قراءة في الوضع التركي وقواسمه المشتركة مع جيرانه
الثلاثاء 05 كانون الثّاني / يناير 2010, 18:20
كورداونلاين
لا نبالغ اذا قلنا إن دخول محقق مدني الى حجرة ارشيف القوات الخاصة في قيادة اركان الجيش التركي يشبه من حيث الاهمية لتركيا سير أول انسان على القمر بالنسبة الى أهل الارض
فتركيا ومنذ التحاقها بالناتو عام 1952 وهي تشهد دوراً قوياً للجيش على ساحتها السياسية والاجتماعية بعضه ظاهر واضح - من خلال الانقلابات العسكرية المباشرة والمتكررة - وجزء آخر منه مستور لكن الجميع كان يشعر بوجوده وتأثيره، حتى بات مصطلح (الدولة الخفية) أو (دولة الظل) مصطلحاً دارجاً شائعاً يشير غالباً الى تحالف بعض القوى البيروقراطية والسياسية مع الجيش سراً من أجل التأثير في الأحداث السياسية في تركيا. لكن، الى أي حد سيُسمح للمحقق المدني بالغوص في أعماق ذلك الأرشيف المهم، خصوصاً أن حجة دخوله اليه كانت التأكد من نيات ضابطين متهمين بترصد نائب رئيس الوزراء بولنت ارينش ومراقبته، واذا كان هذا الترصد جزءاً من خطة سرية تهدف الى اغتيال عدد من القيادات السياسية من بينها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والرئيس عبدالله غول.
كثير من المراقبين والمحللين في تركيا يعتقدون بأهمية وجود جرأة سياسية لكشف أسرار تلك الحجرة وتشكيل لجنة برلمانية لمراجعة ملفاتها من اجل كشف الدور الحقيقي الذي لعبه الجيش في توجيه الحياة السياسية خلال العقود الماضية ومحاسبة المسؤولين عن أية تجاوزات قانونية أو مخططات انقلابية - تم وضعها في تلك الحجرة - في اطار الدفاع عن النظام الجمهوري العلماني أو مصلحة الدولة العليا وغيرها من المصطلحات الوطنية التي يجرى تبرير كل تجاوز للقانون من خلالها. لكن آخرين في تركيا يشككون في ان يُعطى المدنيون أو المحققون تلك الفرصة الثمينة، لأن ذلك الارشيف لا يشمل فقط خطط الجيش السرية التي تم تنفيذها سابقاً أو تلك التي ستنفذ لاحقاً، وانما بين ملفاته ما يمس بعض دول «الناتو» ويطاولها، خصوصاً الولايات المتحدةً.
غرفة العمليات الخاصة أو قسم الحرب النوعية هو الاسم القديم لقسم القوات الخاصة التابعة لقيادة الأركان في الجيش التركي، وهو قسم يضم عسكريين ومدنيين معاً، العسكريون يتم اختيارهم بعناية من بين القوات البرية والبحرية والجوية، ويخضعون لتدريبات قاسية تجعلهم على كفاءة عالية، فيما يتم اختيار المدنيين الذين يتبعون هذا القسم في شكل سري من بين عامة الناس في مختلف انحاء تركيا ومن مختلف الأوساط (مدرّس أو مختار أو قاض أو محام أو تاجر أو فنان) ممن يوثق بوطنيتهم وانتمائهم بحسب مفهوم الجيش، ولا يعرف أحدهم شيئاً عن الآخر. مهمة العسكريين والمدنيين في هذا القسم هي الاستعداد لحال الطوارئ إذا تعرضت تركيا للاحتلال أو تعرض النظام للخطر، وذلك من خلال التدريب على تنفيذ خطط جاهزة لتشكيل مقاومة شعبية مدربة على استخدام السلاح والتخابر في ما بينها، وعلى تنظيم بقية فئات الشعب للغرض نفسه.
وفي هذا الاطار يستعين هؤلاء بسلاح تم اخفاؤه في مخابئ سرية تحت الارض في مختلف انحاء تركيا. فكرة انشاء هذا التنظيم السري جاءت من الاستخبارات الاميركية «سي آي ايه»، اذ عملت تلك الاستخبارات على بناء التنظيم السري هذا داخل عدد من دول «الناتو» منذ ستينات القرن الماضي وذلك بهدف مواجهة أي احتلال او انقلاب شيوعي قد يقع في احدى دول الحلف اثناء الحرب الباردة، وكانت هذه التنظيمات التي تم تشكيلها في معظم دول الحلف وبالطريقة ذاتها، سرية للغاية لدرجة أن حكومات تلك الدول لم تعرف عنها شيئاً، وبقي الامر سراً حتى اكتشفت ايطاليا وجود هذا التنظيم السري على ارضها وبين مؤسساتها عام 1990 ضمن ما عرف حينها بقضية تنظيم (غلاديو)، واكتشف الايطاليون والبلجيكيون وغيرهم أن الاستخبارات الاميركية استغلت غطاء «الناتو» من أجل تنظيم وتمويل وتحريك هذه التنظيمات داخل بلدانها لتنفيذ عمليات تفجير واغتيال رأت انها ضرورية للتصدي للمد اليساري او الشيوعي في تلك الدول واستمالة الرأي العام والتأثير فيه، وذلك في اطار استراتيجية التصدي للتنظيمات اليسارية المسلحة التي كانت منتشرة في انحاء العالم ومدعومة من الانظمة الاشتراكية والشيوعية.
وكانت بصمات هذا التنظيم ظاهرة وقوية في ايطاليا من خلال عمليات اغتيال وتفجيرات لم يتم الكشف عن منفذيها وساعدت كلها في دعم القوى اليمينية أو حتى الفاشية ضد قوى اليسار. وفي تركيا كان اول من تحدث عن وجود هذا التنظيم رجل من داخل البيت العسكري نفسه، اذ كتب الضابط طلعت طورهان عريضة رسمية وجّهها الى رئيس الوزراء في تركيا عام 1973 نعيم طالو طالبه بالتحقيق في وجود تنظيم سري داخل الجيش اطلق عليه اسم (كونتر غيريللا)، أي (ضد العصابات) متورط في كثير من اعمال العنف الغامضة في تركيا بدعم من الاستخبارات الاميركية المركزية، لكن تصريحات طورهان هذه لم تؤخذ على محمل الجد حينها، خصوصاً أنه كان يحاكم كمُتّهم في احدى قضايا التفجيرات الغامضة التي وقعت في تلك الحقبة، واعتبر كثيرون ان الرجل يؤلف قصة من خياله لكي ينجو من التهمة الموجهة اليه. ولا عجب في ذلك، اذ ان رئيس الوزراء بولنت اجاويد يشرح أنه لم يكن قد سمع قبلاً عن وجود قسم داخل الجيش يسمى بالقوات الخاصة او قسم الحرب النوعية الا عندما طلب منه قائد اركان الجيش سميح سانجار عام 1974 زيادة مخصصات هذا القسم المالية، ولا يخفي اجاويد دهشته وانزعاجه الشديدين من وجود هذا القسم الذي ربط بينه وبين الكثير من أحداث العنف والاغتيالات الغامضة التي وقعت في تركيا في تلك الفترة، خصوصاً بعدما كان هو كزعيم للتيار اليساري قريباً من العودة الى الحكم مجدداً عام 1977 وفوجئ حينها بوقوع أحداث الاول من أيار/ مايو في تظاهرات عيد العمال اليسارية في ذلك العام، اذ اطلق مجهولون النار على المتظاهرين في ميدان تقسيم في اسطنبول، ما ادى الى مذبحة راح ضحيتها 34 مواطناً ومنع على أثر ذلك التظاهر في عيد العمال، وعندما لمّح أجاويد في حملاته الانتخابية بعد ذلك الى احتمال تورط تنظيم كونتر غيريللا في تلك الحادثة، تعرض هو بعد شهر الى محاولة اغتيال ذات مغزى واضح، بعد ان اتضح أن السلاح الذي تمت به تلك المحاولة سلاح أميركي غير موجود في تركيا وأن الذي قام بالمهمة هو رجل شرطة من (الوطنيين) الغيورين على مصلحة الوطن، ولم يسجن ذلك الوطني الا ثلاثة اشهر فقط، بسبب القضاة (الوطنيين) الذين كانوا قائمين على محاكمته. ناهيك بعشرات الاحداث المماثلة التي أدت الى زعزعة الاستقرار في تركيا ومهدت الى انقلاب عام 1980 والتي ظهر بعدها وجود صلة قوية بين اوساط الجيش والعصابات القومية اليمينية والمتطرفة، بل تعدى ذلك الى تورط رجال هذا التنظيم في عمليات خارجية لاغتيال زعماء التنظيم الإرهابي الأرمني «اصاله» الذي كان يستهدف اغتيال ديبلوماسيي تركيا في الخارج، والعملية الاشهر التي قام بها احد هؤلاء المتطرفين القوميين (الوطنييين) محمد على اقجه لاغتيال بابا الفاتيكان جان بول الثاني عام 1981... واستمر ذلك الى ما بعد الانقلاب العسكري. وكان الرئيس الراحل تورغوت اوزال (الذي لا يزال كثيرون يشككون بأنه مات مسموماً) احد ضحايا ذلك التنظيم السري الذي حاول اغتياله عام 1988.
يؤكد العالمون بأمور الجيش وخفاياه في تركيا ان تمويل الاستخبارات الاميركية لذلك القسم والتنظيم السريين في تركيا انقطع بعد ازمة قبرص عام 1974 وتدخل الجيش التركي في تلك الجزيرة وتوتر الاوضاع السياسية بين أنقرة وواشنطن، لكن بعضهم يؤكد استمرار التعاون وربما عودة التمويل من جديد بعد سنوات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي عندما تراجع خطر الشيوعية وبدا أن الحرب الباردة على وشك ان تحسم لمصلحة المعسكر الرأسمالي الغربي، فتم حينها «تأميم» ذلك التنظيم وإخضاعه لخطط محلية بحته وبتمويل سري لدرجة أن هناك شكوكاً جدية بأن التنظيم تم استخدامه بعد ذلك لضرب المصالح الاميركية في تركيا والمنطقة، وأشهر حادثة في هذا السياق قد تكون إلقاء القوات الاميركية القبض على ثمانية من القوات الخاصة الاتراك في مدينة السليمانية في كوردستان العراق صيف عام 2003 كانوا يخططون لاغتيال محافظ كركوك بهدف إشعال حرب قومية اثنية بين التركمان والكورد هناك تجبر الحكومة التركية حينها على التدخل وتفسح في المجال لموطئ قدم تركية في اقليم كوردستان بعد احتلال العراق وخروج تركيا من المنطقة على خلفية رفضها المشاركة في الحرب، الامر الذي جعل كثيرين في الجيش التركي يعتقدون بأن التعاون الكوردي - الاميركي سيؤدي الى قيام دولة كوردية اذا لم تتدخل تركيا بسرعة. وتشير الادلة التي عثر عليها أخيراً اثناء تحقيقات قضية ارغاناكون (التنظيم السري المتهم بالعمل على الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية حالياً) الى أن تنظيم ارغاناكون قد يكون نسخة مشوهة عن تنظيم القوات الخاصة او أحد افرازاته بعد استقرار ثقافة انشاء التنظيمات السرية داخل الجيش، على اعتبار أن مجموعات في الجيش رأت في وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم خطراً يهدد النظام الجمهوري والعلماني في الدولة، وأن تعاون هذا الحزب مع واشنطن يشكل نوعاً من انواع الاحتلال بالإنابة للبلاد، وهو امر يتطلب اعادة تفعيل هذا التنظيم.
ومن المثير هنا ان الاسلحة التي تم العثور عليها – في اطار تحقيقات ارغاناكون - مخبأة او مدفونة في الأرض بالطريقة ذاتها التي كان تنظيم القوات الخاصة يعتمدها، وجدت ملفوفة بورق صحف يعود تاريخها الى عام 2004 وهو التاريخ الذي يتوقع الجميع أنه انطلاقة تنظيم ارغاناكون. وقد أفادت التحقيقات المتعلقة بأرغاناكون في ربط الكثير من الاحداث الغامضة والتي بدت في السابق منفردة ومستقله عن بعضها البعض، لتظهر وكأنها نسيج متماسك في قماشة واحدة، اذ تكشف تحقيقات ارغاناكون ايضاً عن خطط الاطاحة برئيس الوزراء الاسلامي الاسبق نجم الدين اربكان، لكن السؤال الاصعب والاكثر اثارة والذي لم يعثر له على دليل مؤكد حتى الآن هو احتمال ارتباط بعض هذه التنظيمات بعناصر من حزب العمال الكوردستاني التي تم اختراقها وتنظيمها لتقوم بعمليات نوعية ضد اهداف تركية في اوقات حرجة. فعلامات الاستفهام لا تزال تحيط بحادثة قتل 33 جندياً تركياً اعزل عام 1993 في محافظة بينغول على يد مسلحي حزب العمال الكوردستاني في شكل وحشي على رغم اعلان وقف اطلاق النار وقرب وصول المفاوضات غير المباشرة بين الدولة التركية والحزب المسلح الى مرحلة التفاهمات المكتوبة وإصدار العفو العام، اذ فجرت هذه الحادثة التي رفض الحزب تبنيها كل مفاوضات السلام بين الطرفين، كما كان لافتاً ازدياد هجمات حزب العمال الكوردستاني في شكل نوعي ومكثف عام 2007 في الوقت الذي كانت تلك (القوى الوطنية) تسعى الى اطاحة حكومة العدالة والتنمية وجرّها في الوقت ذاته الى ارسال الجيش التركي الى اقليم كوردستان لقطع شعرة معاوية بين اردوغان والبيت الابيض حينها، حيث وفرت هجمات الحزب المسلح مادة دسمة لهؤلاء للضغط على الحكومة لاجتياح اقليم كوردستان عسكرياً، وبدا هنا اتفاق مصالح واضح (ان لم يكن الموضوع ابعد وأعمق من ذلك) بين حزب العمال الذي يريد جر تركيا الى مستنقع جديد في اقليم كوردستان، وبين هذه (القوى الوطنية) داخل اوساط الجيش التي ترى ان الوجود العسكري في الاقليم مطلوب لدفن أي مشروع لقيام دولة كوردية هناك، ولتفجير العلاقات بين حكومة اردوغان وواشنطن.
كانت تركيا أول دولة اطلسية عملت على تغيير تعريف العدو بعد الحرب الباردة، وكان الانقلاب على الاسلامي نجم الدين اربكان 1997 اولى بوادر تحول الحلف الاطلسي من الحرب مع العدو الشيوعي الى التصدي للعدو الجديد الذي اصطلح على تسميته بـ «التطرف الاسلامي» او الارهاب في قمة اسطنبول عام 2004. فكان الجيش التركي اول قوة في الناتو وضع خططاً سياسية واقتصادية واجتماعية لاجتثاث القوى الاسلامية التي نمت خلال فترة الحرب الباردة، فهل كان ذلك بعد نظر من العسكريين الاتراك، ام ان تركيا كانت مختبراً تم فيه إجراء اختبارات استباقية للناتو في هذا المجال بإشراف قوى اكبر؟ كما ان التعاون الاستخباراتي القديم بين تركيا واسرائيل اثناء فترة الحرب الباردة يكشف لنا مدى تأثر الاوساط الامنية والعسكرية التركية بالاساليب الاسرائيلية في تشكيل تنظيمات سرية ليس لها وجود في الاوراق الرسمية، تنفذ من خلالها عمليات الاغتيال والتفجيرات والتصفيات عن بعد، بل واختلاق خطر وهمي من أجل تبرير تحرك سياسي مطلوب. ولعل النموذج التركي يبدو الاكثر وضوحاً امامنا هنا في المنطقة، لكنه يكشف لنا ايضاً عن وجود امثلة مشابهة في العراق وأفغانستان، اي في المناطق التي تنشط فيها الاستخبارات الاميركية لدعم خطط الجيش الاميركي وعملياته. وعلى رغم طول الحديث عن سعي واشنطن لزرع الاستقرار في العراق وأفغانستان بمختلف الطرق عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، الا ان هذا الهدف لم يتحقق حتى الآن وعمليات التفجير الانتحارية والاغتيالات والتفجيرات الغامضة لا تزال على الساحة هناك. فهل حان الوقت لادارة اوباما كي ترسل محققيها ومفتشيها الى ارشيف الاستخبارات المركزية لتتطلع هي الأخرى على خفايا التنظيم السري العسكري الذي انشأته وأدارته وبنت فروعه في مختلف دول الناتو وغيرها لعقود طويلة؟ وتتأكد من وجود او عدم وجود قوى فيه تسعى لاستمرار الوجود العسكري اطول مدة في هذين البلدين؟ ان الدولة الوحيدة التي لم تقم بتحقيق مستقل وشفاف في شأن هذا التنظيم السري داخل حلف الاطلسي هي الولايات المتحدة الاميركية، فهل لهذه الحقيقة علاقة بدول الحلف التي سعت الى تصفية هذا التنظيم ومواجهة ماضيها وهي تبدو اليوم على مسافة أبعد من ملف الحرب المفتوحة بكل الوسائل على الارهاب من واشنطن التي لا تزال تغوص في ذلك المستنقع؟