السبت 21 كانون الأوّل / ديسمبر 2024, 13:55
ياسمينة الشام تخترق غيوم الاسفلت




تكبير الحروف : 12 Punto 14 Punto 16 Punto 18 Punto
ياسمينة الشام تخترق غيوم الاسفلت
الجمعة 15 أيّار / مايو 2009, 13:55
كورداونلاين
الشاعرة ـ منذ البداية ـ تشعرنا بأن لا ضرورة على الإطلاق لأن يكون الشعر شعرا، أي مطابقاً لذاته، حتى تتحقق الشعرية. فالشعرية ـ عكس ذلك ـ تتحقق عندما يتحقق الاختلاف.

مرح البقاعي تخترق غيوم الإسفلت

كتب عبد الرحيم الوالي

خاص الوارف ـ أدب وفن

قبل ما ينيف عن سنتين، في إحدى ضواحي الدار البيضاء، جلست إلى الشاعرة مرح البقاعي وأمامنا يمتد المحيط. كانت الشمس تغرب وكنت أشعر أن حالة غريبة بدأت تنتاب الشاعرة التي انسابت تماما مع مشهد الغروب.

لم أصارح قط مرح ـ رغم أنها أقرب و أعز صديقة إلى عقلي كما إلى وجداني ـ بما رأيته على وجهها في تلك اللحظة، أو بما أحسست أنني رأيته: كان ثمة غروب في أفق المحيط، و كان ثمة إشراق غريب في وجه مرح. حاولت أن أثير انتباهها فالتفتت إلي قائلة و ذلك الألق الغريب يلمع على محياها: "أسكت... الشمس تغرب".

لم يكن الأمر مجرد استمتاع بلحظة الغروب تلك كما قد يحصل لكل الناس، أو لبعضهم على الأقل. و قد خامرني ساعتها إحساس بأن الألق الذي كان على وجه الشاعرة لم يكن إلا ألق سؤال: ما معنى أن تكون الشمس شمساً؟ و ما معنى أن يكون الغروب غروبا؟ ألا يمكن أن تكتسب الأشياء هوية أخرى و كينونة أخرى من خلال أفق مغاير لهذا الأفق الذي لا يؤمن إلا بالغروب غروباً، و بالشروق شروقا؟

و اليوم، بعد ما يقارب سنتين، جاءت قصائد مرح البقاعي الأخيرة لتقول إن إحساسي كان صادقا تماماً. و دون إطناب أدعو القارئ إلى قراءة هذه القصيدة:

سيخبرُكَ  زجاجُ الشِعر المكسور

كم  واهنٌ

عشبُ الكلام  

 

كم قاصرٌ

عقلُ  قلبي ـ

الذي ينطّ الآن

عابرا غيمة الإسفلت

 ليحكّ بزغبِه

 جِلدَ خدّك

بالتأكيد فالقراءة المتسرعة، و السطحية، لقصيدة قصيرة كهذه تفضي إلى حالة من اللامعنى. لكن التوقف عندها، و إمعان النظرفي بنيانها، يفضي إلى حالة مختلفة تماماً. إنها قصيدة تعلن منذ البداية انتماءها إلى شعر ليس كالشعر. إنه "زجاج الشعر المكسور". فالأمر هنا لا يتعلق بالشعر و إنما ب"زجاج الشعر"، و هو زجاج مكسور فوق ذلك. و "زجاج الشعر المكسور" هذا هو الذي "سيخبرك" ـ أيها القارئ! ـ بأن "عشب الكلام" "واهن"، و بأن "عقل قلبي" "قاصر".

إن الشاعرة ـ منذ البداية ـ تشعرنا بأن لا ضرورة على الإطلاق لأن يكون الشعر شعرا، أي مطابقاً لذاته، حتى تتحقق الشعرية. فالشعرية ـ عكس ذلك ـ تتحقق عندما يتحقق الاختلاف. و لا اختلاف ما دمنا نؤمن بالهوية من حيث هي تطابق. و حتى إذا ما كان هناك إمكان لتحقق هذه الهوية المتطابقة فهو إمكان يقع، حتماً، خارج الشعر. أما في الشعر فنحن أمام "كائن" من زجاج، أي كائن سريع الانكسار و قابل لإعادة التشكيل من جديد، أي وفق رؤية جديدة لكينونته.

فالشعر يتحقق، في عرف النقد، من مادة سيميائية هي اللغة. لكن اللغة جماعية بينما ينطلق الشعر من الفرد و يعود إليه. و لذلك أبت الشاعرة إلا أن تجعله من "عشب كلام" من حيث الكلام فردي عكس اللغة، و أكثر من ذلك من عشب كلام "واهن"، أي مطواع، و قابل لإعادة التشكيل وفق رؤية الذات الشاعرة، بما هي ذات فردية، لا وفق أي قانون أو ناموس قد يزعم أنه جماعي، أو كوني حتى. فالكوني هو عينه الفردي، أي الكلام، القادر وحده على التعبير عن كينونة الفرد. والجسد هو أول بعد من أبعاد الفرد، أو هو ـ بتعبير نيتشه ـ العقل الأكبر الذي ليس العقل الأصغر إلا أداة له. و حين يصير العقل أداة للجسد فهو يصبح أداة للقلب باعتباره حاملا لرغبات الجسد. و هكذا نقرأ في قصيدة "مدار":

أشدّ على مدار جسده

حتى لا أشرد في المجرّات

أنا العالقة بين نسغه والنسغ

 كم من الشجر سأقطع

قبل أن أرفع سقفاً

 لبيت الشهوة؟!

فالتشبث بالجسد هنا هو وحده الذي يقي من حالة "الشرود في المجرات"، و السؤال سؤال عن عدد الأشجار التي يتحتم قطعها كي تتمكن الذات الشاعرة من "رفع سقف لبيت الشهوة". و لا شجر يمكن أن يقطع ليصنع من حطامه سقف بيت الشهوة إلا ذاك الشجر الذي ينتصب سياجا يحاصر الجسد، و يمنع الرغبة، و يخمد الشهوة تحت يافطة التقاليد أو الدين أو حتى تحت يافطة قالب شعري نمطي. فلا قيمة للفرد ما لم ينظر إليه باعتباره جسدا نابضا بالحياة قبل أي يكون شيئا آخر. و كل حياد عن الجسد هو حياد عن العقل الأكبر لصالح "عقل" آخر لا يمكن أن يكون إلا عقلا أصغر. أما العقل الأكبر فهو "القلب" من حيث هو بؤرة شعرية تتجمع فيها كل التعابير الممكنة عن الجسد و الرغبة و الشهوة. و لذلك فهذا "العقل" ـ عقل القلب ـ بدوره عقل ليس كالعقل مثلما أن الشعر ليس كالشعر. فهو عقل "ينط" و يعبر "غيمة الإسفلت".

في هذا الأفق الشعري الجديد تكتسب الأشياء و الذات و العالم هوية مختلفة و ينقلب الأسفل إلى أعلى و الأعلى إلى أسفل. فالغيمة ـ التي يفترض أن تكون في الأعلى ـ تتهاوى إلى الإسفلت. لكنها تظل غيمة مع ذلك. غير أنها غيمة سوداء، قاتمة، سميكة، و خشنة. وهي التي ينط عقل القلب ليعبرها بحثا عن أفق شعري مغاير، مختلف، يقتضي أن يتكسر "زجاج الشعر" ليقوم على أنقاضه شعر مغاير.

335.

مواضيع جديدة في موقعنا الجديد اضغط هنا


ارشيف
ارشيف

صحافة وإعلام و آراء

كتاب الموقع
عبدالغني ع يحيى
العصر الطيني في العراق.
بنكي حاجو
الكذبة الكبرى
ب. ر. المزوري
النقطة
زاكروس عثمان
أحزاب خارج التغطية
إبراهيم اليوسف
النص الفيسبوكي 2.
عبد عبد المجيد
الفسيفساء السورية
أفين إبراهيم
رضاب الفراش
وزنة حامد
قلق الذات