مرح البقاعي: الإنسان أولا ثم الأرض
السبت 10 تشرين الأوّل / أكتوبر 2009, 19:56
كورداونلاين
مرح البقاعي سيدة من النخب العربية التي غادرت وطنها سوريا، وتابعت مشروعها في تحرير الإنسان ـ أولا
مرح البقاعي: الإنسان أولا ثم الأرض
حوار ناجي يونس
مرح البقاعي سيدة من النخب العربية التي غادرت وطنها سوريا، وتابعت مشروعها في تحرير الإنسان ـ أولا ـ في الشرق الأوسط ، وذلك من خلال العمق الإنساني والثقافي من جهة، والتلاقح الحضاري بين الشرق والغرب الذي تَشكّل في شخصيتها بعد إقامتها في واشنطن، من جهة أخرى.
وكان همّ الإنسان الذي تحمله البقاعي والدفاع عن حريته وكرامته أحد الأسباب التي دفعتها إلى الابتعاد القسريّ عن وطنها سوريا؛ وشكّلت المسافة التي توزعت عليها البقاعي بين واشنطن ودمشق حافزا للبحث والمقارنة ومن ثم المقاربة وبناء الجسور بين الثقافتين العربية / الإسلامية، وبين الحضارة الغربية، من خلال نشاطها المتميز في المؤسسات الأميركية التي اختصت بدراسة إشكاليات الشرق الأوسط السياسية والثقافية والاجتماعية.
عملت مرح البقاعي، لسنوات عدة، في التدريس والبحث الجامعي بجامعة ميريلاند، إضافة إلى عملها كأستاذة لمادة الإسلام المعاصر في جامعة جورج تاون بالعاصمة واشنطن، وتعمل اليوم مستشارة إعلامية في مشروع رابطة سيدات الأعمال العرب التابع لوزارة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وفي مؤسسة فايتل فويسز الدولية بمنصب كبيرة المستشارين الإعلاميين، كما أسست معهد الوارف للبحوث في واشنطن الذي يهتم بقضايا الشرق الأوسط ومد جسوار الحوار بين الشعوب.
وكانت منظمة كامبس واتش الأميركية قد اختارت مرح البقاعي، مؤخرا، ضمن قائمة أكثر أساتذة مادة الشرق الأوسط اعتدالا في الجامعات الأميركية ، كما اختيرت البقاعي بين أبرز الشخصيات الفاعلة في الشأن العام في واشنطن في الكتاب الموسوعي "الأفضل في واشنطن دي سي BEST OF DC" لتكون بين أبرز الشخصيات العامة في العاصمة الأميركية.
في حوارها مع موقع ناو ليبانون Now Lebanon ، أثناء زيارتها للبنان، تقول البقاعي في معرض دفاعها عن حرية المرأة إن "المرأة ضد نفسها، فهي التي تُحارب وتُحاسب على تحررها وعلى ما تبذله من محاولات لتحقيق هذا الهدف وهو أمر خطير للغاية".
وحول رؤيتها أن "المرآة هي ضد المرأة" تفسر البقاعي ذلك بالقول "لن يجدي نفعاً اعتماد النهج الأميركي لإحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويجب أن تؤسس ديمقراطيات محليّة تبنى على إحداثيات اجتماعية وثقافية تخص المكان بعينه. وكنت قد أشرت إلى ذلك مرارا قبيل حرب العراق، ومن خلال حوارات تلفزيونية مطولة مع أميركيين مشتغلين بشؤون الشرق الأوسط من دبلوماسيين وباحثين ونشطاء".
وقبل تحرير المرأة في المنطقة، بحسب تعبير البقاعي، "يجب تحرير فكرة المواطن الفرد في الدرجة الأولى في ما يشمل الرجل و المرأة في آن، ويؤدي إلى العمل على التأسيس لدولة المواطنة؛ إذ أن مفهوم الفرد غير واضح فهو يذوب في مجموعات وطوائف واصطفافات .. وهنا يغيّب مشاركة الفرد المبتكر والمبدع".
وتشدد البقاعي على أن "قضايا المرأة تتميّع في هذه المعمعة، التي تضاف إليها الردّات الدينية في المنطقة"، حيث أن "النص الإسلامي يختلف جداً عن القراءات المحدثة له في الوقت الحاضر حيث يمكن القول أننا نشهد اجتهادات من قبل أشخاص " هشّين معرفياً! وهذه الاجتهادات المتسرّعة والمستهترة، هي في حقيقة الأمر أقرب إلى الجهل العلمي والديني، إذ لا يقدم أي عالم دين مستنير على اجتهادات مماثلة".
إن حالة التردّي العام بتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستقطاب الأموال وحصرها بأيدي رجال السياسية ومحيطهم، بحسب ما ترى البقاعي، "يتناقضان تماماً مع المفاهيم المترسّخة في الدول التي تحترم حقوق الإنسان وتعلي شأن سيادة القانون".
فالمجتمع المدني، وفقا للبقاعي، "شهد تغييبا في المنطقة، منذ الستينات، وبشكل منظّم. والمقصود هنا رعاة المجتمع المدني من النخب الثقافية التي تم تهجيرها من بلادها بطريقة مبيّتة، فانتشرت في أصقاع الأرض، وساهمت في بلدان الاختيار في مشاريع التنمية كافة، بينما عجزت عن ذلك في أوطانها الأولى! وهذه النخب هي التي تفعّل المجتمع المدني في أوطانها ولو من خارجها من خلال من يؤسسون للديمقراطيات بشروط محلية، غير مستوردة، الأمر الذي يطلق مشروع تحرير الإنسان وإحقاق المواطنة، في دول يحكمها القانون في المنطقة، وبما يشمل الرجل والمرأة في آن".
وتلفت البقاعي إلى "وجود استغلال للمجتمع المدني بطريقة نفعية وتجارية وشللية، حيث انتشرت الجمعيات المدنية كالفطر في بعض الأحيان، وبشكل أفقي مسطّح لا عمودي مؤسِّس، حصد القائمون عليها الإعانات المالية لتنفيذ مشاريع تصب في هذه الخانة، بينما كانت أموال طائلة تجيّر لخدمة أهداف ومآرب خاصة مغايرة تماماً للهدف الأصلي للعمل المدني الذي يفترض فيه أنه شفاف وتطوعي وغير ربحي". فيما تنوّه البقاعي إلى أن "المجتمع المدني الحقيقي هو الذي تؤسس النخب لإطلاقه سواء داخل أوطانها أو في دول الانتشار".
ورداً على سؤال عن إشكالية حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، تقول البقاعي "لحقوق الإنسان خصوصية في الدول التي عانت من الحروب وفي الطليعة دول الطوق التي شهدت ولا تزال مواجهات الصراع العربي الإسرائيلي والتي فيها البؤر الأمنية الساخنة".
وتتوقف البقاعي عند حالة "اللاحرب واللاسلم السائدة"، فتذكر "منذ العام 1974 في الجولان، على سبيل المثال لا الحصر، دفع المواطن السوري ثمن هذه الحالة المتأرجحة والضبابية من أمنه واستقراره ومن مستوى حياته ومعاش أطفاله"، في حين أن "السلطات حكمت بالنار والحديد في عسف قانون الطوارئ المتّصل" وكان لهذه الحالة "إفرازات التهابية تجلّت في مجموعات من قوى الأمر الواقع Co–Status، من تنظيمات حزبية وطائفية وأصولية وبؤر أمنية".
وترى البقاعي أن "الفساد يفرز ما هو مضاد له وأن الثاني أسوأ من الأول وهو ما ترك الآثار السلبية على حقوق الانسان وحياته، بينما استقرت الأنظمة والتنظيمات التي أفرزتها على حساب الناس؛ فالسوريون، مثلا، يدافعون عن الجولان طيلة أكثر من ثلاثة عقود في حين لم تطلق رصاصة واحدة على الاحتلال".
كما ترى مرح البقاعي "الاتفاقيات (المعلنة والسرية!) بين سوريا وإسرائيل من أكثر الاتفاقيات الامنية التزاماً في العالم بلا منازع مما عزز النظام السوري وحصره بالأسرة الحاكمة، الأمر الذي أدى ألى أن تدفع أجيال عدة ثمن هذه الاتفاقيات"، وهو ليس بالامر الغريب والنافر إذ تعيش المنطقة بأسرها "حالات مماثلة"، حيث احتفل العديد من الزعماء العرب بنجاح "موضة الوراثة الجمهورية!".
وحسب تقدير البقاعي، أدت إشكاليات السلطة في المنطقة إلى "تغييب الحقوق الخاصة بالأفراد مقابل الدفع باتجاه حالة (الإيهام بـ) الحرب"، ومن الأمثلة على ذلك أن "أكبر نسبة من الموازنة تعطى للدفاع الأمر الذي أتى على حساب المواطن وحقوقه في المشاركة في العوائد الوطنية".
"وفي منطقة من العالم تقع في القلب من الخارطة الجيوسياسية الدولية، منطقة تنتقل ذبذبات حراكها بسرعة الضوء"، بحسب مرح، "لتؤثر في مجرى الأحداث العالمية، سلبا وإيجابا.. منطقة تجمع بين أبنائها لغة واحدة ـ واللغة هي من أقوى الروابط القومية في العالم، إن لم تكن الرابط الأوحد.. منطقة يشكّل جيل الشباب فيها ما يقارب 60% من تعداد شعوبها.. منطقة دفعت من استقرارها وحياة أبنائها ومستواهم المعاشيّ أثمانا باهظة في أجواء ضبابية من حالة "اللاحرب واللاسلم"! في هذه المنطقة الأعلى سخونة في العالم، ما أحوجنا إلى الدفع بثقافة "السلام"، وترسيخ مقوماتها وأسبابها .. السلام القائم على احترام حريات الأفراد وتمكين حقوق الإنسان وتفعيل العدالة الاجتماعية والسياسية".
ويفيد درس التاريخ، كما تقول مرح، أن "أعتى حركات المقاومة في العالم، وأذكر منها الشين فين أو الجيش الجمهوري الأيرلندي، ألقت جانبا سلاحها الذي حملته لعقود من عمر المقاومة فور دخولها في العملية السياسية لنيل حقوقها المشروعة التي حملت السلاح وقاتلت من أجلها، حين وجّه جيري آدمز رئيس الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي في العام 2005 رسالة إلى وحدات الجيش الجمهوري الأيرلندي يدعوها إلى إلقاء السلاح ويطلب من المتطوعين المساعدة في تطوير برامج ديمقراطية وسياسية خالصة من خلال العمل السلمي حصرا".
إن "إستراتيجية مواجهة الاحتلال ومقاومة وجوده يمكن أن تأخذ عدة أشكال بدءاً من المفاوضات السياسية وانتهاء بالمواجهة المسلحة"، كما ترى مرح البقاعي مروراً بالفعاليات المدنية، وهذا يستدعي "توحيداً بين الفصائل المقاومة أو تنسيقاً بينها كحد أدنى بدلا من أن تتواجه فصائل التحرير وتضعف بعضها البعض"، فالفصائل التي تتفاوض سياسياً "سيتحسن موقعها التفاوضي عندما تستند على قوة مسلحة على أرض الواقع حتى لو كانت هذه القوة من فصيل آخر في المقاومة".
إن التجربة الأيرلندية "ألهمت كثيراً من الحركات المقاومة للاحتلال في قدرتها على التنسيق والفصل بين الجناحين السياسي والعسكري"، بحسب مرح.
وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فإن حركتي فتح وحماس مناط بهما بالدرجة الأولى أن "تعملا بتكامل"، كما ترى مرح، أو على الأقل بـ "تنسيق أو على حد أدنى بعدم مواجهة فيما بينهما وذلك أضعف الإيمان".
وتدعو مرح إلى أن "نعترف بشجاعة (سافرة) أن أهل غزة اليوم هم ضحية انفصاليي الداخل من آل البيت الواحد قبل أن يكونوا محطّ حقد متطرفي الكاهانا من الجار/العدو"، حيث أن أهل غزة هم "من يدفعون غاليا ثمن التجاذبات والإلتواءات السياسية للأنظمة العربية العنينة، من جانب، وشراسة الآلة السياسية الاسرائيلية وطغيان نهج الهدم في بنيتها السيكولوجية على منطق العيش المشترك المصالحة أو حتى التهدئة، من جانب آخر".
وتشدد البقاعي بالقول "أهل غزة أولا وغزة تأتي ثانيا، نعم، الإنسان أولا ثم الأرض، فمهما كان التراب غاليا، تبقى الروح البشرية هي ظل الله على ثراه"، متسائلة "هل يرضى الله أن نجازف بظله، ونطفئ صورته على أرضه، باسم نصرة دينه؟".
أما نزعات الانفصال والعزل التي مارستها التيارات الراديكالية إثر الانقلاب على المسار السياسي الفلسطيني الشرعي، بحسب مرح، فـ "ليست إلا تفريغا لجوهر حركة التحرر الفلسطينية، واختطافا لإرادة الشعب الفلسطيني في إقامة دولة واحدة موحَّدة على أرضه.. دولة اعترف فيها الأعداء قبل الأصدقاء، وهي نزعات لا تعدو أن تكون أكثر من محاولة انتحارية لفتح بوابة جحيم دانتي الذي تاه في ظلمات الغابة لأن الطريق الملائم قد اختفى، على حد تعبير هذا الشاعر الإيطالي الذي كان في طليعة من جاهروا بالخروج على الكنيسة وضرورة الفصل بين الدين والسياسة".
وتضرب البقاعي مثلا على إرادة التحرر المتأصلة بقولها "كانت سناء محيدلي أول من قام بعملية مقاومة في الجنوب اللبناني وهي مسيحية وتنتمي إلى الحزب السوري القومي، وبالتالي يجب أن يُرجع تقدير المقاومة والمواجهة إلى الشعب اللبناني بأسره، ودونما احتكار لهذا المعنى أو استثناء منه؛ الشعب الذي دافع بكل الوسائل المتاحة له والمتوفرة بين يديه؛ وهذا (النازع الوطني المقاوم) أكبر من أن يحشر في حدود طائفة أو مذهب أو حزب أو فئة".
وقبل أن تختم البقاعي حديثها مع ناو ليبانون، تنوه إلى أن كل أفكارها في ميادين أبحاثها ومقالاتها "غالباً ما تنبثق من الحالة الشعرية؛ فالشعر حالة مكثفة جداً من الإرادات والرغبات والمعارف والعاطفة وهذا كلّه يجمع في طياته السياسة والمعرفة والجمال الإبداعي على حد سواء"، فيما تعود إلى طفولتها الذاكرة حين كانت تستعيد أكسجين االفرح ما أن تجتاز "الحدود السورية باتجاه لبنان"، لافتة إلى أن "جينات اللغة لديها تمثّلت شعرا مواكبا لانتقالها بين البلدين : سوريا ولبنان، حيث تنتمي دماؤها إليهما معا، في آن".