جامعة برلين الحرة ـ شاهد حي على مخاض التحول الديمقراطي في ألمانيا
الجمعة 05 كانون الأوّل / ديسمبر 2008, 02:13
كورداونلاين
الجامعة حققت تطوراً كبيراً بعد خمس سنوات من تأسيسها، فقد كان يقصدها أشهر علماء ألمانيا من أجل التعرف على طلابها المتميزين.
لجامعة برلين الحرة، التي أحتفلت أمس بعقدها السادس، قصة وتاريخ مختلفان، فهي الجامعة الأولى التي أسسها وأدارها طلابها، علاوة على كونها قد وُلدت في خضم الحرب الباردة، لتكون شاهدا على مرحلة هامة من تاريخ ألمانيا الحديث.
احتفلت يوم أمس الخميس (4 كانون الأول/ ديسمبر 2008) جامعة برلين الحرة، أكبر جامعات العاصمة الألمانية الأربع، بمرور ستين عاماً على تأسيسها. ولا تكمن خصوصية هذه الجامعة في كونها أكملت العقد السادس من عمرها، فهناك جامعات في ألمانيا يصل عمرها إلى نحو ستمائة سنة، لكن لجامعة برلين الحرة قصة مختلفة وتاريخ متميز كما أن إسمها "الحرة" لم يأت من فراغ. فقد أرتبط أسم هذه الجامعة، المصنفة حالياً على لائحة أفضل الجامعات الألمانية أو مايعرف بـ"جامعات النخبة" ليس فقط بتاريخ برلين ، بل وبالصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي في مرحلة الحرب الباردة.
فقد جاءت فكرة إنشاء هذه الجامعة من قبل بعض الطلاب "الثوريين" كرد فعل على القمع، الذي كان يمارس في جامعة هومبولدت التي كانت تقع في الشطر الشرقي من العاصمة، الخاضع آنذاك للسيطرة السوفيتية. واعتماداً على مساعدة قوات الاحتلال الأمريكية، في الشطر الغربي من برلين، نشأت أولى جامعات ألمانيا المقامة على أسس ديمقراطية، كما أنها كانت أول جامعة التي يديرها الطلبة بأنفسهم.
الطالب رقم "واحد" ـ شاهد على لحظة الميلاد
شاءت الصدفة المحضة أن يكون كارول كوبيكي أول المسجلين للدراسة في جامعة برلين الحرة، وبالتالي فقد كان رقم تسجيله "1". عن تلك الصدفة واللحظة يستعيد كوبيكي، الذي يبلغ اليوم 82 عاماً، ذكرياته في مقابلة مع صحيفة "برلينر مورغنبوست" الألمانية قائلا: "كانت صدفة محضة، فقد طُُلب من المتقدمين للدراسة في الكلية الطبية، من الذين تبدأ أسمائهم بحرف A حتى K أن يتقدموا للتسجيل في اليوم الأول". ولم يكن آنذاك عدد كاف من العاملين في المرافق الإدارية في الجامعة، الأمر الذي تطلب من الطلاب القيام بمهام إدارية، وكان كوبيكي واحدا منهم. وعن هذا يضيف بالقول: "كنت أقوم بمهام تسجيل الطلبة، فأتيحت لي الفرصة أن أكون أول المُسجلين في الجامعة". ولم يكن كوبيكي أول المسجلين الجامعة فحسب من الطلبة الذين عملوا على تأسيسها بشكل كبير.
من معسكرات الأسر إلى مقاعد الدراسة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وعودته من معسكرات الأسر الروسية، بدأ كوبيكي بدراسة الطب 1946 في جامعة ليندن، التي سُميت فيما بعد بجامعة هومبولدت في شرق برلين. وبرفقة زميليه أوتو هيس ويؤاخيم شفارتس أصدر فيها مجلة "كولوكيوم" الطلابية. يتذكر كوبيكي تلك الأيام ويقول بإعجاب عن صديقه هيس: "كان هيس خطيباً يتمتع بكاريزما كبيرة، وعلمني ما تعني حرية الفكر". لكن حيز الحرية بدأ يتقلص تدريجياً في جامعة ليندن، فقد تنامى التأثير الأيدلوجي لحزب الوحدة الاشتراكي الألماني بشكر كبير. ما زال كوبيكي يتذكر الطلاب الذي اختفوا فجأة من دون أن يُعرف شيء عن مصيرهم.
وبعد ذلك بدأ هيس، الذي يعتبر المؤسس الأول للجامعة الحرة فيما بعد، بنشر مقالات أنتقد فيها الأجواء السائدة في الجامعة وطالب بتأسيس جامعة جديدة في ضاحية داليم، الأمر الذي تسبب في طرده من جامعة ليندن مع مجموعة من الطلبة من بينهم يؤاخيم شفارتس وأوتو شتولتس في نيسان/ أبريل 1948.
وعلى الرغم من ضرورة استعداده لأداء بعض الامتحانات، فقد أنشغل كوبيكي في البدء بمحاولات لإعادة أصدقائه إلى الجامعة.وفي هذه الأثناء انبثقت فكرة تأسيس الجامعة الحرة، كما يقول، حيث "تلقينا دعماً كبيراً من القوات الأمريكية وبعض الصحفيين وساسة برلين، كعمدة المدينة أيرنست رويترً".
العمل تحت ظروف الحصار
في العام الدراسي الأول، الذي بدأ الفصل الأول منه قبيل تأسيس الجامعة رسمياً، بلغ عدد الطلاب المسجلين في الجامعة 2140 طالباً، درسوا في ثلاثة تخصصات، وهي العلوم الطبيعية والفلسفة والكلية الطبية، إضافة إلى كلية القانون والعلوم الاقتصادية. أما عدد الأساتذة والمدرسيين والعاملين فيها فقد بلغ 218.
وكانت الظروف التي درس فيها الطلاب بائسة للغاية، بسبب الحصار، الذي ضربته القوات السوفيتية على الشطر الغربي من برلين في حزيران/ يونيو 1948. وفي تلك الفترة كانت الجامعة لا تزود بالكهرباء سوى ساعتين يومياً فقط، أما الطلاب فيجلسون على مقاعد خاصة بالأطفال ويكتبون بحوثهم على ضوء الشموع.
لكن الجامعة حققت تطوراً كبيراً بعد خمس سنوات من تأسيسها، فقد كان يقصدها أشهر علماء ألمانيا من أجل التعرف على طلابها المتميزين. أما مستقبل كوبيكي فقد أرتبط هو الآخر بالجامعة، إذ رأس قسم فسيولوجيا الأعصاب للفترة من 1974 حتى 1991. وحتى بعد تقاعده، فإنه يقضي وقته في تأليف سلسلة كتب التاريخ العلمي لجامعة برلين الحرة.
"ثورة الطلاب"- مخاوف من تراجع دولة القانون
مكتبة الجامعة وفي ستينيات القرن المنصرم بدأت تدب في ربوع الجامعة حركة احتجاجية طلابية، تمثلت أهدافها في البدء في المطالبة بأن يكون تمثيلهم أكبر في الهيئة الجامعية، كما اعترضوا على القيود المفروضة على قبول الطلبة، وطالبوا بالحصول على الحق في تحديد بعض المناهج الدراسية. لكن الأمر تطور فيما بعد لتنصب انتقادات المحتجين على تراجع المساحة الديمقراطية المتاحة في الجامعة ليتطور الأمر إلى التظاهر ضد حرب فيتنام وقانون الطوارئ، الذي كان مخططاً لتشريعه في ألمانيا. وزادت حدة هذه الاحتجاجات مع مقتل الطالب بينو أونيزورغ على يد أحد رجال الشرطة خلال الاحتجاجات على زيارة الشاه الإيراني إلى برلين في 2 حزيران/ يونيو 1967. شكلت تلك الحادثة انعطافة لاحتجاجات الطلاب، الذين لم يكونوا يتخيلوا أن يحدث هذا الأمر في ألمانيا مطلقاً، فقد كان الأمر بالنسبة لهم تراجع دولة القانون.
وما لبثت أن تهدأ حدة الاحتجاجات باستقالة شخصيات سياسية ورئيس الشرطة في برلين في أيلول/ سبتمبر 1967، حتى جاء مقتل القائد الطلابي رودي دوتشكه ليصب الزيت على النار من جديد. وفي ضوء هذا بدأ اتحاد الطلبة الألمان الاشتراكيين بنقاش حاد حول ممارسة العنف في الجامعة الحرة، وفي اضطرابات عيد الفصح عام 1968 خرجت مظاهرة اشترك فيها الكثير من الطلاب ضد استخدام أسلوب العنف في الاحتجاجات. وبعد أن استجابت إدارة الجامعة لمطالب المحتجين، وتوصل الطرفان إلى حل وسط أنهى فترة العنف والاحتجاجات الطويلة.
جائزة الحرية
واحتفالاً بعقدها السادس أقامت إدارة الجامعة معرضاً في مبنى هينري فورد بعنوان "المستقبل منذ بواكيره الأولى" يستعرض تاريخ الجامعة والمراحل والأزمات التي مرت بها. كما سيتم منح "جائزة الحرية للجامعة الحرة" لوزير الخارجية البولندي السابق فيدسلاف بارتوتسفسكي. أما اللجنة الطلابية العامة فقد أصدرت كتاباً بعنوان "ستون عاماً على جامعة برلين الحرة - تصورات معاكسة".
DW