أدونيس: لماذا أثارت زيارتي إلى كردستان احتجاجاً لدى بعض المثقفين؟
الخميس 07 أيّار / مايو 2009, 14:14
كورداونلاين
لا أقصد من «الانقراض» انقراض العرب بوصفهم أعداداً بشرية، وإنما بوصفهم طاقة خلاّقة تسير في موكب الإنسانية الخلاّقة،
لماذا أثارت زيارتي إلى إقليم كردستان العراق (14 - 24 نيسان - أبريل الماضي) احتجاجاً لدى بعض المثقفين العرب؟
أطرح هذا السؤال لسببين:
الأول هو أنّ «إقليم كردستان العراق» جزء من العراق، وجزء من الجغرافيا التاريخية والسياسية العربية. فما الخطأ إذاً في زيارته؟
الثاني هو أنّ ما قلته في هذا الإقليم عن الثقافة العربية وعن «انقراض الحضارة العربية» لم أقله للمرة الأولى، فقد قلته قبل هذه الزيارة بزمن طويل في القاهرة ودمشق وبيروت وغيرها، حيث أتاحت المناسبة. فما الذي نبّه بعض المثقفين إليه، اليوم وأثار غضبهم، وكان حريّاً بهم أن يتنبّهوا، قبل ذلك، إذا كانوا مهتمين بهذه الحضارة ومصيرها وبرأيي فيها؟
ولم أقله بوصفه محاضرة أو موضوعاً مستقلاً. وإنما أشرت إليه في سياقٍ تصحيحيّ في إحدى الندوات، ردّاً على سؤال يشير إلى أنني وصفت الحضارة العربية بـ «إنها جثّة نتنة». وهكذا حُرّفت عبارة «انقراض الحضارة العربية» إلى عبارة «الحضارة العربية جثة نتنة» التي لم ترد على لساني قطعيّاً.
وكان عليّ أن أصحح هذا التحريف الذي يقوم به، ويا للأسف، بعض الكتّاب. والثقافة هنا تلعب دور الأمن السياسيّ، ويلعب المثقف دور الشرطيّ والمُخبِر ورجل الأمن. وهو دورٌ شائعٌ في الثقافة العربية، وفي العلاقات ما بين المثقّفين؛ ولا يخفى أمره ماضياً وحاضراً، خصوصاً، على الذين يُعنَون بقضايا الثقافة العربية ويتابعونها.
ـ 2 ـ
فعلاً يبدو أنّ ثمّة ثقافة عربية لم تنقرض، هي التي جرفت بعضهم إلى الردّ بحماسة «سياسيّة قومية» شبه عمياء على ما قلته، من دون أية مناقشة تقوم على فهم دقيق لما أقصد. ووجه العماوة في ذلك يتمثّل في أنّ مسألة «الانقراض» لم تناقَش في ذاتها، ولم تدحض بأدلّة عقلية. بل حُوِّلت إلى مناسبة للغمز واللمز والتجريح. هكذا أُهمِلَت المشكلة وشُوِّهت. كانت حضارية، فأصبحت شخصيّة.
أترفّع عن الوقوف عند ما قاله بعضهم، ولا سيما الكلام المبتذَل المكرر على «نوبل» وتقديم «الترشيح» ، و «التملّق» و «العرائض» وما شابه... فهذه أمور تدعو فعلاً إلى السخرية إن لم أقل التقزز. ولا تدخل في أية حال في نقاش ثقافيّ حقيقيّ، ولا يمكن أي شخص يملك شيئاً من الصدق أو المعرفة العامة بالأصول أو بتقاليد الجوائز العالمية أن يقول مثل هذا الكلام. لكنّ هؤلاء يفترضون في القارئ الجهل، وهو لحسن الحظ أكثر معرفةً منهم.
آخر دليل على ذلك، هذا الخلط الذي كتبه حازم العظمة («الأخبار»، 30 - 4 - 2009) والذي لا يستحق اي اهتمام؛ ثم ما كتبه فواز الطرابلسي، («السفير»، 1 - 5 - 2009) مختزلاً مفهوم الحضارة العربية الراهنة إلى ما كتبه بعض الأفراد من الأدباء العرب الذين تمترس وراءهم، في لائحة تهمل، مع ذلك، بعضاً من أهمّ الأشخاص الذين يجدر به في دفاعه أن يستحضر أسماءهم. ومعظم الذين ذكرهم الأستاذ الطرابلسي أعتز بصداقتهم وإنتاجهم. لكنّ حياة الحضارات وحيويتها ونموّها وفاعليتها لا تقاس بأفراد مهما نبغوا، لا سيما أن الأدباء المذكورين ليسوا مدينين في نبوغهم للمؤسسات والبنى في مجتمعاتهم، بل إنّ عديداً منهم واجهوا إنكار المؤسسات وعانوا من مؤسسات القمع أو ثاروا عليها، وكانوا ضحايا قصور الدول العربية وانهزامها، على كثرتها واتساع رقعتها. وثمّة عدد من الشعراء والفنانين العرب عاش حياة مأسوية أو ارتحل كسبيل وحيد للنجاة من القمع.
الأساسيّ هو المجتمع ومؤسساته. فماذا فعل هذا المجتمع على امتداد القرنين الأخيرين، وماذا يفعل؟ تلك هي المسألة.
لقد عبّرتُ عن رأي. وكان بإمكان الأستاذ فواز الطرابلسي أن يدحضه بإيراد أدلة على وجود ما يناقضه. غير أنه حوّل المسألة العامّة إلى مسألة شخصيّة، كما أشرت، متّخذاً فرصة للغمز واللمز، والتجريح والاتهام. وفي هذا دليل آخر على الهرب من المشكلة. فبدلاً من أن يُعمل عقله في مناقشة الفكرة، أعمل أشياء أخرى، وتحدّث عن أمور لا تمتّ إلى الفكرة بأية صلة.
إنّ غياب العقل النقدي في معالجة قضية كبرى كهذه القضية دليل آخر على الانقراض الأدبيّ، على الأقلّ. ومن السهل عليّ كثيراً أن أسلك مسلكه فأحوّل مادّة ردّه إلى مناسبة لتجريحه هو أيضاً. غير أنني أترفّع عن هذا الأسلوب. إنه نوع آخر من البطش يفوق البطش السلطوي، لأنه موجّه إلى صميم الشخص الآخر لا إلى كلامه ومواقفه. بل قد يكون، أحياناً، أشدّ مرارةً. ذلك أن الذين يستخدمونه يهربون من المشكلة الحقيقية، وباسم الدفاع عن الحرية لا يمارسون إلاّ الطغيان، وباسم احترام الثقافة لا يفعلون إلا جرجرتها في الوحل.
يردّ عليّ الأستاذ الطرابلسي محتجّاً بوجود «فورة ثقافية مقاومة ومعارضة» وينتقد عدم رؤيتي «العدد المتّسع من المثقفين الذين يقبعون في السجون...» لأنّ لهم رأياً تمسكوا بالتعبير عنه. وهو يرى أنّ في هذا الواقع ذاته سبباً للتفاؤل ودليلاً على نهضة قائمة فعلاً. غير أنّ السجون لم تتوقف عن الاتساع منذ عقود طويلة. وليس ما يشير إلى أنها ستتوقف عن هذا الاتّساع لابتلاع المزيد من شجعان الرأي.
ولا يدعوني هذا الواقع إلا إلى التشاؤم أو على الأقل إلى القنوط.
غير صحيح، كما يقول الأستاذ الطرابلسي، أن أي ثقافة غير الثقافة العربية تحتوي هي كذلك، ثقافة سلطوية وثقافة في خدمة السلطات. هذا غير صحيح إلا في الأنظمة التوتاليتارية، الدينية منها والإلحادية. لكن يجب أن نعترف مع ذلك، أنه حتى في الأنظمة الشيوعية ذات السجون الواسعة، حصلت إنجازات اجتماعية وعلمية وصناعية ضخمة، وإن هربت المواهب الفكرية والأدبية.
وإذا كان الأستاذ الطرابلسي يرى أنّ هذا الوعي وهذا الاحتجاج لدى المثقفين العرب عينُ النهضة المطلوبة، فلا بدّ من أن أذكّره بأنّ المثقفين العرب يصرخون ويحللون ويحتجون ويبدعون - على اختلاف المذاهب والاتجاهات - منذ مئة وخمسين عاماً، وأنّ أكثر من ربع بليون عربي مصابون بالإحباط وهم يرون شعباً في المخيمات أو تحت أعجب أنواع الحصار، وأرضاً تؤكل كلّ يوم، وفرص العدل أو بعض العدل تتراجع، فضلاً عما يعيشونه في ظل أنظمة القمع.
أمّا الأستاذ الآخر، حازم العظمة، الذي يتّخذ من زيارتي لكردستان العراق حجة ومناسبة للتهجّم على المتنبي فأتركه يعيد قراءة ما كتبه المتنبي نفسه في الرد على بعض كتاب الشعر.
يمكـــن الشخــص أن ينقد رأي شخص آخر يخالفه. أن يفككه ويحلله كما يشاء، مُظهِراً بطلانه. لكن أن يتّخذ من هذا الخلاف ذريعةً للتجريح والتشهير الشخصيين، فذلك استقالة من الفكر، ومن البعد الإنسانيّ، من حيث أنه امتهانٌ لكرامة الإنسان. ومن يصل إلى هذا الحدّ، في فكره وسلوكه، كيف يمكن أن يُسمّى مفكّراً، وكيف يُقنع الآخرين بأنه يحترم نفسَه وإنسانيته؟
ـ 3 ـ
بعد مئتي سنة على بدء النهضة العربية يريدني المعترضون أن أكتفي بكلام قاله رائد المسرح العربي مارون نقاش منذ عام 1848 في خطبته الشهيرة: «نحن الأصول، وأولئك الفروع، وهم السواقي ونحن الينبوع». والمقصود بـ «أولئك» بعض بلدان أوروبا المتمدنة. وظل كثيرون يرددون هذا الكلام أو ما يشبهه، إذ يطربهم أن يكتشفوا ما كان عليه الوضع العربي في الماضي، وأن يعرفوا أنّ الغرب أخذ أركاناً من نهضته عن العرب والمسلمين.
ما قاله مارون نقاش كان استشرافاً وتحفيزاً ونشراً للأمل. كان مشروعاً في زمانه. أما تكرار هذا، اليوم، فأقل ما يمكن أن يوصف به أنه تمويه، كي لا أقول إنه تضليل.
مع الأسف، هذه الحقيقة، إضافة إلى وجود الكتّاب الذين يتخذهم الأستاذ الطرابلسي حجة عليّ، يزيدني حزناً. إذ ما بال أوطان لها ما لها من أمجاد وفيها ما فيها من نوابغ، تعجز عن إقامة حكم ديموقراطي واحد؟ تعجز عن الاعتراف بحق الناس في التعبير وفي الاعتراض من دون سوقهم إلى السجن. وما بالها تعجز عن إقامة انتخابات إلا بالإكراه والتخويف، أو بالتذابح؟ وما بالها لا تزال تستورد العلوم والبحوث، وتستورد المنتجات، من الإبرة إلى الأجهزة الطبية والعلمية والصناعية وحتى الترفيهية؟
وما بال أهل العلم والاختصاص عندنا ينبغون في بلدان الخارج، يبحثون ويخترعون، لكنهم حين يعودون يصبحون عندنا موظفين أو أصحاب مهن؟ ولماذا لم يقم مركز حقيقي واحد، أي مركز فاعل، للبحوث في مختلف الميادين؟
إذا شاء الأستاذ الطرابلسي أن يتجاهل هذا كله فهو حرّ. أما أنا فإنه يجثم على صدري. ولن أتّهمه التهمة التقليدية الجاهزة بالعمالة إلى أي نظام، ولن أترجم كل ما يقوله وما يفعله إلى مسعى سحري خرافيّ لنيل هذه الجائزة أو غيرها، هذه المصلحة أو غيرها.
ـ 4 ـ
ليــس التخلّـــف قـــدَراً. والنهــوض، إذا كان معجـــزة، فإنّ هذه المعجزة قد حققتها شعوب لم تكن في ماضيها أعظم من العرب. وحققتها شعوب كانت متألقة ثم انحطّت، وبعد انحطاط طويل عادت إلى النهوض لاجتماع ظروف ودوافع وتحديات، وأفادت في ذلك من تواصلها مع الحضارات السابقة وبينها العربية.
وليعذرني الغاضبون من كلامي. لا أقدر أن أتجاهل كون النهضة العربية في القرن التاسع عشر قد بدأت قبل النهضة اليابانية بنصف قرن. ويعرف الجميع أن نهضة اليابان تحركت في عهد الأمبراطور الشاب موتسوهيتو بدءاً من 1868. فأين صارت اليابان الفقيرة بالموارد الطبيعية، منذ بداية القرن العشرين، وأين بقينا رغم كرم الجغرافيا العربية وغزارة مواردها الطبيعية؟
بل إن النهضة العربية في القرن التاسع عشر بدأت قبل النهضة الصينية الحديثة بقرن كامل. وإذا تذرعنا بالاستعمار، فالصين أيضاً كانت واقعة تحت احتلالات متعددة بينها الاحتلال الياباني. كما عانت من نفوذ غربي، إنكليزي بخاصّة، ومن تحكّم طاغ. فأين صارت الصين اليوم وأين بقينا؟ ولا أتحدث عن كوريا وماليزيا وأندونيسيا وسنغافورة، نعم سنغافورة: كيف كانت، وكيف صارت.
ـ 5 ـ
تذكيراً، ومن أجل مزيد من التوضيح، أقصد من كلامي على «الانقراض» الأمور الآتية:
أولاً، منذ ما سُمّي بـ «عصر النهضة» إلى اليوم، يزداد العرب تراجعاً في كل الميادين - نسبياً وقياساً إلى تقدّم غيرهم - في التربية والتعليم، في النموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، في حقوق الإنسان وفي الحريّات الديموقراطية، في السلطة وفي السياسة. وماذا أقول عن موضوع صيانة البيئة؟
ثانياً، يزداد العرب تبعية للقوى الكبرى، الاقتصادية والسياسية، بحيث إنهم تحوّلوا إلى مستهلكين، وإلى قوة شرائية استهلاكية، على المستوى الكوني لا مثيل لها، إلى درجة أنهم تحوّلوا إلى «ثروة سوقيّة» هائلة للقوى المنتجة في العالم.
ثالثاً - لم يعملوا مؤسّسيّاً، على ابتكار ما يحتاجون إليه في حياتهم وأدوات تطويرها، لا في ميدان الصناعة والتقنيات العالية ولا المتوسطة، ولا في ميدان البحث والمعرفة والعلوم الدقيقة. ولا نرى حتى جامعة نموذجية واحدة، أو معهداً نموذجيّاً واحداً للبحوث في أي مجال.
رابعاً - ازداد العرب استبداداً. وازدادت خاصّتهم غنى وعامّتهم فقراً. وتواصلت نسبة الأميّة - مقارنة بالمعدلات العالمية - خصوصاً بين النساء؛ وازدادوا تفكّكاً وتعصّباً على الصعيد الاجتماعيّ والدينيّ والسياسيّ. وازدادوا بطالة، وازدادوا على الصعيد النفسي ضياعاً ويأساً وبحثاً عن المخارج، في الهجرة، وفي الجماعات المتطرّفة خصوصاً. وتبعاً لذلك ازدادوا عودة إلى ما يزيد في التدهور والتخلف: أخذوا يتداوون بالداء.
خامساً - ليس للعرب حضور سياسيّ فعّال على الخريطة السياسية الكونية، بوصفهم عرباً؛ وإنما ينحصر حضورهم في كونهم سوقاً، وثروة نفطية. لهم بتعبير آخر، حضور بوصفهم أداة أو أدوات، وليس بوصفهم طاقة خلاّقة تشارك في بناء العالم. بل ليست لهم فعالية سياسية تنقذ الحدّ الأدنى الذي قررته هيأة الأمم من أرض فلسطين، منذ ستين سنة، ليكون دولة فلسطينية، فضلاً عن عودة اللاجئين.
سادساً - واضح لكل من يريد أن يرى حقّاً، أنني لا أقصد من «الانقراض» انقراض العرب بوصفهم أعداداً بشرية، وإنما بوصفهم طاقة خلاّقة تسير في موكب الإنسانية الخلاّقة، وبوصفهم نظاماً في بناء الإنسان، وفي إرساء قيم التقدم والانفتاح، والمشاركة في بناء العالم، وفي خلق حضارة إنسانية، أكثر غنىً وأكثر عدالةً وأكثر إيغالاً في السيطرة على الكون، وفي كشف أسراره. أفلا يصحّ بهذه الدلالة التي لا يجوز أن تخفى على أي قارئ حقيقيّ أن نقول عن أنفسنا بأننا حضارة تنقرض؟
أستطرد قليلاً في هذا الصدد، وأتساءل: كيف لثقافة لم تنتج، بعد مرور ألفي سنة على نشوئها أية قراءة جديدة وخلاّقة لها، ألا تكون منقرضة؟
فأين نجد قراءة لتراثنا العربي بوصفه ذاتاً حضارية متميّزة – أي بوصف هذه الذات اندراجاً في الطبيعة (فترة ما قبل الإسلام)،
أو بوصفها اندراجاً في ما بعد الطبيعة (الوحدانية، النبوة، الوحي)..
أو بوصفها معرفة (العقل، الحدس، الحقيقة)
أو بوصفها مخيّلة (الفنون، الآداب)
أو بوصفها رغبة (الجسد، الحبّ، الجمال...)
أو بوصفها سياسة (الجماعة، الأمة، المدينة، النظام، القانون...)
أو بوصفها علاقة (الآخر، الأرض، التاريخ، الكون..)
فإذا كنّا نفتقر حتى الآن إلى مثل هذه القراءة، أي إلى كتابة تاريخ جديد لثقافتنا العربية برؤية جديدة، وأفق جديد، يُخرج هذه الثقافة العربية من أسر الانقسامات الدينية والمذهبية والسياسية، ومن الأطر الكتابية التقليدية، ويضع الحياة العربية والإبداع العربي في سياق الثقافة الكونية، بوصفها رؤية خاصة متميّزة للإنسان والكون، فكيف لا نكون مفتقرين إلى نتاج أدبي وفنّي في مستوى الحضارة الكونية.
ـ 6 ـ
أسوأ ما في هذه المناقشات، وهو ما يهيمن على معظم الكتابات في هذا الإطار، الخلط بين الشخصي والعامّ، بين الفنّي والإيديولوجي، بين الفكري والسياسيّ، بين الحقيقة والاستيهام. والأكثر سوءاً هو الجرأة على المماهاة بين الحقيقة وبين ما يحبه الفرد أو يكرهه، في ذوقه وعلاقاته. وهنا تكمن الطامّة الكبرى في الثقافة السائدة، حتى ليُخيّل للإنسان أنّ هذه الثقافة ساحة حرب مادّيّة، تخرج من اللغة ومن الواقع، وتصبح مجرّد ظاهرة سيكولوجيّة ـ عنفية: عالم خلافات وكراهيات وأحقاد وضغائن واتهامات ومصالح وتصفيات حسابية.
لماذا يندر أن يقوم سجال، بين التجمعات أو الأفراد، على أساس الأفكار، بحيث تقول الفئة أو يقول الفرد رأيه في الآخر، من دون تجريح أو تشويه أو افتراء. فمن لا يحترم كرامة الإنسان الذي ينتقده، والفئة أو الجماعة التي ينتقدها، لا يحترم هو نفسه كرامته الخاصّة وكرامة محازبيه. مرّةً ثانية آمل أن يخلص المثقفون الذين يعارضون آرائي مما أصبح مكروراً ممجوجاً ومبتَذَلاً. «نوبل»، «الوهّابية»، «التأمرك»، «شتم العرب»، «التطبيع» إلخ...، لا من أجلي، بل من أجلهم، ومن أجل القيم التي يدافعون عنها، ولكي لا يُقال إنّ ثقافتهم تخبئ وراء كل كلمة سيفاً، ولكي يبقى الحوار الثقافي بنّاءً وعالياً.
الغاية في وسائلها. والوسائل الرديئة لا يمكن أن تخدم غاية نبيلة.
ـ 7 ـ
أودّ أخيراً أن أختتم بهذه التساؤلات: إذا كان مبدأ النضال ضدّ السياسة الأميركية وصل عند بعضهم إلى هذه الدرجة العالية من «السحر» و «الانسحار»، فلماذا لا يطبّقونه إلاّ على «إقليم كردستان العراق»؟
لماذا لا يطبّقونه على أقاليم عربية كثيرة؟ ولماذا لا يطبقونه على «المتروبول» الأميركيّ ذاته - في العلاقات معه، سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً؟
هكذا أخلص إلى التساؤل: ألا يكشف السؤالان اللذان طرحتهما في بداية هذه المقالة عن رواسب «عنصرية» وسياسيّة - إيديولوجية من طبيعة دينية - مذهبية لدى هؤلاء المحتجين على زيارتي لكردستان العراق؟ وهي رواسب تذكّرنا بثقافة يبدو أنها لم تنقرض حقّاً، كما يبدو أنني أخطأت في التعميم، وأنها لا تزال حيّة وفعّالة؟
إنها الثقافة القائمة على منطق التضادّ الآلي، وهو «سحريّ» خرافيّ:
الآلة الأولى: إن مدحت، مثلاً، المقاومة الوطنية في لبنان، فأنت حكماً من «حزب الله».
الآلة الثانية: المقابلة: إن زرتَ كردستان العراق فأنت حكماً، أميركيّ. (وماذا لو زرت مصر، أو ليبيا، أو الأردن... إلخ؟)
مرّةً ثانية، حقّاً أيها المحتجّون، لم تنقرض «حضارتكم»، وهي لا تزال تجرّ أذيالها الباذخة.
عن جريدة "الحياة" اللندنية