تواجه وزارة الثقافة العراقية يوميا سيلا من الانتقادات كونها لا تحقق الأداء الذي يمكّنها من احتواء الجهات المحلية.
بقلم: صالح مجيد
انقسمت التيارات السياسية العراقية من حيث التمثيل الشعبي، بعد عام 2003، إلى ثلاثة أقسام رئيسة؛ سنية وشيعية وكردية، بحسب طبيعة الشعب المذهبية والعرقية. فبعد انهيار النظام الأحادي الذي مثّل الشعب بشكل قسري وقامع لعقود طويلة، تقدمت الأحزاب السياسية المعارضة للنظام الساقط، وفرضت تمثيلها على طوائف الشعب وقومياته من خلال أدائها السياسي البراغماتي دون أن تنجح هذه الأحزاب في كسب التأييد الشعبي بتأسيس ثقافة وطنية نابعة من مبادئ نظرية الديمقراطية التي يفترض أن تكون روح النظام الجديد للبلاد.
هذا التنافر في التوجهات الثقافية بين المؤسسات غير الحكومية الداعمة للأحزاب هيأ أرضية خصبة لنمو المواجهة بين الأحزاب السياسية الأمر الذي دفع الرأي العام إلى اتهام النموذج الديمقراطي بالفشل كونه تأسس على المحاصصة القومية والطائفية لا على أساس منظومة العلمانية التي كان من الممكن أن تكون مظلة للتعايش بين مكونات الشعب العراقي.
وفي هذا السياق تصبح فكرة تهجين منظومتي الديمقراطية مع الطائفية و/أو القومية مرفوضة من الناحية الفكرية؛ حيث أن اصطلاح "نظام ديمقراطي – ديني" يشعل فتيل الفتنة الثقافية بين نظام مفتوح ومتحرر، وآخر مغلق ومحافظ، مثلما يثير مصطلح ديمقراطي – قومي الإشكالية نفسها إذ يتنافر النظام القائم على تجاوز الإثنية مع النظام الذي يُغلّب قومية بعينها على القوميات الأخرى.
لقد امتدت هذه الأجواء الثقافية المتأزمة في العراق منذ عام 2003 حتى هذا اليوم. وتواجه وزارة الثقافة العراقية يوميا سيلا من الانتقادات كونها لا تحقق الأداء الذي يمكّنها من احتواء الجهات المحلية الأقل شأنا والمنافسة لها في ما يتعلق بتمرير الخطاب الثقافي – السياسي إلى الرأي العام.
ومن بين الأمثلة على ذلك، البيوت الثقافية التي أسستها الوزارة بمباركة الحكومة في مختلف مدن العراق، حيث حاولت بهذا الإجراء سحب البساط من الاتحادات ذات الصلة من خلال إقامة المؤتمرات والمهرجانات والأنشطة الفنية والأدبية. لكن هذه البيوت بقيت في الغالب بيوتا بدون "ثقافة" لأن عليها أن تنجز كل هذه الأعمال بميزانية لا تتجاوز ما قيمته حوالي 400 دولار شهريا بحسب ما ذكره لي أحد مديري تلك البيوت.
إن تعميم الخطاب الثقافي - السياسي الجديد في العراق وتعويمه على الخطابات الأخرى يحتاج إلى وضع دراسات إستراتيجية لتحليل التحديات الثقافية، وفهم طبيعة التكوين الاجتماعي والنفسي للمواطن العراقي، وتغير مناخه السياسي، وأن تخرج هذه الدراسات بنتائج موضوعية تتلاءم مع أهمية الخروج من هذه الأزمة وبالتالي الحصول على الدعم الشعبي للعملية السياسية، ورفض الأفكار التي تدعو إلى العنف، وفهم طبيعة النظام السياسي الجديد.
كما يجب تحويل هذه النتائج إلى مشاريع ثقافية مدعومة بميزانية مالية لا تقل ربما عن الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع أو الأمن الوطني!
صالح مجيد ـ كاتب من العراق
إن عدم ظهور ثقافة جديدة موحِّدة وتنويرية تليق بالعناوين الكبرى للديمقراطية عمّق الانقسام العراقي السياسي بشكل لافت، بحيث يمكن ملاحظة هذا الانقسام ببساطة من خلال الخطاب السياسي الذي يحمله هذا الحزب وذاك الكيان وتلك الكتلة السياسية. فرغم أن جميع الخطابات تُصدِّر عناوين العدالة والمساواة والحرية وغيرها إلى المواطن العراقي، إلا أنه من الممكن معرفة تبعية هذه الخطابات بحسب اللغة القاموسية السياسية التي تمررها هذه الخطابات.
فالأحزاب السياسية التي تزعم تمثيل السنة تتمسك بمبدأ القومية العربية وتدسّها داخل منظومة الأفكار الديمقراطية، في حين تصدّر الأحزاب الشيعية توجهاتها السياسية بضرورة التكتل الطائفي لمواجهة الآخر المختلف والمخالِف في آن. أما الأحزاب الكردية فتعدّ قبولها بالانتماء للنظام السياسي العراقي مرحلة جديدة ومتطورة من مراحل نضالها القومي وصولا لنيل حقها الطبيعي في استقلال كردستان.
ومن الجدير بالذكر أن عملية التكوين الثقافي العراقي بعد 2003 رافقتها ضربات استباقية قامت بها منظمات واتحادات ونقابات ووسائل إعلام يفترض أن تكون غير حكومية، لكنها في الحقيقة تعد الأجنحة الثقافية للأحزاب والتيارات السياسية المختلفة. نقول ضربات استباقية لأن هذه المنظمات غير الحكومية تمكنت من السيطرة على المنابر الإعلامية والثقافية التي تروج للأجندة السياسية التي تنتمي إليها.
فبعد أسابيع من عمليات السلب والنهب التي تلت دخول القوات الأجنبية إلى العراق، شهدت الاتحادات الأدبية والنقابات الصحافية واالفنية في المناطق السنية سيطرة الأعضاء التابعين أو الموالين لحزب البعث على مقاليد السلطات الثقافية، فيما دخلت اتحادات ونقابات المناطق الشيعية في مواجهات صادمة بين أعضاء يميلون أو ينتمون للأحزاب الشيعية مع الموالين للنظام السابق. فكانت هذه عمليات الاستحواذ على السلطة الثقافية أشبه بعمليات السلب النهب مع اختلاف شرعيتها أمام القانون، مع أن ما يثير الاستغراب هو تمديد العمل بالأنظمة الداخلية لهذه المنظمات غير الحكومية رغم أنها تشكّلت أو فُصّلت وفق مقاييس النظام الأحادي السابق.
أما الاحزاب الكردية فقد تمكنت من بلورة مؤسساتها غير الحكومية منذ الفترة التي تلت تحرير دولة الكويت عام 1991 من القوات النظامية للنظام العراقي السابق.