شيروان فرات يحلل الشخصية الكردية
الخميس 05 آذار / مارس 2009, 13:33
كورداونلاين
فكرة النقاء والصفاء القائمة على رفض الآخر فكرياً وإقصائه انطولوجيا لمتسهم في بناء الشخصية الكوردية
الأنا الكوردية التائهة
شيروان فرات
بداية أنوه إلى أنني أرجح الرأي القائل أن الكورد كانتماء قومي ، نتاج عمليات الدمج والانصهار والتفاعل بين مجموعة الاثنيات والشعوب كانت تنتمي إلى مشارب مختلفة وإن غلب عليها الطابع الآري ، تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية وهجرات التي تعرضت لها المنطقة من حين إلى آخر وفي النهاية شكلت عمليات الوصل والفصل والدمج الشخصية الكوردية المتمايزة عن الشعوب المجاورة ببعدها الحضاري والثقافي والنفسي واللغوي وحتى بمنظوماتها الأخلاقية . هذه العملية عملية بلورة الشخصية الكوردية بهويتها القومية الأنطلولوجية ، امتدت لمئات من السنين ، ولا أقصد هنا نجاز وتمامية هذه الشخصية فهي ماتزال تنساب مع أمواج الصيرورة وتخضع لقوانينها .
الإيمان بتعددية المنشأ أنعكس على الجانب الميتافيزيقي والميثولوجي في العقلية الثيولوجية الكوردية . فالديانات التي أفرزتها البيئة الكوردية امتازت بتعدد مراكز القوى وتوزيع صلاحيات في سياق بناء منظومة متكاملة تفسر الكينونة الكوردية في إطارها الخاص .
إذاً فكرة النقاء والصفاء القائمة على رفض الآخر فكرياً وإقصائه انطولوجيا لم تسهم في بناء الشخصية الكوردية ، لأن الأنا الكوردية تتميز بتخصيصها مساحات لابأس بها للآخر والعلاقة معه علاقة تشاركية وهذه الميزة ليست سمة ماهوية لكنها كانت ضرورة معاشيه . لأن التعددية في كوردستان سمة طبيعية قبل أن تكون اجتماعية وسياسية ، فجغرافية كوردستان تمتاز بتنوعها الهائل ما بين الجبل والسهل والنهر والبحر. وإذا أخذنا بمنهج المادية التاريخية في قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي للشعوب فإننا سنجد أن هذه الوضعية الجغرافية والمناخية ساهمت في تحديد ملامح المجتمع الكوردي عامة وفي بلورة سيكولوجية خاصة بالإنسان الكوردي خاصةً. تمتاز بالمرونة و بالقدرة على التكيف وقبول الآخر والابتعاد عن القسرية والإلغاء في العلاقات الاجتماعية . من النافل القول أن هذه السمات ليست نتاج مورثات بيولوجية اختص بها الكورد ، لكنها حصيلة التحديات والتجارب المتعددة والعلاقات البينية بين البيئات الكوردية المتنوعة جغرافياً ومناخياً واجتماعياً وما ترتب عليه من المنافع . إذاً ووفقاً لهوبز نقول أن سمات الشخصية الكوردية كانت نتيجة للعقد المبرم والمتفق عليها تاريخياً بين مكوناتها الأساسية بعد سلسلة طويلة من الحروب والمعارك والتي انتهت بالتعاقد السياسي والعسكري , لكنه سرعان ما تسرب إلى البنية السيكولوجية للشخصية الكوردستانية وساهم في تحديد سماتها الأساسية المتوافقة مع مطلب التعايش الجماعيً . إن وصف الشخصية الكوردية بالمرونة وقابلية التكيف لا يعني غياب العنف والقسوة ، كملمح أخر لهذه الشخصية . الآخر المختلف نسبياً كما أشرنا سابقاً فرض قسرياً وبحكم الضرورة عليه ، لذلك الأنا الكوردية والتي هي نتاج تفاعل مكونات المجتمع الكوردي عبر التاريخ تختزن في لاشعورها كماً من العنف تم كبته بموجب التعاقد السياسي الذي عقد بالاتفاق المضمر غير المعلن، هذا العنف يسطو على ساحة الشعور أحياناً بانفعالية فيها قدر من المبالغة لا تتناسب مع مستوى الحدث . لكن مارد العنف في الشخصية الكوردية غيب في دهاليز اللاشعور في ظل مراقبة الأنا الأعلى الوصي على التعاقد التاريخي الذي عقد بين مكونات الأنا الكوردية . ولكن هذا المارد استجلب واستدعي مراراً بتحريض من القوى الخارجية مع الاجتياحات الكبرى التي تعرضت لها كوردستان, و مع الفشل في إعادة صياغة الأنا الكوردية في سياقاته الزمنية المتغيرة باستمرار، الأنا الكوردية أصيبت بالعقم وأصبحت عاجزة عن تجديد ذاتها وفق آلياتها الذاتية لمواكبة الآخر في صيرورته. فطغى على السطح صراع بين مكونات الأنا الكوردية, و اتسعت مساحة حضور الآخر في الأنا ، والعلاقة معه " الأخر " لم تعد مبنية على قراءة الذات له واستيعاب التمايزات الطارئة في بنيته, وإعادة إنتاجها في بنيته كوردية , مما يساهم في ديمومة الأنا الكوردية ومواكبتها للآخر المختلف والمتمايز، إنما أصبحت مبنية على أساس استلاب الذات الكوردية من قبل الآخر واستهداف البنى الاستقطابية الميثولوجية والثيولوجية التي وحدت الذات بروابط قوية وبلورت أناه, فشرذمتها وأعادتها إلى ما قبل تكون الأنا الكوردية الأنطلولوجية . وبالتالي كثير من الصراعات والحروب التي حصلت في كوردستان تعود إلى هذه الحقبة في سياق رحلة الذات لبلورة الأنا الكوردية . أي أن الفاعل الكوردي مهما كان موقعه في تلك الأحداث كان يتحرك بأجندة خارجية .ولم يكن يوماً التخندق وراء الانتماء الكوردي، أو السعي وراء اختزال كوردستان في هوية دينية أو مذهبية أو إيديولوجية محددة ومؤطرة كوردستانياً هي التي وقفت وراء المجازر والحروب التي درات رحاها في قلب كوردستان
لا أسعى هنا وراء صك البراءة للكورد من الأحداث التاريخية ، لأن التاريخ يفهم ويفسر في سياقه ولكنه لا يبرر, بقدر ما أحاول تلمس الأطراف والقوى الحقيقية التي تحكمت بدفة التاريخ وساقته وفق بوصلتها في زمن سبات الأنا الكوردية .
مع اجتياح الآخر لبنية الشخصية الكوردية وتحديده لأدوار مكونات هذه الشخصية ، كانت بداية الانشطار الكبير لهذه الشخصية التي أجهضت وهي في مراحلها الجنينية وترتب عليه بداية رحلة اغتراب الذات الكوردية في الآخر بعيداً عن أي هاجس معرفي، أو امتلاكها القدرة على العودة وتحديد أناه، أي كانت رحلة قسرية ولا سيما بعد أن حدد الآخر مسالك ودروب رحلة الذات المغتربة، الآخر هنا ليس الآخر الإنساني، بل إن رحلة الذات الكوردية اقتصرت على الآخر الإسلامي والعربي والفارسي والتركي هذه المرحلة دامت حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت الأنا الكوردية تنزع عن نفسها الشرنقة التي أحيطت بها لقرون طويلة. و انعكس هذا النزوع و حنين الذات إلى الأنا في غربته أولاً على الأدب الكوردي ولا سيما في قصة مم وزين حيث يتجلى النجوع والعشق بأسمى صوره ، مما يشير إلى عمق المعاناة وقوة التمرد على التشويه الذي طال الأنا .
في مرحلة ما قبل يقظة الأنا , الفاعل الكوردي افتقد الفاعلية وأصبح بموقع المفعول والمنقاد وأزيح من موقع الفاعل إلى موقع أداة مقاييسها التصنيفية تقع خارج حدود جغرافية كوردستان وتنتمي إلى منظومات أخلاقية وحضارية غريبة عنه ، ونجم عن ذلك نتيجتين:
أولاً - تغيب وتحجيم العقل الكوردي الذي هو نتاج التراكمات الحضارية والفكرية الكوردستانية على مستوى القيادة و التخطيط والتفكير.
وثانياً - بروز هذا العقل في مرحلة التنفيذ . وهنا انحصر الجهد الكوردي في البروز ولو في حدود الأداة التي تقيم من قبل الآخرين وفي سياق مشاريعهم وطموحاتهم . وبهذا المعنى تفهم ظاهرة صلاح الدين وابن كثير وابن خلكان والفارابي وخالد بكداش والشيخ البوطي وغيرهم ممن ساروا في أجندات خارجية بسبب عجزهم عن بلورة مركزية ذاتية كوردية قادرة على توظيف العواصف الفكرية والدينية والسياسية في اعادة إنتاجها في سياقاتها الجديدة ، كما حصل في إيران وتركيا
أن الذات الكوردية المفتقدة لكينونتها الأنطلولوجية والسائرة إلى الذوبان في الآخر, وتشيئها وتلفظها من قبل هذا الآخر, من أبرز المحددات التي ساهمت في تـحديد الأنا الكوردية في العصور الإسلامية إلى بدايات نشوء الدولة الحديثة في المنطقة. لكن مع منتصف القرن التاسع عشر ومع نسائم فلسفة الأنوار التي هبت على كوردستان التفتت الذات الكوردية المغتربة قسرياً في الآخر إلى أناه وارتدت خلفاً ، مما جعلها تصطدم بالآخر مجدداً تجلى الاصطدام في تمرد الذات الكوردية واستنهاض الأنا في الفعل السياسي والعسكري وبرز ذلك بوضوح في حركات وثورات البدرخانيين ، وأيضاً في ثورة عبيدالله النهري
الآخر لم يكتفي برفض عودة الذات لبلورة أناه بعد هذه الرحلة العبثية في ثنايا الآخر , إنما أيضاً رفض انصهار الذات الكوردية في بوتقته ، لأن هذا الانصهار سيقود حتماً إلى اعادة صياغة أناه ضمن معطيات جديدة وهذا مرفوض من قبله .
من هنا الشخصية الكوردستانية واقعياً عانت من الانفصام ، الجانب الأول فيها هي نتاج الوعي بانتمائها الحضاري والثقافي والجانب الثاني يعاني من الاستلاب والاستنزاف من قبل الآخر
وما ذكرته ليس مقدمة للتهرب من مواجهة حقائق التاريخ فالكورد يتحملون مسئولية كبرى بسبب استنزاف الوعي بالانتماء الكوردي لصالح انتماءات أخرى وتشويه الشخصية الكوردية وانسلاخها عن بيئتها الحضارية وتبيئها في البيئات لم تكن قادرة على استيعاب وإحاطة كامل أبعاد هذه الشخصية . وبعيداً عن اللغة الدبلوماسية التي يتشدق بها الكورد في قراءة التاريخ ،هذه البيئات فرضت عليهم بقوة السيف وعلى بحر من الدماء . وسيأتي اليوم الذي سيقرأ فيه الكورد تاريخهم بمنطق العقل ومنهجية بعيدةً عن الأجندات السياسية التي تحاول لي عنق التاريخ إلى حد الكسر وحولت محتلي كوردستان إلى فاتحين وجلاديها إلى أولياء
وهنا الفاعل الكوردي سواءً أكان كوردياً مسلماً ( سنياً أو شيعياً ) أو إيزدياً أو يهودياً أو مسيحياً ملزم بالانفتاح على تاريخه بعقلية متحررة من سطوة التاريخ ودهاليزه المظلمة والإقرار بأن الشخصية الكوردية نتاج سياقاتها التاريخية وأن هناك جوانب مظلمة في هذه الشخصية قد طغت على السطح وارتكبت ما يندى لها الجبين