها المطاطي تلوح به لسباسدار مهددة سوف أعد إلى ثلاثة فإن لم تخبرني أين كنت سوف أجعل هذا الحذاء يأكل من لحمك، تردد سباسدار وتلعثم في الكلام ثم قال بلغة المذنب: كنت هناك فقالت: يا ارناويت ابن الارناويت هناك أي هناك فالقرية فيها ألف هناك وهناك قل لي أين كنت فقال: هناك في جحر الكلبة ملحة، سمعت الأم إفادته، فامتلكتها رغبة جامحة في الضحك وقالت في نفسها فتشنا عنه كل مكان وهذا الملعون نائم بين الجراء، لأمر مجهول راقها أن الولد كان يتسامر مع الكلاب ولكنها لم تفصح له عن مشاعرها لتخاطبه تهديداً وصراخاً وتأنيباً: يا لفرحتي وافتخاري ابني يعاشر الكلاب وينام معها كيف لم يخطر لي هذا، وأنت جرو مثلهم ألم أنجبك في العراء ألم أربيك في العراء يا لي من حمقاء والله سوف أسلخ جلدك هذه الليلة، أمسكت الأم بيده وأخذته إلى الحمام، لتضعه في طست معدني تغسل جسده بالليف وتفرك يديه وقدميه بحجر الاستحمام، ثم حملته إلى غرفة المعيشة، لتدهن جسده بالفازلين حتى لا يتشقق جلده، انتعش سباسدار أيما انتعاش وتناول العشاء ونفد بجلده فقد كانت عقوبة الأم أخذه إلى الحمام.. واستمر في زيارة الكلبة وجرائها يأخذ منها الحكمة وملكة التأمل حتى جاء الشتاء وانهمرت الأمطار وكبرت الجراء وغـُمر الجحر بالمياه وخرجت جراء الأمس تشق طريقها بعيدة عن أمها إلا الجرو سباسكو الذي تبع صديقه إلى داره، بقي الاثنان يخرجان إلى البراري الشاسعة يبحثان عن ذواتهم المستحيلة وفي كل مرة يعودان بصيد ثمين.. صار ارناويت صبياً نابغاً يحير والديه بغرابة أطواره وسلوكه العجيب وكلامه الغريب الذي لا يفهم مغزاه أكثر رجال القرية حكمة ومعرفة، فذاع صيته بين الناس عالماً ليكسب تقديرهم وإعجابهم.
كثيراً ما كان يخرج في آخر الليل مع كلبه يوقظ أمه لتعد لهما طعاما، ذريعة ليفاتحها بحديث في بعض الأشياء لا أحد يعرف سرها كأمه فتقول: أيها الجني توقظني في أنصاف الليالي تسألني أنا الخرفة عن العلم وأنا فلاحة لم أعرف غير الأرض علماً ألا تعرف النوم يا بني..؟ حقا أنك ارناويت والذنب ذنبي فأنا التي أنجبتك في البراري لتخرج إلى الدنيا كائناً برياً لا يمكن تأنيسه، سألها ذات مرة أسميتني ارناويت ولم تقولي لي ما معنى أن يكون أحدنا ارناويتا، فأجابت كل الأشخاص الأشقياء ممن يمتلكون سلوكأً غير اعتيادي يسمون ارناويت وأنت كل تصرفاتك غير اعتيادية دائماً تصدمني بسلوك منك غير متوقع أو تبوح بكلمة تصدم السامع فلا يتوقعها منك، أنت لا تعرف النوم وهذا مسلك ارناويتي، فقال: لا يا أم ارناويت، الارناويت هم عسكر السلطان التركي من الألبان ممن سلطهم على رقاب الناس فذاق أجدادنا الشقاء على أياديهم ولشدة بطشهم وبغض الناس لهم أخذوا يكنون كل شخص مشاكس بالارناويت وهذه كناية خاطئة وليست في محلها بالنسبة لي. فقالت الأم: أنت مشاكس وقد أشقيتني دائماً وأبداً وفعلت بي ما فعل عسكر السلطان بأجدادك، تدخل الكلب بالنباح وكأنه يريد أن يؤكد رأي صاحبه، فذهبت الأم إلى فراشها مهزومة، فقد تأكد لها أنها لن تغلب ارناويت في النقاش ونامت مطمئنة حيث اجتثت جذور العشبة من أرضها كاملة وكذلك اجتثت المخاوف على ابنها من قلبها الذي اعتقدت بأنه غير سوي فإذا به يذهل عقلاء القرية بحسن حديثه وبراعته في تدبير أفكاره وترتيبها لتزيد أعداد المعجبين به.
علم الطريق بقدرة سباسدار في الولوج إلى عوالم أخرى سابقة أو آتية أو حتى مؤجلة إلى إشعار آخر، فأوحى إليه أن يسلكه في رحلة تصقل مداركه الفطرية يملي عليه ما في ذاكرته الطويلة من أخبار وأحداث لا يحفظها غير الطريق، وكان سباسدار متعطشاً إلى كل دعوة مبهمة ليخوض مغامرة جديدة قد تجيب على ما كان يشغل ذاته منذ البداية، فسار في الطريق مجذوب بمغناطيس الفضول يصغي إلى طنين إذنيه أرواح غافلة تحادث بعضها بعضاً، أحاديث تسنّى له أنه سمعها غير مرة، فسأل نفسه هل يمكن أن أكون أقدم من نفسي هل يعقل أن لي وجوداً آخر في هناك ما، اضطربت نفسه فجلس على قارعة عقله يفكر ولو كان للكلب قدرة على النطق لقال له أنت محق فأنا أيضاً أشك بوجود خفي لي في هناك ما لا أعرف أين موقعه، بقي سباسدار يحاور نفسه من يعرف هناك قد تكون المفاهيم غير المفاهيم قد يكون وجودنا الظاهر بالنسبة لوجودنا الآخر مجرد عدم وقد لا يكون هناك أي مكان أو زمان ألم نخلق نحن هذه المفاهيم في أذهاننا مجرد رموز وأدوات نتداولها فيما بيننا نستعين بها في الدلالة على مبتكرات عقولنا المزيفة أليس الزمن نتاج العقل فإن مات العقل مات الزمن وهذا يعني أن الزمن غير موجود إلا في أذهاننا ولكن أشياء كثيرة تجري خارج عقولنا أي خارج إرادة الزمن وهذا يعني أن الزمن وجود وهمي معدوم في الكون لا يمكن تلمسه، ليس الزمن من يأتي بالليل والنهار ولا هو الذي يغير الفصول ثمة حركة أخرى لها وجودها في ذاتها كينونة مجهولة الأبعاد، ولكنها حقيقية تمارس فعلها خارج إرادتنا بل هي التي تحركنا كما تحرك الأجرام في الفضاء، الزمن خدعة أجبرنا أنفسنا على تصديقها مفهوم ندير به شؤون حياتنا التي لا تستقيم بدونه، التفت إلى كلبه يسأله: ها سباسكو أراك شارداً ماذا تقول بالذي أنا أفكر فيه هل تستطيع أن تعطيني انطباع عن مفهومكم انتم معشر الكلاب عن الزمن هل تحسون بوجوده في كيانكم ولكن إذا كنتم حقاً لا تملكون العقل فالزمن معدوم لديكم لأن وجوده مشروط بوجود العقل وهذا يضعنا في تناقض محير فالليل عندي كصاحب عقل هو جزء معين من الزمن فماذا يكون الليل بالنسبة لك طالما أنت لا تدرك الزمن هل ليلي يختلف عن ليلك أم كلانا ليله واحد ألا يعني هذا أن الليل لا علاقة له بالزمن الذي لا أجده غير ابتكار باطل، بقي الكلب ساهماً فقد كان مشغولاً هو الآخر بأشياء تخص الكلاب وحدها.
نهض ارناويت يتابع المسير لينفتح الطريق أمامه وجودا آخر مليء بالغرائب رويداً رويداً ذاب فيه ليصل إلى هناك، فلم يجد بعضه فيه بل وجد القرية معلقة بالسماء رأساً على عقب، الناس والدواب والطيور متدلية تمشي على رؤوسها والنبات تدلت أغصانها إلى الأسفل.. هوة سحيقة، الرياح تهب إلى الخلف والتنور انقلب على فوهته يتصبب ناراً إلى الأسفل، كل شيء على وشك الانفلات لينسكب في مجهول ذاته شتات على شفا حفرة يغمرها الغمام تفور منها أطياف مشهد يومي في حياة مملكة قيد التأسيس.. حوريون يهذبون الحجارة.. يصبون الكلبيج.. يطاوعون الحديد.. يزرعون الحقول ومليك قلبه دافئ يمسح العرق عن جبين شعبه.
غجر ينصهرون في مرجل شاهنشاه غاشم أرواحهم تنسكب على رؤوس الجبال لتنحدر متناثرة على الأرض ندوباً بقيت في كل القفار تخدش حياء الشرائع.
اضطرب ارناويت، وارتفع نباح كلبه، خشي الطريق عليهما أن لا يتحملا وقع الحقيقة فيفقد سباسدار عقله، فقرر أن يكتفي بما أعطاه من مشاهد لا يجوز للبشر مشاهدتها، وضع الطريق حجرة أمام سباسدار ليتعثر بها، فعاد إلى كيانه، وفي هذه الأثناء كان ارناويت قد وصل مشارف المدينة، فدخلها ليتعرف على الكتابة والقراءة ويحظى بأصدقاء جدد حملهم أكداساً في جعبة وضعها على ظهر سباسكو وعاد إلى القرية، ليعدل وضعها المقلوب رأساً على عقب، وما كاد يصل حتى باشر بصب الكلبيج، ودون أن يسأله أحد عن عمله تطوعوا في مساعدته، مضت أيام وجف الكلبيج، فأخذ سباسدار يجول ببصره في حرم القرية حتى وقعت عينه على تلة بجوار بيت حجي إبراهيم، فقال لرفقته: سوف نبني هناك على تلة الحجي.. ماذا نبني يا سباسدار.. بيت.. مسجد.. حظيرة.. فقال: اعملوا ولا تسألوا وغداً سوف تجدون ما بنت أياديكم فقالوا: حسناً، باشر الجميع العمل بحماسة، فقد توقعوا أن ارناويت العجيب سوف يبني شيئاً غير مألوف، وحين خط البناء ووضع أساسه فغرت الأفواه وصاح الأهالي بعضهم بعضا سباسدار سوف يبني شيئاً لم نرَ أفضل معلم بناء يبني مثله، وما كاد شهر يمضي حتى أصبح البناء جاهزاً سأله رجالات القرية: والآن بعد أن تم تجهيز البناء ماذا ستفعل به يا حكيم ارناويت، فقال: فيه سوف أعيد بناء أبناء القرية وبناتها، ضحك العقلاء استخفافاً به وسألوه وهل أولادنا بيوت مهدمة حتى تعيد بنائهم فقال: سوف أبني عقولهم ومداركهم وأعيد تكوينهم على صورة أفضل من الصورة التي هم عليها الآن، هذه مدرسة أيها الناس إنها الطريق إلى بناء ما تهدم في دواخلنا، جاهد سباسدار ثلاثة أيام وهو يناقش عقلاء القرية في مسألة فتح المدرسة وتعليم الأهالي وبعد ممانعة قوية استطاع إقناعهم ونجح في إدخال مفردة جديدة إلى عقول الناس الكتاب.. كتابي.. كتابك.. كتابنا.. كتابهم، عشق الأطفال كتبهم ومعلمهم ارناويت وكذلك ناصرته النساء أما نصف الرجال فقد تحفظوا على هرطقته وبدعه بل أبدى بعضهم سخطه فقد سرق سباسدار منهم قلوب نسائهم وأطفالهم.
رضي سباسدار عن نفسه وأحس بقرينه المنفي هناك قد لحق به فخرج إلى العراء مستلقيا على ظهره وقد شعر برغبة كبيرة في النوم كأنه لم ينم منذ دهر فنام ونام كلبه معه.
مر سرب حجل فوقهما قادماً من سفر طويل يحمل على ريشه روح سيده فارتسمت ابتسامة ملاك على ثغر سباسدار ، طفل تركته أمه في العراء تمتحن عزيمتها، جاءت روح سيد الحجل بشارة سمعها سباسدار في حلمه تنطق الفراشات به والعصافير والبراعم النامية بعد هطل خريفي مفاجئ زخات مبدعة رسمت زخارفها على الأرض نبوءة.. سيد آخر سيأتي سلالة ميدية تنبعث لتروض الشمس نقشا على راية آن لها آن تظلل البلاد العليا كي لا يحترق أطفالها ثانية في رتابة الجهات المفروضة بالعزلة.. استفاق سباسدار بعد برهة على صدى دوي كبير أطلق أفق القرية من عقاله فشعر الطريق بعروقه المسدودة تنفتح من جديد.
جاء الدرك يكزون حنقاً على أسنانهم حائرين مع الطريق إذ كلما جردوه من ذاكرته عاد يشحن ذاته من جديد، ليبدأ من نقطة الصفر حين قتلوه أول مرة، تاريخ عنيد يرفض أن يطوى صفحة على هامش واقع صنعه الآخرون، قبل ابتكار الزمن والطريق متخم بالفجيعة التي غطت على كل شيء في القرية، فلم تسمح للزمن أن يدخل إليها لتبقى القرية مشطورة الانتماء حيث لم يعرف أحد ولا حتى هايدار أو سباسدار إلى أي زمن تنتسب قريتهم، فالطريق نقوش طلاسمها مدونة بلغة الهواء حين يكون خانقاً فلا يجرؤ أحد على محاولة حل رموزها خشية السقوط في متاهة لا يمكن الخروج منها بدون الانصياع لمطالب الطريق التي لم تتغير، وليس للطريق غير مطلب واحد أن يتركوه وشأنه ليفتح جوف ذاكرته المكتنزة يسرد الفواجع متسلسلة، مآسٍ لا تطاق امتدت وطالت أجيال القرية متعاقبة فلم يسلم منها أحد وكان الطريق يدون الفجيعة بأمانة في كينونة القرية بمعزل عن عناكب الزمن دونها على الحجارة وعلى أحلام السنونو وعلى جذع منخور لشجرة توت متيبسة وعلى جدران الآبار الاسطوانية العميقة الملفوفة بالقرميد بهندسة سحرية وعلى صخب النسوة الذاهبات إلى حلب الأغنام في المراعي وعلى صياح أطفال ساخطين يلعبون بالشمس احتجاجاً وعلى دموع الأرامل واليتامى، طريق يطلب أن يدونوا إفادته كشاهد وحيد على جريمة ترتكب منذ إدراكه الأول حيث يزداد أعداد المفقودين والموتى والمقتولين والمغيبين في نفس المكان الذي بقي أسير كوارثه فما عاد يميز الزمن غير شبكة محكمة تحوكها مشيئة عنكبوتيه تبيض مزيدا من الماضي لتفترس حاضر المكان وغده كما تفعل العناكب في كل ولادة جديدة.
تابعت الرواية سرد المكان وأهله حتى بلغت فصلها الراهن صيرورة قيد التفاعل، حدث ما زال يجري، ليرسم عشق هايدار وزينا في لحظة أخطبوطية تشابكت فيها أذرع الزمان، ليطفو المكان على سطح حاضره ماض جرحه يجري أمامه موجة يقذفه الوجع خلفه إلى شاطئ الانكسار لتضرب الصخور وتعود القهقرة إلى التلاشي، فجيعة استوطنت روح هايدار زلزال دائم يصدع صدغ القرية انهدام أصاب طول الطريق، فصعد عالياً يحتمي بوعورته مهرباً من آلام هايدار، جلمود يتهاوى من ذروة فجيعة في موسم الاستواء، وجع يكتسح أعماق هايدار يحطم ما يصادف طريقه.. أشجار تتكسر.. أجساد تطحن.. نيزك ملتهب يحط الوجع ثقيلا في كبد هايدار ليطمر المكان خارج المألوف أحجية محدبة تخدع العالمين.
نامت الرواية، فأطبقت زينا عينيها على نظرة جامدة انسابت في جسدها جثة هامدة، أمسك هايدار بيدها رعشة أخيرة متبقية ترحل بها عدماً طاول مداركه.
همدت الرواية، وانشغل الطريق بتصدعاته، وبقي المكان في حالته السرمدية ييبس بين ذراع أخطبوط يتهادى به بين يومه وأمسه، جربت الشمس أن تقيس غطرستها فأرسلت أشعتها متوغلة في قاع بحر متلاطم فغاصت شبرين في أبدان قاتمة لأطفال لا غد لهم يلهون بها وجعاً لا يفارقهم.
أخذ هايدار على عاتقه إتمام فصول الرواية، ليسرد حبه، ولأنه كان متعب الروح أكثر من اللزوم، فقد استعجل نهاية السطر الذي يخصه، نظر إلى جثة زينا نظرة غائرة، لتنتشر مأساتها جليداً يغطي غصون الأشجار، فصارت حياته غابة أصاب الصقيع نسغها لتجمد الفجيعة في كيانه، وقف هايدار مسلوب الوجود أمام آلامه مصيراً، فاختار ما كان يجب اختياره، ليجمع روحه وعقله في صرة دفنها مع جثة زينا، لتصير تلك الهيبة انكساراً ويتحول ذاك الوقار صمتاً، كائن لا يمتلك من ذاته سوى هيولى غرائز أولية تبقي جسده حيا دون إرادته، كائن ليس للروح والعواطف فيه من ملامح.. قسمات منفية في وجهه.. نظرات ميتة في عينين مسافرتين إلى الوجوم.. شفاه مشلولة ولسان قفر نهب الجراد بساتين نطقه.. جسد قلما حركته رغبة، كائن منفي في شروده الأزلي مغمور في ظاهره الكستنائي قشور تفحمت بالشواء، لتحترق تلك الخطوط مجهولة المصدر المتفرعة في كيانه التي كانت تحقق معجزة التواصل بين الروح والبدن، احترق اللب فصار هايدار رماداً ودخاناً يقف مسافة نسبية بين البقاء والعدم.
والمكان هو هو بقعة مضيئة كلما أشرقت سنابلها افترسها ثقب قاتم وحشي السرعة لا يعطي فرصة للأهالي ليرتاحوا من أثقال كونية أعباء يحملونها كوارث متوارثة تفوق الخيال.
أضاع هايدار الكون في عقله ذرة غبار مشردة في الغيب خلف مجرات ماتت شموسها ليرتاح في ثقافة الإلغاء حيث يتخثر الزمن على مهله في طنجرة الرب لبن رائب يسقي قبائله، لبن لا يستسيغ طعمه أبناء البلاد العليا فدخلوا مع الرب في خلافات تجارية ليسلط عليهم غضبه.. دول تنهش المكان حياً.
لم يستطع الدرك التفاهم مع الطريق فأطلقوا النار على أطفال يلعبون بالشمس.. فقامت قيامة الطريق.. أسدل الرب ستائر الحرير على نوافذه وأطفأ جهاز التلفاز ودخل في فراشه ساحباً الغطاء على رأسه.
نهض الأطفال مع حقول القمح دورة حياة جديدة سنابل غاضبة تزحف والطريق يدفعهم فارتجفت عواصم وتهاوت أصنام، سنابل قذفت مخاوفها من الجراد، وأطفال يصفعون حملة البنادق الروسية تشيكية الصنع غير آبهين بسطوة سلطان عنين، منعطف آخر خطه هذه المرة أطفال غاضبون ساروا به وسط سنابلهم الحبلى برداً وسلاماً، ليشعلوا الطريق مواقد مسيرة، كان ينتظرها منذ اغتيال آخر ملك ميدي، سار الأطفال العنيدون حليقو الرؤوس مقاتلين مشحونين بثارات أجدادهم ودماء الغجر وعناد الطريق والغبار الذري الذي تراكم في شرايينهم التي كادت أن تخلو من دمائها، وكان لا بد أن يرتفع الدخان هذه المرة في أصقاع أخرى غير البلاد العالية معلناً عودة كل من مات ظلماً قبل أوانه.
بداية.. لا بدّ منها
لا يجوز نشر اوطبع او اقتباس الرواية الا بموافقة من الكاتب زاكروس عثمان