أجرى اللقاء: د. توفيق آلتونجي
يتميز الشاعر والأديب بدل رفو في كتاباته الإبداعية بتوظيف المكان خلال الإبداع الأدبي. ويأتي كل ذلك من إحساسه المرهف وتمكنه من رؤية الجزيئات الجمالية في الطبيعة، انطلاقا من البيئة التي ترعرع فيها. تحضر في صميم كتاباته العوامل البيئية الجميلة ، من أجمل ما أبدعه الخالق في الطبيعة واعني "كوردستان" قارئي الكريم.
هناك حيث الشلال يعانق الجبل ويداعب الأسماك في النهر الجاري في الوادي، لتحشد جميع ألوان الطبيعة في أزهار البراري التي تحولت أسماؤها إلى أسماء جميلاتنا، فتحول عشقنا وولهنا الأبدي لهن ولكل جميل ،أسطورة عشق ، كما في شيرين وفرهاد وخجة وسيامند وممو زين .
هذا الغنى الطبيعي يلتقي في كتابات احد مبدعي الأدب العراقي والكوردي المعاصر، بدل رفو ا ليس فقط كشاعر يعصر كلمات المنطوقة في بوتقة ليطعمها بكل ذلك العشق الإنساني والشعور المرهف في حب الوطن والطبيعة والجمال، بل ليخرج إلينا بدرر جميلة. فهو القائل:
تعالَ نسافر معاً
يا وطني
عبر البحار والمحيطات
سأحملك معي في ترحالي
ونطوف حول تاج محل
كي نتطيب بالحب والنقاء
الذي أفتقده في شعبي
ونسلم على غيفارا في هافانا
كي نتذكر بطولات شعبي الجائع
والى جبال كشمير
ربما نجد حباً حقيقياً
سفر وترحال الشاعر لم يتوقف منذ أن شم عبير هواء الحدباء وحمل حقائبه ليرحل من مكان إلى آخر ليكتشف أن هناك جديد حتى في الجحيم.
بدل رفو الشاعر والأديب لنا هذا اللقاء معه ليدلنا عن "المكان" الملهم للنص الإبداعي الأدبي.
*كيف تقيم رحلتك عبر الزمن من شيخان كوردستان إلى مدينة غراتس عروسة مدن أوربا عشيقة مور ومهبط إلهام موزارت والعباقرة العظام ؟
- إنها رحلة بدأت من أقدم قرى التاريخ الإنساني وهي قرية الشيخ حسن إلى مدينة الموصل العراقية، التي تعد من أقدم 3 مدن في التاريخ القديم وكانت عاصمة لنينوى وهذه بدورها عاصمة الإمبراطورية الأشورية.من الموصل انطلقت الرحلة مع الشعور القومي بالكوردايه تي من صفعة تلقيتها من معلم التاريخ في مدرسة الخالدية الابتدائية . من الموصل حملت تاريخ شعبي الأدبي الإنساني في هجرة مليونية بكى التاريخ الحاضر لها. كان قدري صوب مصير مجهول بين جبال كوردستان تركيا المغطاة بالثلوج حيث أقمت في مخيم للاجئين، ومنها إلى بلاد الفالس والموسيقى والإمبراطورية الهابسبوركية وعاصمة أوربا الثقافية لعام 2003 غراتس النمساوية، التي أدين لها ولنهرها العظيم مور بأجمل أيام حياتي. صار لي وطن بدون رتوش.إنها رحلة البحث عن وطن يطل في أحلامي في ليالي الغربة ،عن وطن أبهر العالم بلغته وشعره وإنسانه،عن رسالة تقرأها الأجيال.
*حدثنا عن المكان كرمز في النص الأدبي وماذا يعني لك وجود انطباعات مختلفة عند الإنسان للمكان نفسه يتغير مع تغير الأفراد وزوايا الرؤية والمعلومات والعلوم الأولية للمرء ؟
- لقد عرف المكان في نظريات الأدب بأنه احد الركائز الرئيسية للعمل الأدبي لهذه النظريات. والركيزة الثانية هي الزمان المترابطة معها. لذا نرى أن الإبداع الأدبي لا يمكن أن يكون منفصلا عن الزمان والمكان .وحسب أقوال النقاد في المجال الأدبي فإن الركيزة الثالثة هي روح وذات الأديب وإطلاق أفكاره المركزية لتمتزج بالزمن والمكان، ويولد موضوعاً واقعياً ذا وعي مكسو بأحداث وعوامل متعلقة برؤى فلسفية وروحية. وللمكان جماليات تدرس ضمن مناهج النقد الحديث .لقد كان المكان ومازال محوراً رئيسياً لأدباء العراق ،و للشاعرة العراقية رسمية محيبس زاير ديوان شعري بعنوان (فوضى المكان) .ولكن الأمكنة تختلف من أديب إلى آخر ومن إبداع إلى إبداع على ضوء المناهج التحليلية والأفكار الفلسفية والواقع الذي يعيشه الكاتب ،وكذلك بمدى وقوة تعلق المكان بالزمان وانصهارهما في الرمز والأسطورة.
* نحن شعب نحب الوطن كمن يعبده تتهلل قلوبنا كلما قرأنا كلمة عن معبودتنا. حدثنا عن المنفى كوطن ولغته العجيبة؟
-بالتأكيد، نحن شعب نحنّ إلى الوطن ونحن فيه و نفتقده، فكيف إن اغتربنا. ولقد كان المنفى للأدباء العراقيين بصورة عامة ،والكورد بصورة خاصة، منفىً إجباريا وليس اختياراً. وفي هذا السياق أتذكر الفيلم الإيطالي ساعي البريد الذي يصور حكاية نفي الشاعر الإنساني الكبير بابلو نيرودا إلى جزيرة إيطالية حيث عاش أجمل أيام حياته. ولكن، حين وصله تلغراف بأنه مشمول بالعفو وبوسعه العودة إلى تشيلي نسي الجزيرة وصداقته مع ساعي البريد الخاص وعاد إلى الوطن. فالمنفى لا يسد المكان الفارغ للوطن في ترحالنا. لكننا، نحن الأدباء، كل منا خلق وطناً آخر يعيش معه في غربته ومنفاه، وطن من دون مزايدات وطنية، عالم من حب وشعر. فأنا خلقت وطناً أسميته آفيفان ،مثل ذلك الطائر الذي خلقة طاغور في أشعاره حتى صار طائر طاغور .في هذا المنفى تمكنت بمجهود شخصي أن انتمي إلى اتحاداتهم الأدبية ونقاباتهم الصحافية واندمج مع حضارتهم الثقافية، دون أن أنسى حضارتي ووطني الذي أحمله في غربتي دون أن يشعر بنا ربابنة الوطن ومن دون تزكية حزبية،وآخر رحلاتي في وطني هي إلى جزيرة لم تعرف ولم تسمع اسم الكورد، فأنا أول كوردي في تاريخها تطأ قدميه هناك. رحلة مشوقة وغربية نوعاُ ما. و على صخور الادرياتيك نقشت اسم الوطن .وأنا الآن موجود فيها إنها جزيرة سوساك في البحر الادرياتيكي.
* المدن القديمة وأزقتها تاريخ حي. وأنت تعيش في مدينة يكاد كل جزء وزاوية من زواياها يحكي رواية وتكاد تنطق أحجارها...هنا جبل القصر وساعتها وسجنها الذي تحول إلى مسرح. وهناك نهر المور الذي تغنى به الشعراء وسبور كاسا حيث القشلة العثمانية وتحف المدينة. وهناك جلس كبلر ليرصد الأقمار...وآلاف من الحكايات. حدثنا عن التناقض في البيئة بين المدينة الأوربية والمدينة الشرقية. وأين ينام الحلم؟
أما زالت قلعة باشطابيا
شامخة كشموخ الحدباء
وتشهد على حبي الاول؟!
يا عشقي الكبير
كل زاوية من زوايا الموصل لها قصة وتاريخ في مشوار حياتي. حكايات الموصل لها مذاق خاص والحلم في الموصل له كل الأزمنة، لكن الفرق بين البيئيتين كبير جداً .ففي المدن الأوربية وخاصة مدينتي غراتس، تعتبر المدينة القديمة خطاً أحمر، ويمنع بتاتاً هدم أو بناء أو تحديث البنايات والمتاحف والآثار.وهذا ما لا نراه في المدينة الشرقية وأقصد مدينتي الموصل. حين زرتها آخر مرة في 2003 رأيت كل الأمكنة التاريخية والقديمة قد تم هدمها وخاناتها القديمة غدت عمارات شاهقة. يتصور الشرقيون بأن الحضارة تكمن في هذه العمارات متناسين بأنها في خاناتهم وحاراتهم القديمة. ً في الموصل مثلا هناك حارات المشاهدة والشيخ فتحي وهي تعد متاحف كبيرة ولكنها تهدم اليوم من ،جل بنايات شاهقة. هناك دول مثل المغرب حيث رأيت السياح يقطعون البحار من أجل مشاهدة مدينة فآس القديمة وشيفشاون لأن في هذه البيئة القديمة تسكن الحضارة ،ومن الحضارة ينهل الحلم في بناء الإنسان. وقد كتبت في كل المدن التي زرتها مثلا(غرناطة، الماتا، مكناس،الموصل،غراتس ،براغ،ووو).للمدينة مكانة كبيرة في قصائدي وأحلامي، ويبقى للموصل الحيز الأكبر لأنها عشقي الكبير وطفولتي البائسة . الحلم الكبير مرتبط بالمكان أولا وأخيراً، والمكان الذي تتشبث به أحلامي وذكرياتي هي مدينتي الموصل .
* قدمت الأدب المكتوب بالألمانية إلى قارئ العربية هل اكتشفت فيهم ولعا للمكان كرمز؟
وطني ...
أنا أودعك...
صورك مطبوعة
في نفسي...
وفيك قد ولدت
السعادة، التعاسة،
ويا شوق روحي
كلهم هنا...
يا عشقي...
لن أنساك.
أتبدأ حياة جديدة
في عالم غريب؟
يا ذكريات وطني
سأستسقي منك.
سأستسقي منك.
(سونيا ميخائيليدو)
يبدأ المكان من رحم الأم. فللشاعر النمساوي ،وعلى ضوء ترجمتي لأكثر من 90 شاعرا وشاعرة نمساوية ،فإن المكان متشبث بالأبدية أو الديانة أو الفن أو الطبيعة.المكان عند الشاعر النمساوي متشبث ومتماسك بكلمة تدعى الوطن. فهناك أنطولوجيات كثيرة باللغة الألمانية عن الوطن.أما في الشعر الحديث النمساوي ، فهناك تعلق بالملامح التاريخية للدولة وحضارتها الحافلة بالموسيقى والفن .نادراُ ما أجد شاعرا أو شاعرة يذكر اسم المكان. فالأمكنة مثلا عند الشاعر النمساوي بدت نادرة. يخشى الشاعر أن يذكر اسم سالزبورغ موطن ميلاد أكبر موسيقار عالمي موزارت خشية أن يتهم بأنه يعمل دعاية لشوكولادا سالزبورغية وأيضا فيننا . قرأت وترجمت كثيراًً لشعراء يتغنون ويكتبون للوطن بدلياً عن المكان. فالمكان لا يعني لهم الرمز بقدر الوطن الذي يفتخرون به وبلغته الألمانية. وهناك شوق وحنين إلى الوطن النمسا في الغربة. وحتى في كتابي القادم قصائد حب نمساوية للأرض والإنسان تتبين مدى تعلق الإنسان والشاعر والأديب النمساوي بالوطن.
*التاريخ يقدم لنا مادة دسمة للتجوال في ربوع المدن والأمصار التي وربما زارها أجدادنا يموما ما
هل قابلت في سفرك الطويل أماكن تعرفت إليها رغم وجودك ولأول مرة في تلك البقاع، حدثا عن تجربتك تلك؟
-انا الآن في جزيرة سوساك ،جزيرة يسمونها جوهرة الأدرياتيك وفيها يكمن حب المغامرة لفن التصوير والسينما وللصحافيين الفضوليين لمعرفة أسرار هذه الجزيرة . و بالرغم من ذلك فهي تعد جزيرة مجهولة لأن هناك الكثير مما لا يعرفه زوار الجزيرة.
أما أزقة الجزيرة فهي ضيقة للغاية وذكرتني بأزقة مدينتي الموصل التاريخية في (المشاهدة والشيخ فتحي والميدان)ولكن الفرق بين الاثنين ،أن الجزيرة احتفظت بأصالتها وحضارتها بالرغم من هجرة أبنائها لها. أما الموصل فغزتهم العولمة وهدموا هذه الحضارة العريقة واستبدلوها بالحداثة. ناسهااليوم،ء ذكروني ببساطة الإنسان الكوردي أيام زمان قبل أن يغزو الدولار كوردستان. كل وطن أزوره أرى فيه بصمات مدينتي الموصل عليها وقرى كازاخستان وبساطة الإنسان الكوردي وأماكن أخرى.ولكن اليوم ، وأنا في سوساك أشعر أنني في أجواء حرة بعيدة عن المدينة وتلوث البيئة.في رحلاتي أقابل أناساً يعشقون الكورد كثيرا وتاريخ أجدادي وان لم تتح الفرصة لهم من قبل لمعرفة هذا التاريخ .هنا يأتي دوري الأساسي لمد جسر المحبة والمعلومات ، و أبصر الدور الرئيسي في أدب الرحلات لأربط كوردستان بالعالم.
*قبل ثلاثين عاما التقيت وجها لوجه ب المعشوقة فينا فكانت أسمهان حاضرة وأنا أتجول في "شون برون"
فهل ترانا أعطينا للمكان حقه ؟
وهل يا ترى في النص الأدبي المعاصر نداء خفيا للسلام كي يرى أحفادنا ما نشاهده نحن بعيوننا؟
-قبل ثلاثين عاماً أيضا أعطى الأديب العراقي والفنان العراقي المكان حقه أكثر بكثير مما نعطيه نحن الآن. حين نقرأ للجواهري والرصافي ، و حين يغني الفنان ممتدحاُ نخل السماوة، ونقرأ للكوردي حين يتغنى بدهوك وكركوك والسليمانية فنحن للأسف لا نرى هذا الاندفاع ولا هذه الروح بالتغني بالمكان سوى في الانتخابات. صار المكان جزءًا من العملية الانتخابية في حلقة العولمة، وتحت ظل التأثيرات النفسية والإرهاصات الفكرية التي يعاني منها الأديب والفنان المعاصر في الوطن. لهذا نرى الأديب أو الفنان العراقي المغترب يبحث عن الأماكن البديلة لملء ذاكرة إبداعه وفكره.ربما كان هناك من يتغنى بشناشيل البصرة لو بقيت هذه الشناشيل لغاية يومنا أو نخل السماوة مازال مثمراُ. ولم يغير الفنان كلماته من نخل البصرة إلى كبر بي العمر.للأسف تغير المكان ومعه تغير الإنسان. ففي رحلتي الأخيرة للموصل عام 2003 لم يبق في الموصل من يذكرها لا كمكان ولا ك .... فلم تبق سوى قلعة باشطابيا ومنارة الحدباء وسور الموصل فقد رحلت خاناتها من دون رجعة.
لا يكون السلام نداءً خفياً بل صرخة قوية. لهذا على النص الأدبي أن يكون جريئاً في كل دوافعه ومتطلباته وأن يستمد الأديب المعاصر قوته من حبه لوطنه، وأن لا يكون قلمه مأجورا.حين يكون النص بهذه الروح القوية وهذا الأديب بهذه الروح، لا يعود النص الأدبي نداء خفياً للسلام بل يكون رسالة سلام وتاريخا نظيفا نورثه للأجيال القادمة. حين نمنح نصوصنا حرية الحركة في عالم فوضوي ومن دون خوف وهلع ونستقي من ينابيع الوطن وكوردستان في أعماقنا، حينها لا نخشى أحدا و تكون للنص الأدبي مصداقية لدى الأجيال القديمة،ونكون قد أدينا رسالتنا كأدباء بصدق من دون كتاب شكر من مسؤول.
*ما كتبت أخيرا وأنت تعايش المكان كإلهام شعري؟
-كتبت هذه القصيدة في جنوب المغرب وأنا اجلس على شاطئ المحيط الأطلسي:
شوق
(الى آفيفان ... توأم الروح)
شوق يراقص
شفاه المحيط الأطلسي
أداعب جدائلك
ضفائرك يا آفيفان
بعشق وحنين غربتي
وأمشطها،
بأهداب ذكرياتي
وأنامل أيامي النازفة
وهي تتبعثر في محطّات الغربة الكئيبة
لا صخور تتحطم الأمواج
العاتية عليها
حتى تستفيق أنشودةُ الطفولة المريرة
وتلويحةُ وداعٍ أخيرة!
شكر لهذا اللقاء الذي بداناه عند ضفاف ينابيع كوردستان قبل عقد من الزمان واليوم نتابعه افتراضيا مرة أخرى على صفحات الانترنت وليبارك الرحمن كل من شارك في كشف هذا الإبداع المسمى الانترنت وسلاما إلى حين