تعددت الأديان، وكثرت منذ العصور الأولى لتاريخ الإنسان، ونشأت عبادات مختلفة بطقوس متعددة، تشهد على ذلك مخلفات الإنسان وبقاياه وما تركه من معابد ومنحوتات وتماثيل ورسوم تجسد معبوده وآلية التعامل مع الروح الخفية عنه
الإلهة الأم
في حضارات "الجزيرة الفراتية"
من خلال المكتشفات الأثرية
إبراهيم عباس إبراهيم
إذا كان الخوف وعدم القدرة على تفسير الظواهر
الطبيعية من أولى الدوافع التي جعلت الإنسان باحثاً عن طقوس خاصة يقوم بها لينهي
خوفه، أو ليتجنب غضب تلك الظواهر، فإن أموراً أخرى أخذت حيزاً من القدسية لقضايا
نفسية وروحية متعلقة بذاتية الإنسان، فهو وحده يمكن أن يكون له دين؛ كما يرى هيغل.
ونتيجة
لذلك تعددت الأديان، وكثرت منذ العصور الأولى لتاريخ الإنسان، ونشأت عبادات مختلفة
بطقوس متعددة، تشهد على ذلك مخلفات الإنسان وبقاياه وما تركه من معابد ومنحوتات
وتماثيل ورسوم تجسد معبوده وآلية التعامل مع الروح الخفية عنه.
وقد انعكس ذلك بوضوح ضمن المكتشفات الأثرية في
مواقع منطقة "الجزيرة الفراتية" الممتدة بين نهري دجلة والفرات، حيث
نشأت منذ عصور ما قبل التاريخ حضارات غنية متعددة.
الإلهة الأم - البداية -:
أخذت الأنثى مكانةً متميزةً بوصفها إلهة في
تجسيدات متعددة، وأوضاع مختلفة. كانت أولى تلك التجسيدات ما يتعلق بالإلهة الأم، فقد
نالت أهمية عظيمة لدى شعوب الشرق القديم عموماً، وتعدّ من أقدم العبادات، حيث وجد
ما يوحي إلى تقديسها وعبادتها بشكل مباشر عبر تماثيل أو رسوم أنثوية تظهر فيها
الأثداء الكبيرة والبارزة والوروك المكتنزة، والأعضاء الأنثوية، أو برسوم تحويرية توحي
إلى أماكن محددة من جسدها.
لقد ظهر ذلك منذ العصر الحجري القديم (الباليوليت
الذي بدأ منذ 2.5 مليون سنة في أفريقيا وانتهى
حوالي 12.000 ق.م)،
حيث يرى أغلب الباحثين أن تلك العبادة مرتبطة بعملية الإنجاب التي اقتصرت على
الأنثى، والتي تعجّب منها الإنسان القديم، فمنحها تلك القدسية والخصوصية التي بدأت
تترسخ أكثر منذ العصر الحجري الحديث (النيوليت الذي امتدّ من 10.000 ق.م وحتى 4000 ق.م)،
وربما يكون سبب ذلك هو اكتشاف الزراعة ودور المرأة في ممارستها، حيث اتخذت هذه
العبادة أهمية بالغة في الحياة الروحية لإنسان ذلك العصر، واتخذت الإلهة الأم
المنحى التطوري الذي كان يجب أن يكون وفق المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ومدى تأثيرها
على الجانب الروحي للإنسان بما ينسجم ونشاطه
النفسي والعقلي، فانتقلت إلى موقع السيادة، وهذا ما يفسر احتواء
أكثر المواقع النيوليتية - إن لم نقل كلها - على تماثيل ولقى تتعلق بها، وبطقوس
عبادتها.
وإذا كنا نجهل أسماءها وألقابها في العصور التي
سبقت التاريخ فمن المؤكد أنها كانت ترمز للخصب والعطاء والحب والجمال والطبيعة ، فالحضارات
اللاحقة التي عرفت الكتابة منذ 3200
ق.م منحتها الصفة نفسها، وأضافت وصفها بأنها ملكة
السماء وسيدة أرواح السماء وإلهة كل الشعوب، بدءاً من النصوص السومرية والأكدية
والحورية، وعدّها الآشوريون إلهة الحب واللذة وإلهة الحرب والقتل في آن واحد، ومنحوها
لقب (سيدة الحرب). وربما يؤكد هذا أن طبيعة الشعوب هي التي فرضت نوعاً من تحديد الصفات
والمهام لهذه الإلهة، فقسوة الآشوريين منحت صفات أخرى غير الأمومة لإلهتهم الأم.
كما
عرفها الحوريون باسم شاووشكا والتي يعني بلغتهم (المسلّحة)، إضافة إلى أنها كانت
تحمل صفة الحب والجمال والخصوبة، والاعتقاد بأن لها القدرة على شفاء الأمراض،
فأرسلوا تمثالها إلى فراعنة مصر ضمن إطار توثيق العلاقات الدبلوماسية المتبادلة
بين الطرفين.
وهي
نفسها التي عرفها السومريون باسم إنانا، والأكديون باسم عشتار، والمصريون باسم إيزيس،
والميديون باسم آناهيتا والإغريق باسم أفروديت، والرومان باسم فينوس.
الاكتشافات:
كانت ثمة فروق بين شكل الإلهة الأم الباليوليتية البدائية
والإلهة الأم النيوليتية، كما ظهرت الفروق بين هذه الأخيرة وبين الإلهة الأم في
العصور التاريخية، وبشكل أوضح.
لم يهتم الإنسان النيوليتي بتوضيح معالم هذه
الإلهة من ناحية الشكل، واقتصر على إبراز الأثداء والحوض، وتمثيلها على شكل مخروطي
آخذة وضعية الجلوس على نحو عام، والوقوف نادراً، وكأنها صنعت لتوضع فوق المحاريب
أو المذابح في الأماكن المخصصة لأداء الطقوس الدينية.
أما
إنسان العصور التاريخية فاهتم أكثر بالشكل، وإظهار رشاقة الجسم، وتناسق الأعضاء، مع
اختفاء المبالغات والتحويرات الرمزية، والاحتفاظ بإبراز المعالم الأنثوية، ولكن
بعيداً عن التضخيم.
لقد أظهرت نتائج أعمال التنقيب المختلفة في مواقع
كثيرة من الجزيرة وعلى الفرات الأهمية الكبيرة التي تمتعت بها الإلهة الأنثى بشكل
عام، والإلهة الأم بشكل خاص، وذلك من خلال مجموعة كبيرة من التماثيل الصغيرة (دمى
- تمائم)، ورسوم ومنحوتات ونقوش ومخلفات أثرية على الفخار أو الأختام أو غير ذلك.
أقدم التماثيل البشرية:
عثر في تل المريبط على الضفة اليسرى لنهر
الفرات (نسبت مخلفاته الحضارية إلى العصر النطوفي الألف العاشر ق.م - نسبة إلى
وادي نطوف في فلسطين حيث وجدت آثارهم لأول مرة)، على أقدم التماثيل التي صنعت من
الطين المشوي (الفخار) إضافة إلى الحجر، وبأحجام صغيرة، وأشكال بسيطة في تفاصيلها،
تحمل علامات أنثوية واضحة وإن كانت بدائية. منها تمثال مصنوع من الحجر الكلسي موجود
في متحف حلب والذي يعتبر من أقدم التماثيل البشرية المكتشفة حتى الآن، أبعاده ( 9 × 5 سم) - (الصورة1 )
- ويظهر بوضوح المستوى الفني البدائي لتشكيل الجسم، وقد تعمد الفنان إبراز القسم العلوي
منه وبشكل عارٍ تماماً (البطن والأثداء)، وجاء الذراعان ملتصقين بالجسم تماماً،
ومضمومين إلى الصدر، لتستقر اليدان تحت الثديين مباشرة، وهي الطريقة التي شاعت
تجسيداً للإلهة الأم، ولفكرة الخصوبة والعطاء. أما معالم الوجه فهي غير واضحة، والرأس
ملتصق بالجسد مباشرة دون عنق، ولم يبق من الرجلين إلا الفخذان الممتلئتان، نتيجة تأثرها
بالعوامل الطبيعية التي أخفت ملامح أخرى من التمثال.
.
عصر حلف (4500 – 5500 ق.م)
والارتقاء في التجسيد:
لقد صنع
الحلفيون (نسبة إلى تل حلف بالقرب من رأس العين على الحدود السورية التركية حيث وجدت
آثارها الأولى) تماثيل الإلهة الأم على شكل إمرأة جالسة أو واقفة تزينها بعض الحلي
(الأساور، الخلاخيل، القلائد) جسدت على شكل خطوط حمراء أو بنية أو سوداء أو رمادية.
أما مواضع الأنوثة من جسمها فبارزة بوضوح؛ وبالأخص الثديان. الحوض واسع، والورك
مكتنز، واليدان توضعان تحت الثديين لحملهما أو رفعهما، وأحياناً بينهما، أو تستندان
إلى الركبتين. الرأس مختزل لا تفاصيل فيه على الأغلب، وضعت فوقه أحياناً قبعة أو
تاج، أما القسم السفلي فتغيب عنه التفاصيل. إن التماثيل على العموم مصنوعة من
الفخار وبأبعاد صغيرة، وقد عثر عليها في مواقع عديدة (تل حلف، تل كشكشوك القريب من
مدينة الحسكة، تل صبي أبيض الواقع في الجزء الشمالي من وادي البليخ، شاغر بازار
الذي يبعد عن الحسكة بحدود 45
كم على الطريق المعبدة بين الحسكة وعامودا، سكر الأحيمر على بعد 45 كم غرب مدينة الحسكة على الضفة
الشرقية لنهر الخابور) وغيرها من المواقع التي تنسب مخلفاتها الحضارية
إلى هذا العصر (الصور 2 ، 3 ، 4).
وإذا كانت تلك التماثيل تجمعها سمات مشتركة
وتجسيد متشابه، فإن تماثيل أخرى تنسب إلى هذا العصر، ولكنها تختلف في شكلها
الخارجي عن تلك النماذج؛ كما في التمثال الفخاري الصغير الذي عثر عليه في تل صبي أبيض (الصورة 5)،
وتم إيداعه في متحف الرقة، فعلى الرغم من غياب الأطراف في التمثال عند تصنيعه فهو
على العموم مصنوع بعناية فنية مميزة بالنسبة إلى تلك المرحلة. يظهر فيه الثديان البارزان كما في كل تماثيل الإلهة الأم، وكذلك
الحوض، بينما يظهر الخصر نحيلاً، وفي الرقبة تجويف لتثبيت الرأس، ويلاحظ عليه وجود
بقايا طلاء أسود.
عثرت البعثة الأثرية
المنقبة في موقع شاغر
بازار على تمثال صغير نادر
مصنوع من الفخار يختلف شكلاً عن تمثال الإلهة الأم الذي صنف
ضمن طراز تماثيل عصر حلف، والذي جاء على صورة إمرأة عارية بوضعية الحمل، تضع يديها
تحت ثدييها البارزين، زُيّن صدرها وأجزاء من جسمها بدوائر غائرة، كما نفذت عيناها
بطريقة اللصق.
عصر فجر التاريخ والتنوع في التصنيع :
نالت الإلهة الأم في هذا
العصر نصيبها من التقدير والقدسية، وإن اختلفت شكلاً عن العصر الذي سبقه، واختلفت
من موقع إلى آخر، ففي موقع تل حبوبة الكبيرة على الفرات في المنطقة التي
غمرتها مياه سد الفرات عثر على مجموعة من التماثيل التي تمثل الإلهة الأم، وهي
متشابهة إلى حدٍ ما، جميعها من الفخار، ونفذت بطريقة اللصق، تجمعها فكرة الخصوبة،
وإظهار القسم العلوي، من خلال إبراز الثديين، واليدان تحتهما، وتبيان معالم الوجه
كالعينين الدائريتين والأنف، وتسريحة الشعر المجدول المتدلي على طرفي الوجه
أحياناً، والمنفذة بطريقة اللصق، أو رسم دوائر أو خطوط غائرة أحياناً أخرى، وتزيين
العنق والصدر بقلادة أو أكثر يختلف شكلها من تمثال إلى آخر، أما القسم السفلي فقد
صنع بشكل أسطواني يخلو من المعالم الأنثوية. وقد عثر في موقع تل السلنكحية على
الفرات على العديد من هذه التماثيل التي صنعت من الفخار، وتشابهت في تفاصيلها
العامة مع تلك المكتشفة في تل حبوبة الكبيرة (الصورة6 ).
وفي تل براك (نغار - Nagar) الواقع على بعد 40 كم إلى الشمال الشرقي من الحسكة على الطريق الواصلة
بينها وبين قامشلي، عثر على تمثال صغير من الفخار يظهر فيه الاهتمام بالناحية
الجمالية والتزيينية للمرأة، فقد زين كامل عنقها والقسم العلوي من صدرها بعقد فريد
من نوعه، مؤلف من أربعة صفوف، وموضوع على رأسها تاج، شعرها مجدول، عيناها لوزيتان
بهما خط عريض، الأطراف العلوية مختزلة، الثديان بارزان كما في كل تماثيل الإلهة
الأم، والقسم السفلي من التمثال ناقص وكأنه تلف. ويتشابه هذا التمثال مع ذاك الذي
عثر عليه في تل الحريري (ماري) ضمن عدد كبير من التماثيل التي تجسد الإلهة الأم
بأوضاع مختلفة، وأشكال متعددة تميزها عن سابقاتها بإبراز الأعضاء الأنثوية كما هي
دون تحوير، والاهتمام بالقسم السفلي.
إن أغلب هذه التماثيل
مصنوعة من الفخار، ولكن وجدت تماثيل أخرى صنعت من المعادن؛ كالتمثال الذي عثر عليه
ضمن ما يعرف بكنز أور (الصورة 7)، والمقتنى من قبل المتحف الوطني بدمشق. صُنع
التمثال من البرونز واللازورد والذهب، أبعاده ( 11.3× 3.2 سم)، وهو يجسد إمرأة عارية، واقفة، الثديان بارزان،
الكتفان عريضان، الخصر نحيل مع إظهار الصرّة والأعضاء الأنثوية، الساقان رفيعتان، الذراعان
ممدودان باتجاه الأمام وكأنهما يحملان شيئاً ما، أما ملامح الوجه فهي واضحة
بتفاصيلها، العيون الجاحظة والمُنْزَلَة بالصدف والقار واللازورد، والأنف البارز
وكذلك الفم، شعرها مصفف بتسريحة أحيطت بعصابة من ذهب، يعلو الرأس قرنا الإلوهية.
وفي تل بيدر (نبادا - Nabada) (على بعد 30 كم شمال غربي مدينة الحسكة) عثر
أيضاً على مجموعة من تماثيل الإلهة الأم بأوضاع مختلفة، وتفاصيل متعددة، وأحجام
متنوعة، مصنوعة من الفخار، تميزت بأن الأذرع ترتفع إلى الجانبين لتبتعد عن الجسم، مع
إهمال تفاصيل اليد، واختزال الرأس، والاهتمام بالحوض تعبيراً عن الأنوثة. ويلاحظ
أن التماثيل مزينة بدوائر غائرة في أماكن مختلفة من الجسم. (الصورة 8).
وفي تل أبو حجيرة
القريب من تل كشكشوك عثرت البعثة المنقبة على تمثال من الفخار فقد الكثير من شكله (الصورة
9).
تظهر الإلهة فيه واقفة، خصرها نحيل والوركان بارزان يوحيان باتساع الحوض، الذراع
الأيسر غير موجود، أما الأيمن فهو ملتصق بالجسم لتوضع قبضة اليد تحت الثدي. معالم
الوجه غير واضحة ولكن يمكن الاستنتاج من إحدى عينيها المتبقية أنها نفذت بطريقة
اللصق.
.
وفي تل العشارة (ترقا –Tarqa ) - (على الفرات جنوبي دير الزور) - عثر على مجموعة من التماثيل المتميزة
والمصنوعة من الفخار يظهر في أحدها اتساع الحوض بشكل جلي، وتفاصيل أخرى تؤكد على
أنها الإلهة الأم (الصورة 10).
ثمة اكتشافات أخرى في
مواقع عديدة، ولكنها لا تختلف كثيراً عن التي عرضناها فيما سبق، وهي تساعد – بشكل
عام - على استنتاج أمور هامة عن طبيعة الإلهة الأم ودورها في السياق التاريخي،
وإدراك ما كانت توحي به، وتعدد قدراتها وسلطاتها من خلال هيمنتها على الحياة
الروحية لإنسان ذلك العصر في تلك الحقبة الزمنية الموغلة في القدم.
ـــــــــــــــــــــ
المراجع المعتمدة:
المراجع العربية والمعربة:
1- جاك كوفان، الألوهية
والزراعة - ثورة الرموز في العصر النيوليتي، ترجمة: موسى دياب، منشورات وزارة
الثقافة – المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق 1999.
2- جاك كوفان، ديانات العصر
الحجري الحديث في بلاد الشام، ترجمة: سلطان محيسن، ط1، دار دمشق، دمشق 1988.
3- سلطان محيسن، بلاد الشام
في عصور ما قبل التاريخ – المزارعون الأوائل، ط1، دار الأبجدية، دمشق 1994.
المراجع الأجنبية:
1-
Ebla to Damascus – art and archaeology of ancient Syria, Smithsonian
institution traveling exhibition service Washington, D.C. 1985.
2-
L'Eufrate e il tempo – Le civilatà del medio Eufrate e della Gezira
siriana, Milano, 1993
ibrahim.e.ibrahim@hotmail.com