شيروان فرات و سوريا أولاً
الخميس 21 كانون الثّاني / يناير 2010, 19:51
كورداونلاين
اتفاقيات سايكس بيكو والمعادلة الدولية ضمت أجزاء من الولايات العثمانية السابقة ( حلب، دمشق ، بيروت ، ديار بكر ) في خارطة سياسية واحدة سميت بالدولة السورية
سوريا أولاً
شيروان فرات
كثيرة هي المصطلحات المختلف على مضامينها في الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع السوري وهذه المصطلحات غالباً ما تتم صياغتها بأجندة سياسية و ايدولوجية واضحة للعيان . والخلاف حول اللغة السياسية والبعد الدلالي للأدوات البحث الاجتماعي والسياسي هو انعكاس لعمق التشرزم في المجتمع السوري ، و تعبر في الوقت نفسه عن حقبة مرضية غير صحية قامت على التجاهل والإنكار والإقصاء.
وللأسف الشديد كان هناك غياب ملحوظ للكورد المهتمين بالشأن السياسي أو الاجتماعي في تصحيح مسار اللغة السياسية والاجتماعية المعبرة عن هوية المنطقة وضبط مصطلحاتها معرفياً ومن هذه المصطلحات مفهوم الوطنية.
والوطنية مفهوم علماني من إفرازات عصر النهضة الأوروبية , وعلمانية المفهوم لا يلغي الانتماءات ما قبل الوطنية الموجودة تحت سقف الوطن , والتي تحمل خصوصية معينة تتعلق بطابع المنطقة وسيرورتها التاريخية . ومفردات الوطنية مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وهذه الحقوق تحدد التزامات وواجبات المواطن تجاه الوطن (المجتمع والدولة ) ،والحق هو الذي يحدد الواجب وليس العكس فالمواطن يمنح حقوق حتى يقوم بواجباته ولا يجب أن يقوم بواجباته حتى يمنح حقوقاً ولا يجوز أن تكون حقوق المواطنين مرهونة بواجباتهم لأن الحقوق ليست امتيازا تمنح .
ومفهوم الوطنية لا ينفك عن سياقاته ، وهناك علاقة جدلية بين الوطنية والمواطنة والدولة العلمانية والديمقراطية ، وهذه المفاهيم مترابطة و تستدعي إحداهما الأخرى ضرورة ، فلا وطنية صحيحة بلا مواطنة حقة ولا وطنية بلا ديمقراطية ولا وطنية بلا علمانية . مفهوم الوطنية إذاً مفهوم واسع يكتنف في داخله مشروعاً سياسياً متكاملاً لو طرح ببعده المعرفي بعيداً عن المساعي التحجيمية من قبل التيار العروبي داخل السلطة وخارجها . فالوطنية تستدعي المواطنة وتتجاوز مفهوم الرعية ، فالروابط الوجدانية والمصالح الاقتصادية والوعي بالذات والآخر تتجاوز منطق الرعية . والوطنية تتجاوز الاستبداد وتستدعي الديمقراطية لأنها نتاج العقد الاجتماعي بين كل مكونات الوطن ’ جماعات وأفراد وتستلزم أهلية جميع الأطراف ، والوطنية تستلزم العلمانية والتعددية السياسية لأن سقف الوطن أوسع من كل مكوناته الدينية والقومية والحزبية . فدولة الطائفة والدين و الأثنية ودولة الحزب الواحد ليست دولة وطنية بأي معنى لأنها تمثل جزء من المجتمع وليس كل المجتمع ، فالوطنية تستدعي القانون ومساواة بين المواطنين والمكونات , وعدالة في توزيع الثروات ومن هنا تأتي أهمية الوطنية حسب وجهة نظرنا . فالوطنية ليست شعاراً نرفعه، وننساه على رفوف قاعة النسيان في الزوايا المعتمة من الذاكرة , ولا نطرحه للمزودات السياسية , ولا أداة إقصائية لمن نختلف معهم في الرأي والتحليل . بل تجسيداً لمستقبل شعبنا ولمصالحه وضماناً لأمنه وصيانة لكرامته وحريته في التعبير عن ذاته كما هو وليس كما يشاء البعض . ولا نطرحه بالضد من الأبعاد الدينية والقومية والطائفية لمكونات المجتمع السوري المتجاوزة للحدود , بل نجد في هذه الأبعاد تكاملاً لا انفصاما قوة لا ضعفاً . ولا نطرحها كمعطى منجز أو نتاج السيرورة والصيرورة التاريخية لمكون معين داخل البنية الاجتماعية للمجتمع السوري ، بل نتاج التفاعل والتداخل بين كل مكونات المجتمع وهذا المعطى قيد الإنجاز ويجب خلقه بسبب تكاثف واختزال مصالح الشعب السوري في بنيته المفاهيمية وتماهيه مع منطق العصر و بسبب رؤيته لشكل وجود الإنسان المتمتع بكافة حقوقه وقدرته على تأطير الطاقات الوطنية وخلق المصالحة ما بين المواطن والدولة وقضاء على اغتراب المواطن عن وطنه ودولته ومجتمعه.
ومنعاً لأي التباس وبسبب تعدد المدلولات التي قدمت لمفهوم الوطنية عبر تاريخ سوريا الحديث ولأن مفهوم الوطنية بحد ذاته نسبي وملتبس ، وحضور الذات في تحديده يغلب على الموضوعية في توصيفه لدى أغلب من رفعوه شعاراً . كان لا بد لنا أن نقف عند مفردات مفهوم الوطنية كما نراها من زاويتنا . و لا بد أن نشير أولاً إلى كيفية بناء الدولة السورية ، التي نكافح من أجل تحويلها إلى الوطن السوري في رحلة كفاح طويلة ضد القوى المهيمنة والساعية إلى حفاظ على الدور الوظيفي للكيان السوري سواء أكانت خارجية أم داخلية كما خطط لها في اتفاقية سايكس بيكو , لأن وجود الدولة لا يعني أبداً تجذر مفهوم الوطن في وعي المواطنين .
إن المجتمع السوري بتركيبته الراهنة لا علاقة له بكل المجتمعات السورية السابقة والجغرافية السياسية السورية التي كرستها اتفاقيات سايكس بيكو والمعادلة الدولية ضمت أجزاء من الولايات العثمانية السابقة ( حلب، دمشق ، بيروت ، ديار بكر ) في خارطة سياسية واحدة سميت بالدولة السورية وقد ضمت هذه الخارطة أطيافا من : العرب والكورد والسريان والأرمن والشراكس و ضمت مسلمين ومسيحيين وإيزيديين ويهود وأيضا سنة وعلويين ودروز وإسماعيليين وشيعة ، وهناك علمانيون
ولكن تباينت نسبة حضور هذه المكونات في النسيج الاجتماعي السوري فقد شكل العرب أكثرية عددية مقارنة مع الكورد والآشوريين والأرمن وشكل المسلمون أكثرية عددية مقارنة مع المسيحيين والإيزديين وبقية المكونات . ولعبت هذه الأكثرية العددية دوراً بارزاً في تحديد معالم الدولة السورية منذ الاستقلال إلى وقتنا الراهن وإقصاء الكورد وبقية المكونات كان نتاج اختزال الوطن في صيغة عروبية تارة وإسلامية تارة أخرى وكلا صيغتين لم تعترفا بحدود الدولة السورية ولا بشرعيتها الدستورية ، رغم سعيهما الحثيث إلى صهرها وذوبانها في بوتقتها الفكرية والأنطولوجية .
وبإمكاننا أن نقول أن سوريا تعرضت خلال تاريخها إلى ثلاثة أشكال من الاستلاب الماهوي
ـ الاستلاب الأول كان إسلامياً واعتباره سوريا بلد إسلامي وشعب سوريا شعب مسلم وترتب على هذه القناعة مواد دستورية امتدت إلى مصدر التشريع وديانة رئس الجمهورية واعتبار أحكام الدين الإسلامي خطاً أحمراً لا يجوز مخالفته ، وهذا الحق لم يعطى للمسيحيين ولا للإيزديين وبقية الطوائف ، ولم تحترم قنا عات العلمانيين فكانت المعادلة السورية ، السوري يساوي المسلم .
ـ الاستلاب الثاني كان عروبياً إذ بعد انسحاب الاستعمار الفرنسي من سوريا وجد القوميين العرب من جميع التيارات السياسية فرصة مؤاتية لفرض هويتهم القومية على سوريا مستفيدين من الوضع الدولي والاتفاقيات الموقعة بين الشريف الحسين والحلفاء في الحرب العالمية الأولى وضعف بقية المكونات ولا سيما المكون الكوردي .فجعلوا سوريا جزءً من الوطن العربي والمنظومة العربية وغيروا اسم الجمهورية إلى الجمهورية العربية السورية وجعلوا العربية لغة البلاد الرسمية الوحيدة وعربوا البلاد من السماء إلى أعماق الأرض من مجاهل التاريخ إلى أفاق المستقبل المنظور وهذه السياسة تجسدت بخطوات إجرائية ملموسة على الأرض من منع مكونات أخرى من استخدام مفرداتها الثقافية إلى تغير الهوية التاريخية والثقافية لكثير من المناطق إلى تحويلهم إلى لاجئين في بلدهم كما حال أكثر من ثلاثمائة وخمسون ألفاً من مواطنين الكورد إلى أجانب وهم سوريين أكثر من السلطة التي سحبت منهم جنسيتهم وانعكس كل ذلك في مواد دستورية تلخص وتشرعن كل هذه الإجراءات
فمثلاً المادة الأولى من الدستور السوري تقول : الجمهورية العربية السورية (الصادر عام 1973-) القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي؛
3- الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة».
إذا الهوية السورية مغيبة أو تم ذوبانها في بنية العروبة الشكل الأكثر تمثيلاً للشعب السوري حسب رؤيتهم، وبالتالي العمل يكون في سبيل العروبة . وسوريا ليس إلا أداة مرحلية مؤقتة في سبيل العروبة ومصالح سوريا لا أهمية لها أمام مصلحة العروبة
والفكر العروبي سعى منذ البداية إلى إعتبار سوريا مجرد قاعدة للإستراتيجيات القومية العربية ، و الأولوية في رسم السياسات السورية للمعطى القومي العربي وليس للوطني السوري ،إذ تم تغيب ما هو سوري لصالح ما هو عربي وهذا لم يحصل من قبل السلطة فقط ، بل من قبل التيار القومي العربي واليساري أيضاً . وهذا الغياب مستمر إلى الآن . إذ حتى هذه اللحظة لم تنفتح القوى السياسية على الوطن بكل مكوناته وما تزال معالم الوطن تحدد وفقاً للأغلبية ( العروبية والإسلامية )
إذاً هناك استلاب للوطن وهناك اختزال للهوية الوطنية في الانتماء العربي وهذا الاستلاب لم يتوقف عند حدود الصياغة والـتأسيس النظري وتحريف الوعي الأيديولوجي ، بل انتقل إلى الواقع ليطابقه مع أفكاره ،من خلال ترجمة أفكاره بأساليب متعددة عبر أنظمة التنشئة الاجتماعية والنظام التربوي ومؤسسات الدولة السياسية والإدارية والتكوين الثقافي والرمزية الاجتماعية والسياسية المعبرة عن هوية الوطن وثقافة شعبه ووجوده.إذاً المعادلة أصبحت حسب القوميين على شكل الأتي : السوري يساوي العربي ، أن تكون سورياً يعني أن تكون عروبياً ، وأحياناً وحسب متطلبات المرحلة يتم مزج ما هو عروبي مع إسلامي لينتج سورياً وهو مشوه بطبيعة الحال ويفتقد إلى المصداقية لذلك يكون البديل بزيادة العزف على وتر القومية والإسلام العروبي والتغني بهما وبأمجادهم
الاستلاب الثالث من جاء من قبل البعث على اعتبار أن الاستلاب الأول كان إسلامياً والثاني عروبياً والثالث كان بعثياً ، والمادة الثامنة من الدستور السوري الحالي تشير إلى إختزال المجتمع والشعب السوري في البعث ، فالبعث قائد للدولة والمجتمع والشعب . والإشكالية تكمن في أن القوى السياسية التي تندد بالاستلاب الثالث وتشير إلى مساوئه ، ترى في الاستلاب الأول والثاني طبيعياً وانعكاسا للخارطة الديمغرافية السورية، دون أن يعيروا أي احترام لحالة التنوع القومي والثقافي والديني مع ممارسة شيء من الاستبداد القومي والديني والثقافي على صعيد النظري ولا سيما في مشاريعهم السياسية وقراءتهم لمستقبل سوريا , مما خلق شرخاً كبيراً بين مكونات المجتمع السوري والتي يفترض منها أن تشكل دعائم الوطنية السورية
فأن تكون سوري يعني أن تكون إسلامياً وعروبياً وبعثياً وفق الاختزال الأخير للفقه السياسي القومي العروبي.
وإذا كان الكورد وبقية المكونات تجد في هذه العلاقة تعدياً على الهوية الوطنية فإن كثير من القوى السياسية العربية والتي اعترضت على البعثنة ترى في اعتراض الكورد على العروبة والطابع الإسلامي خروج عن صيغة الوطنية والإجماع الوطني, الإسلام والعروبة وفق رؤيتهم في تداخل بنيوي مع الوطنية السورية وهذا التداخل تم تغليفه بصبغة لاهوتية مقدسة بما يؤمن التغذية الراجعة المعرقلة لأي محاولة لبناء الهوية الوطنية .
لذلك نعتقد أن إعادة بناء الهوية الوطنية وصياغتها بما يجسد معطياتها على أرض الواقع هي الخطوة الأولى باتجاه تجاوز المرحلة السابقة بكل سلبياتها ،وهذه الهوية يفترض بها أن تكون على مسافة واحدة من كل مكوناتها فلا تتماهى لا مع العروبة ولا مع الإسلام ولا مع البعث فالعروبة والكوردايتي والسريانية والآشورية والأرمنية ركائز لها وكذلك الأمر الإسلام والمسيحية والإيزيدية وبقية المذاهب تشكل ركائز هذه الهوية ودعائمها ولكن لا يمكن للهوية السورية الوطنية أن تنصهر في بوتقة أي منها والعروبة السورية سورية ولكن السورية ليست عروبة وكذلك الكوردايتي السورية سورية ولكن السورية ليست كوردايتي. السورية تستغرق كل مكوناتها والعكس غير صحيح سوريا تعكس وجود مكونها العربي كما أي دولة عربية صرفة تجسد ذلك ولكن عروبة سوريا ليست على حساب كورديتها فهي كوردية بنفس القدر وآشورية و إسلامية ومسيحية وإيزيدية. هوية سوريا هوية مركبة ملونة تنأى بنفسها عن الذوبان في مكون واحد ولون واحد ، حيادية تجاه مكوناتها الاجتماعية والسياسية وهذه الوطنية السورية هي وحدها القادرة أن تؤسس للمواطنة الحقيقية، الوطنية السورية هذه ليست وطنية الحزب ولا الحاكم ولا الطائفة ولا القومية ولكنها تحفظ للفرد حقوقه وخصوصيته وللطائفة والقومية وجودها وخصوصيتها , لكنها تعبر عن ذاتها في نهاية الأمر في الكل الاجتماعي الأشمل من خلال قدرتها على التفاعل والتعايش مع مكونات المجتمع السوري القومية والدينية والسياسية . تربية المواطن في المجتمع السوري ينبغي أن تركز على بلورة هوية وطنية أعلى من كل الانتماءات تعكس المتحد الوطني الناجم عن التثاقف والتفاعل عبر أجيال عديدة ، إن الدولة الوطنية هدف منشود ولن تتحقق إلا من خلال التوافق في دولة القانون والانتخابات ، دولة العدالة والمساواة بين المواطنين والمكونات ، دولة التعدد والتنوع، وبمقدار توفر هذا التوافق داخل الوطن تتقوى الروابط بين المواطنين ويتحقق الاستقرار والرفاه وتمنع تآكل البنية المجتمعية ، ويحصن الوطن ضد الخطر الخارجي . وسيعتبر حقوق المواطن مقياساً للوطنية وبقدر ما تكون مصانة ومحصنة بقدر ما يكون الوطن محصناً ومصاناً ،هذه هي الوطنية القادرة أن تنقل المواطن من رابطة الدم والغريزة إلى رابطة المواطنة المبنية على أساس المصلحة والعقل وعندما نقول سوريا أولاً فإننا ننطلق من قراءة مفردات الخارطة السورية المحلية ومن إستشفاف المستقبل المنظور للوضع الدولي فنجد فيها( سوريا أولاً ) تجسيدً لطموحات شعبنا الحقوقية والسياسية وحماية له من المشاريع العنصرية اللاوطنية كمشاريع الحزام العربي وأفكار محمد طلب هلال والقوانين الصادرة عن دولة البعث فالوطنية تعني أن الكورد كأفراد يعاملوا على قدم مساواة مع العرب وتعامل القومية الكوردية كما تعامل القومية العربية
وسوريا أولاً لا تلغي العلاقات التاريخية والروابط القومية مع بقية أجزاء كوردستان بل إن هذا الامتداد وهذا التواصل سيخدم مصلحة الشعب السوري ككل ومصلحة الأجزاء الأخرى من كوردستان والامتداد الكوردي سيعامل كما يعامل الامتداد العربي
هذه سوريا أولا كما نراها ونطمح إلى تحقيقها ونعلم تماماً أن هذا مرهون برغبة بقية المكونات في العيش تحت سقف الوطن دون منح الامتيازات لأحدهم على حساب آخرين
شيروان فرات