فالحالة السورية تتميز بافتقادها للخبرة السياسية، ولم تعرف سوريا الحديثة الحياة السياسية، ولم تراكم التيارات السياسية أي نوع من الخبرات، ظلت السياسة فعلاً نخبوياً وسرياً
فيما لا يزال المجتمع السوري يخوض في بركة
الدم التي لا يعرف كيف ومتى سيمكن الخروج منها، راحت بعض المعارضة السورية ترسم في
إسطنبول، ليس خريطة طريق للخروج من هذا الوضع المأزوم، وإنما شكل ونوعية النخبة التي
ستحكم سوريا المستقبلية، حكومة ظل تتمرن على الحكم، إلى حين إنتهاء البلاد من مأزقها
الدموي.
إنتهى الاجتماع على رسم هيئه للإنقاذ،
قسم كبير من أركانها، يقيم في الخارج ومقطوع الصلة عن الداخل ومخاضه العسير، والقسم
الأقل يتوارى في الداخل، لكنه ليس أقل إنقطاعاً عن الداخل، يعتقد ان سنوات إعتقاله
ونضاله السابقة تمثل جواز سفر للتحدث باسم الثورة والتوهم بقيادتها؟.
والواقع، ومن خلال معاينة مكونات الثورة،
يمكن الجزم أن كل الأحزاب والقيادات السياسية السورية، بما فيها التنسيقيات نفسها،
لا تقبض على أكثر من نسبة ضئيلة جداً من فعاليات الثورة، والتي يمكن حصرها بجوانب إعلامية
في غالبيتها، أما الإخوان المسلمين فيكاد وجودهم أن يصبح غير مرئي، رغم كل ما يحاول
هذا التيار ضخه في بعض وسائل الإعلام، إذ لا يعني خروج التظاهرات من المساجد حسبانها
بشكل اوتوماتيكي في حصة جماعة الإخوان المسلمين، ثمة في سوريا شيء إسمه التدين الشخصي
تكوّن على مدار سنوات، وهو تكوّن خليط بين الصوفي والسلفي متكيف في الآن نفسه مع الشروط
البيئية المجتمعية في سوريا والتي تميل إلى الانفتاح على المكونات التاريخية السورية
والالتقاء معها في بعض المشتركات الدينية.
ولعل معرفة مكونات الثورة في سوريا، يساهم
بدرجة كبيرة في معرفة طبيعة المخارج والحلول والجهات القادرة على إدارة الحالة، وتالياً
توفير الجهود الكبيرة التي تبذلها بعض القوى السياسية، والتي لن تؤدي سوى إلى مزيد
من الإرتباك والتشويش ولن يكون لها أي صدى حقيقي في الشارع.
لا شك اننا امام حالة مختلفة عن نظيراتها
العربيات، فالحالة السورية تتميز بافتقادها للخبرة السياسية، ولم تعرف سوريا الحديثة
الحياة السياسية، ولم تراكم التيارات السياسية أي نوع من الخبرات، ظلت السياسة فعلاً
نخبوياً وسرياً، او في أحسن الأحوال شكلانياً كما مارسه حزب البعث، لم يمارس الطالب
ولا النقابي والعامل والفلاح السياسة، بل نوعاً من الاستزلام للسلطة وبإحساس سلطوي
منفوخ وإنتهازي، كذلك مارس نقيضه المعارض السياسة كنوع من التحدي بسلوك متوتر وإنتحاري
في أحيان كثيرة، ولعل مراجعة تجارب الإسلاميين واليساريين في سوريا تكشف الكثير من
هذه الحقيقة.
لقد إنطلقت الثورة في سوريا من بيئات عشائرية
وجهوية، وعندما تجاوز النظام العرف العشائري، وإشتد عود الثورة عندما تحالفت العشائر
مع بعضها للدفاع عن قيمها وحتى معتقداتها، من هنا فإننا نرى أن الثورة في الأرياف ومدنها
أكثر زخماً منها في المدن المركزية، وهنا أيضاً ثمة من يحاول تفسير هذه الظاهرة بالحديث
عن مدنية أبناء هذه المدن، وبالتالي إنفصالهم عن مواطنيهم الريفيين، وإختلاف أشكال
تعبيراتهم السياسية، غير أن الواقع يقول ان المدنية في سوريا لا تطال إلا الشكل العمراني،
بحيث ساهم هذا التصميم بإعادة توزيع العائلة أو العشيرة وباعد بين أبنائها، ما ساهم
تالياً في خلق نوع من عدم التماسك العشائري.
وبناءً على ما سبق توصيفه، فإن السياسة
بشكلها الحديث، لا يمكنها أن تكون فاعلة في هذه اللحظة السورية، تلك حقيقة، وإن كانت
مؤلمة لكنها أكثر براغماتية وقدرة على إستيعاب الواقع، والثورة السورية لم تفرز، او
لم تبلور، نمط القيادات وطبيعة التوجهات السياسية حتى اللحظة، وعليه يصبح المطلوب العودة
إلى مكونات الواقع السوري، صحيح أن هذه اللحظة الخطيرة تتطلب وجود هيئة للإنقاذ، لكن
هذه الهيئة يجب أن تتشكل من الواقع السوري الفعلي، وذلك لما له من تأثير مباشر، ولقدرته
على الإدارة المحايثة للأزمة.
السياسة في سوريا، في هذه اللحظة، تبدوا
ترفاً لا قبل للخائضين في بحر الدماء التمتع به، ربما تلك ضريبة على السياسة الغائبة
أن تدفعها، ثم بعد ذلك تبني مجالها في شروط لم تتوافر يوماً في سوريا الحديثة.
*غازي دحمان كاتب فلسطيني ـ دمشق
عن " المستقبل اللبنانية "