من سيلان إلى دمشق مروراً بكوردستان: رحلة دبلوماسي أسباني
الأحد 18 كانون الثّاني / يناير 2009, 14:02
كورداونلاين
مؤلف هذا الكتاب هو الدبلوماسي، والكاتب الاسباني أدولفو ريفادينيرا الذي
ولد عام 1841 بمدينة بالبارايسو في تشيلي
فقد كان والده أحد أبرز الناشرين في القرن التاسع عشر، وكان غادر من بلاده اسبانيا إلى أمريكا اللاتينية لينجز مغامرة نشر في ميدان الصحافة، فولد الابن هناك. تلقى أدولفو دراسته في عدد من البلدان الأوربية، وتعلم خمس لغات حية إضافة إلى اللاتينية، وفيما بعد تعلم العربية والفارسية. بدأ ريفادينيرا مسيرته الدبلوماسية بالتوجه إلى شرقي المتوسط، إذ شغل مناصب في بيروت والقدس وسيلان ودمشق وبلاد فارس وغيرها من المناطق، وتوفي في مدريد عام 1882 في الأربعين من العمر. جمع ريفادينيرا بين تمثيل مصالح بلاده، وبين تأليف كتب أدب الرحلات، كما هو الحال بالنسبة لكتاب من "سيلان إلى دمشق" الذي صدر للمرة الأولى سنة 1871م، وتتالت طبعاته بعدة لغات، إلى أن قام المترجم صالح علماني بترجمته إلى اللغة العربية، وصدر، مؤخراً، عن دار المدى (دمشق ـ 2009) ضمن سلسلة "البحث عن الشرق".
ولطالما شكّل هذا الشرق الوجهة المفضلة للباحثين عن المغامرة. مكتشفون وباحثون ومبشرون وعسكريون وتجار وسياح وأدباء تطلعوا نحو الشرق تدفعهم التصورات المسبقة، والأقوال المتضاربة. وما قيل عنه يلهب الخيال، ويؤجج الرغبة في السفر: هي متحف للأعراق والإثنيات، والقبائل واللغات ومسرح يضج بالتقاليد والعادات والطقوس الغريبة. أرض بكر، وسهول عذراء، وجبال خرافية. فقر مدقع، ورفاهية "طارئة" صنعها المستعمر الأوربي منذ القرن التاسع عشر وحتى مطالع القرن العشرين. إنها بلاد المفارقات والتناقضات، وهي تصلح، حقا، للمغامرة، ولم يكن ريفادينيرا سوى واحد من أولئك المغامرين الذين دفعهم الفضول، وحب الاستطلاع نحو ارتياد أماكن مجهولة، ومحاولة التعرف على عادات وطباع الشعوب.
تبدأ رحلة الدبلوماسي الاسباني، بحسب ما يرويه في كتابه هذا، من مدينة بومباي الهندية، وتقف في مدينة كراتشي، ثم تمضي الرحلة نحو الخليج العربي، أو خليج فارس حيث تقف السفينة البخارية في موانئ عدة مثل مسقط، وبندر عباس، وبوشهر، وصولا إلى البصرة حيث استرعى انتباه المؤلف "كثرة الدور المهدمة، ومظهر السكان العليل والمكفهر"، ويشير المؤلف إلى "قلة نظافة المدينة لعدم وجود نظام للصرف الصحي"، ويلاحظ بان "تجارة مدينة البصرة تتمثل في التمر والعبيد، إذ يقول "رأيت على أشجار النخيل الكثيرة الكثير من قطوف التمر الناضجة واليابسة"، لافتا إلى أن "تجارة الرقيق مازالت متواصلة، هنا، بشكل مكشوف".
من البصرة تنطلق الرحلة نحو بغداد، ورغم عدم ذكر الباحث لمصطلح (الأهوار) التي تطلق على مساحات اليابسة الواسعة المغطاة بمياه دجلة والفرات قبل مصبهما في الخليج، إلا أن الوصف الذي يذكره ريفادينيرا يشير إلى انه يقصد الأهوار، فهو يقول "بدأنا نقطع منتصف شط العرب الهادئ والغزير الذي يمتد كمرآة تحت أقدامنا"، ثم يضيف "إلى يمين ويسار الضفتين، وعند مستوى سطح الماء بالذات، تمتد سهول لمئات الفراسخ المربعة، لا تتخللها أصغر أكمة ولا أدنى تموّج، فالأرض في كل الجهات تمتد مستوية، وتشكل سهلا بالغ الاستواء، حتى ليمكن تسميته بحق بحر من اليابسة، ويمكن للخصوبة فيه أن تفوق الوصف".
وبعدما يمضي المؤلف عدة أيام في بغداد يذهب في قافلة برية، باتجاه كوردستان، إذ يتوقف، أولا، في مدينة كركوك التي تقع، كما يقول، "في واد خصيب بديع. الخضرة تغطي الأرض أينما اتجهت، والوديان تنسجم مع الجبال، والماء يجري كأنه خيوط فضة"، ويقول المؤلف إلى أن قلعة كركوك الشامخة تشير إلى قِدَم المدينة التي يقدر المؤلف عدد سكانها بنحو عشرين ألفا، وهم من "الكورد والترك والكلدانيين"، دون أن يذكر العرب، وهو أمر لافت بالنظر الى السجال الدائر، الآن، حول هوية هذه المدينة.
ومن كركوك يذهب المؤلف إلى اربيل، ومنها إلى الموصل حيث يتحدث، بإسهاب، عمن بسميهم بـ "عبدة الشيطان"، وهو يقصد أتباع الطائفة الأزيدية الذين ينتشرون في نواحي موصل، وجبل سنجار وسواها من مناطق كوردستان، وحين يستفسر من الأهالي عن سبب عبادة الشيطان يأتيه الجواب: "إننا واثقون من رحمة الله، ولكننا لسنا كذلك بشأن رحمة الشيطان، ومن العدل، إذا، توسلها منذ هذه الحياة"، ولا ينسى الديبلوماسي، بالطبع، أن يقوم بزيارة لآثار نينوى القريبة من الموصل، والتي تتمتع بشهرة عالمية.
من الموصل تمضي الرحلة نحو زاخو، وهي "قرية من ألفي نسمة، يعيش فيها عبرانيون وأكراد، مستقرة بلطف بين ذراعي نهر يمضي ليصب في دجلة، وفيها مراع وفيرة في السهول التي تمتد لأربعة فراسخ، عند سفوح سلسلة جبال جودي..ويقطن تلك المناطق، حتى بحيرة وان، أكراد مستقلون عن الحكومة، إنْ لم يكن حقوقيا، فعمليا على الأقل، وزاخو نفسها لا تشكل جزءا من ولاية بغداد، وإنما تتبع ديار بكر"، ويصف الباحث الكورد بأنهم "رجال بقامات عملاقة، وتقاطيع متناسقة، ومظهر على شيء من الشراسة". وتمضي الرحلة لتقف في نصيبين، وماردين وصولا إلى ديار بكر التي يصفها ريفادينيرا بغنائية عذبة، إذ يقول "تظهر للعيان في الأرض المتماوجة بساتين وجنائن، ومروج عشب وفيرة، تسحب من أرض مكورة وعميقة رحيق حياة متألقة. برودة صباح بلا غيوم، وجو انقشعت منه أبخرته، يحولان السماء الزرقاء إلى قماشة مشدودة أشبه بلوحة بالغة التشويق والتنوع، وتسكب في فيض من السعادة والفضول و الأمل". ومن دياربكر تتوجه رحلة المؤلف نحو حلب، ومنها إلى دمشق حيث تنتهي الرحلة.
يكتب ريفادينيرا بأسلوب واضح وبسيط لا تعقيد فيه، وهو ينأى بنفسه عن أساليب الرحالة الرومانسيين من أمثال شاتوبريان، ولورد بايرون، ولامارتين، وغوتيه...وسواهم ممن جعلوا من شرق البحر المتوسط مكانا خياليا؛ حصيلة أحلام يقظتهم أكثر مما هو حصيلة الواقع. وهو ما يشير إليه المؤلف، إذ يقول "كل ما نعرفه، نحن الأسبان، عن البلدان البعيدة، علينا قراءته في كتب ألفها أجانب، والواقع أن مؤلفاتهم تلك لا تتميز بدقتها، بل تعكس بصورة مبالغ فيها شخصية مؤلفيها الانفعالية"، ويضيف: "هدفي هو وصف ما رأيت"، وذلك تجسيدا للقول المأثور: "أفضل وصف يُروى هو ذاك الذي يجعل من الأذن عينا".
غريزة الكشف، والتقصي هي التي تدفع أدولفو ريفادينيرا إلى يسلك هذا الطريق الطويل بحثا عن الجديد. وهذا الفضول، المنزه عن أي غرض، هو الذي يتحكم في طريقة تعبيره، وأسلوب كتابته. هو يرى، الآن، ما لم يره الآخرون. يدون ما غفل عنه السياح، والرحالة الذين لم يجدوا في شرق المتوسط سوى "معرض غرائبي" لالتقاط صور تذكارية باهتة. كثيرون دونوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن هذه المنطقة، لكن هذه الكتابات اصطبغت بالصبغة "السياحية" أو "النفعية"، لكن ريفادينيرا نظر إلى المشهد من زاوية مختلفة، فهو لم يكتفِ بالمشاهدة، بل سعى، كذلك، إلى معرفة الحكايات المؤثرة؛ القابعة خلف المشاهد الجميلة، الآسرة في صمت الصحراء، وصخب الأنهار، وهدوء السهول، وشموخ الجبال.
ورغم أن المؤلف يؤكد بأنه دوّن مشاهداته فحسب، لكن كتابته تتلون بمواقفه، وبآرائه، وهو يصوغ قصصا، وحكايات إنسانية مؤثرة عن الحرمان، والعوز، والفاقة، دون إغفال لذكر الجوانب السلبية، والتنديد ببعض العادات السيئة التي تتقيد بها بعض الشعوب التي مر بها، ومع أن هذا الكتاب يندرج تحت إطار "أدب الرحلات"، لكنه يتجاوز هذا التصنيف ليكون، كذلك، كتابا في الجغرافية، والتاريخ، وعلم الاجتماع، إذ يصور الكاتب الجغرافيات التي مرت بها رحلته من مختلف الجوانب دون أن يدعي التوثيق أو التاريخ. هو يعتمد على حدسه، وحواسه، ويكتب بشكل عفوي، لذلك جاء الكتاب في قالب قصصي؛ مشوقّ بعيد عن الأرقام والتواريخ المملة، التي قد تعوق مسار رحلة جميلة صاغ تفاصيلها قلم مرهف.
PUKmedia ابراهيم حاج عبدي/ دمشق