يشكّل الحكم الذاتي المحلي الكردي أو نوع من "الفدرالية" خياراً معقولاً ومنطقياً إلى حدّ كبير- وبَنّاءً على الأرجح، ليس في العراق فحسب بل في سوريا أيضاً، وربما كذلك في تركيا في نهاية المطاف
يتمّ أحياناً وصف الأكراد، الذين يعيشون في أراضٍ
عابرة للحدود المعاصرة المنتشرة بين تركيا وإيران وسوريا والعراق، ويناهز عددهم 35
مليون نسمة، بأنهم الجماعة العرقية الأكبر في العالم من دون بلد خاص بها. وفي الحقيقة،
ربما يعود هذا الشرف المريب إلى السكان "التاميل" في الهند (وسري لانكا)،
وسكان المحافظات المختلفة في باكستان، وغيرهم الكثيرين في شبه القارة الهندية؛ ولكن
لِمَ الاعتبار. فحتماً تُعتبر تطلعات الأكراد لإسقاط الخطوط التي رسمتها اتفاقية
"سايكس بيكو" أو على الأقل إضعافها، والتي تعود إلى قرن من الزمن من أهم
المسائل العرقية الدولية المعاصرة.
ونظراً إلى أن عدد الأكراد هائل فعلاً، فإنهم
غالباً ما يتمسكون بشدّة بلغتهم وثقافتهم وهويتهم العرقية الخاصة المميزة بشكل عام،
وبتاريخهم الخاص المميز؛ وقد بقي العديد منهم متيقنين من أنهم محرومون من الاستقلال
الذي وعدتهم به نوعاً ما القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى قبل قرن
من الزمن. واليوم، يكمن المأزق الناتج الذي وقعوا فيه في صميم أحد أسوأ النزاعات في
المنطقة وأكثرها حدّةً، حيث أن إيجاد حلّ له بطريقة أو بأخرى يُعتبر بالضرورة عنصراً
أساسياً في أي خطة طويلة الأمد لإحلال السلام وإرساء الاستقرار في كامل "الجزء
الشمالي" من منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ولم يكن وعد الأكراد بالاستقلال عملياً جزءاً
من اتفاقية "سايكس بيكو" السرية، التي قَسّمت الأراضي التي تسكنها أغلبية
كردية بين بريطانيا وفرنسا في الوقت الذي لم يُعرض الاستقلال لأي منها. وعوضاً عن ذلك،
وفي إطار مساعي الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لـ "حق تقرير المصير" خلال
"مؤتمر فرساي للسلام" ومن ثم خلال "معاهدة سيفر" في عام 1920،
نال الأكراد تعهداً باحتمال الحصول على أمة سيادية. ولكن في غضون سنوات قليلة، تم سحق
ذلك التعهد قسراً.
لقد ثار الأكراد أولاً ضد حكومة مصطفى كمال أتاتورك
التركية الجديدة، الأمر الذي تسبّب في خسارتهم جزءاً كبيراً من أرضهم ونحو نصف عددهم
الإجمالي، وسرعان ما هُزموا. وفي غضون ذلك، ضمّ البريطانيون ولاية الموصل العثمانية
سابقاً والمناطق المجاورة لها، إلى جانب قسم
كبير من السكان الأكراد، في إطار الانتداب على العراق الذي منحتهم إياه "عصبة
الأمم". أما الفرنسيون، وبما يتماشى أيضاً مع اتفاق "سايكس بيكو"، فقد
تولّوا الانتداب على سوريا، على الطرف الجنوبي من كردستان التاريخية. بالإضافة إلى
ذلك، أبقت حكومة رضا شاه الجديدة وجيوشه في إيران المحافظات في أقصى الشمال الغربي
ذات الغالبية الكردية تحت سيرة طهران الأوتوقراطية بشكل حازم.
وبحلول الفترة التي أُبرمت خلالها "معاهدة
لوزان" عام 1923، والتي ثبّتت تقريباً حدود وطنية جديدة لهذه المناطق، انقطع الحديث
تماماً عن استقلال الأكراد؛ غير أنه منذ ذلك الحين - وخلال العقود القليلة الماضية
بشكل متزايد - أبقى العديد من الأكراد هذا الحلم حياً في أذهانهم. إلا أن قوى هذا التحرك
اتخذت أشكالاً مختلفة كلياً خلال أوقات مختلفة تماماً، في مختلف البلدان التي تم فيها
توزيع الأكراد.
وكما هو معروف إن الأكراد مُقسمين داخلياً، وليس
فقط بين جميع تلك الحدود الدولية الجديدة ولكن أيضاً في كل منها. فالقبائل والفصائل
والأحزاب والشخصيات واللهجات والإيديولوجيات والتحالفات الإقليمية المتنافسة، والانقسامات
الأخرى كلّفتهم جميعها ثمناً باهضاً. بالإضافة إلى ذلك، أصبح العديد من الأكراد مواطنين
موالين للحكومات المركزية الجديدة في البلدان المتواجدين فيها، في حين استأنف الآخرون
الكفاح من أجل الحكم الذاتي.
وفي إيران، في أعقاب الحرب العالمية الثانية،
تعاون بعضهم لفترة وجيزة مع الاتحاد السوفياتي من أجل تأسيس "جمهورية جيلان"
الكردية الجديدة ومقرها في مهاباد. وسرعان ما أحبطت طهران تلك الفرصة، بدعم قوي من
بريطانيا والولايات المتحدة. وفي تركيا، وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الدمج القسري
والهدوء النسبي، بدأ بعض الأكراد بحرب عصابات ضد أنقرة في جنوب شرق تركيا عام 1984،
تحت راية «حزب العمال الكردستاني». وتستمر هذه الانتفاضة العقيمة، بصورة متقطعة وغير
منتظمة، حتى يومنا هذا.
وفي العراق، [قامت حكومة رئيس الوزراء عبد الكريم
قاسم بحملة عسكرية على معاقل الزعيم الكردي مصطفى البارزاني في شمال البلاد عام
1961، في أعقاب فشل المناقشات حول منح الأكراد بعض مطالبهم القومية. واستمرت حكومات
الرؤساء عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر في اتباع هذا المسار، على
الرغم من توقيع اتفاقيتين - بين الأكراد والحكومة المركزية في بغداد في عامي 1964 و
1970 - تضمنتا منح الأكراد حقوقاً ثقافية والإسهام في الحكم وبعض الحقوق الأخرى]. وقد
ثار الأكراد ضد الحكومة المركزية بدءاً في السبعينيات ومرة أخرى في أعقاب "حرب
الخليج" عام 1991، بعد حملة الأنفال للإبادة الجماعية التي شنها صدام حسين ضدهم
في عام 1988. وتعرّضت مقاومتهم للخطر بسبب انقسامات داخلية بين المنافس الرئيسي «الحزب
الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، بلغت ذروتها في حرب أهلية مصغرة
بين الأشقاء خلال عام 1996. غير أنه تحت غطاء جوي أمريكي، نجح أكراد العراق حالياً
في الحصول على إقليم مستقر نسبياً يتمتع بحكم ذاتي، وهذا الوضع مستمر لفترة دامت ربع
قرن، على الرغم من العديد من التحديات الأمنية والاقتصادية الداخلية والخارجية.
ويفتخر «إقليم كردستان» الذي يتمتع بالحكم الذاتي،
والذي يبلغ عدد سكانه الأصليين ما يقرب من خمسة ملايين شخص - بالإضافة إلى مليوني لاجئ
تقريباً معظمهم من العرب والمشردين داخلياً - بـ «حكومة إقليم كردستان» الخاصة به،
مع رئيسها، وبرلمانها، وجيشها (البيشمركة) الخاص بها. لكن اقتصاده القائم على النفط
يواجه صعوبات، ومازال يعتمد على خطوط الأنابيب وغيرها من أشكال الدعم من جارتيه تركيا،
أو العراق، أو كليهما. وأكثر ما يلفت النظر، بعد مرور عقدين من العلاقات المتوترة جداً
والعدائية أحياناً، أن «حكومة إقليم كردستان» وتركيا أصبحتا في السنوات الخمس الماضية
من أقرب الأصدقاء، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وفي سوريا التي تضمّ أصغر تجمّع للأكراد، بالأرقام
المطلقة والنسبية على حد سواء، بقي نحو ثلاثة ملايين كردي متركزين في جيوب شمالية على
طول الحدود التركية وهادئين نسبياً حتى فترة ليست ببعيدة. وتمكّنوا من شنّ حملة وجيزة
من الاحتجاج والعصيان المدني بين عاميْ 2004 و2005، انتهت بعملية قمع قاسية قام بها
بشار الأسد. ومع ذلك، فبعد وقت قصير من بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، انسحبت
قوات الأسد إلى حد كبير من تلك المناطق الكردية، وتركت الأكراد مع نوع من الحكم الذاتي
الفعلي الذي ما زال قائماً حتى هذا اليوم.
وللمفارقة، منذ منتصف عام 2014، استفاد الأكراد
بوجه عام في كل من العراق وسوريا من ظهور عدو مشترك جديد، ألا وهو: تنظيم «الدولة الإسلامية»
(«داعش»). ففي آب/أغسطس 2014، كاد تنظيم «داعش» أن يجتاح مدينة أربيل عاصمة «إقليم
كردستان»، ولكن تم صده من قبل قوات "البيشمركة" - وبدعم من الولايات المتحدة
وإيران. ومنذ ذلك الحين، زوّدت الولايات المتحدة (ودول التحالف الأخرى) القوات الكردية
في العراق بمساعدات عسكرية مباشرة، سواء في الجو أو على الأرض، وخففت من إصرارها السابق
بأن على «حكومة إقليم كردستان» أن تخضع اقتصادها إلى بغداد. وفي سوريا، قدّمت الولايات
المتحدة أيضاً الدعم العسكري المباشر للحزب والميليشيا الكرديين المحليين الرئيسيين
اللذين يحاربان تنظيم «الدولة الإسلامية» وهما: «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية
الشعب». وتتمثّل النتيجة، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، بتعزيز الحكم الذاتي للأكراد
في كل بلد.
إلا أن النتيجة لم تكن استقلال الأكراد. فالولايات
المتحدة ومعظم الدول الأخرى، وخاصة تركيا وإيران ولكن أيضاً فيما يتخطى حدودهما، بالإضافة
إلى الحكومتين المركزيتين الضعيفتين في بغداد ودمشق، لا تزال تعارض بشدة هذا الأمر.
لذلك، عندما يحذر رئيس «إقليم كردستان» مسعود البارزاني مراراً وتكراراً من الاستفتاء
المقبل حول الاستقلال، يميل أكثر المراقبين المطّلعين إلى شطبْ ما يقوله ويصفونه بأنه
خدعة أو ورقة مساومة مصممة بشكل ذكي للحفاظ على موقفه الداخلي في الوقت الذي ينتزع
فيه أفضل اتفاق ممكن من جيرانه والمحاورين الآخرين.
وعلى نحو مماثل، حين أعلن «حزب الاتحاد الديمقراطي»
هذا الشهر عن خطط رسمية لإقامة إقليم كردي "فدرالي" يتمتع بحكم ذاتي في سوريا،
نجح في إدارة الإنجاز المميز المتمثل بتوحيد كل واحد من جيرانه في المعارضة، بل أكثر
من ذلك: نظام الأسد، والمعارضة السورية، وتركيا، والولايات المتحدة، وحتى «حكومة إقليم
كردستان» المنافسة على الجانب الآخر من النهر في العراق. وكانت روسيا هي الوحيدة التي
أعلنت أن هذا الأمر قد يكون مقاربة معقولة من أجل التوصل إلى حلّ للحرب الأهلية في
سوريا. وفي الوقت نفسه، تجنّب كل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» وتركيا عموماً الدخول
في أي مواجهات مباشرة عبر الحدود المشتركة بينهما - على الرغم من أن أنقرة تعتبر رسمياً
هذا الحزب جزءاً من «حزب العمال الكردستاني» "الإرهابي". إن ذلك يُبقي أكراد
سوريا يتمتعون بحكم ذاتي فعلي ولكن ليس بحكم القانون ضمن الرقعة الخاصة بهم في البلاد.
لكن داخل تركيا، تخلت حالياً الحكومة المركزية
و«حزب العمال الكردستاني» على السواء وبشكل مأساوي عن مقاربة التوقّف عن القتال التي
اعتُمدت بين العاميْن 2013-2015 واستأنفا حرباً مباشرة منخفضة الحدّة. وفي حين يطالب
«حزب العمال الكردستاني» بحكم ذاتي للأكراد، عمل «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في
أنقرة على دراسة احتمال منح المواطنين الأكراد المزيد من الحريات الثقافية والحريات
السياسية المحلية على الأقل. وبدا أن الفجوة بين الحزبيْن قد تقلّصت قبل عام واحد فقط
لتعود وتبدو الآن متسعة للغاية، غير أنه قد يُصار إلى سدّها يوماً ما - إن لم يكن ربما
مع «حزب العمال الكردستاني»، فعندئذ مع الأحزاب الكردية الأصيلة الأخرى، مثل «حزب ديمقراطية
الشعوب». وفي هذه الحالة يمكن على الأرجح تطبيق مقولة "لا حل عسكري".
أما الدولة التي لا تنفك تضيّق الخناق ضمن هذه
اللائحة، من حيث منح الأكراد حقوقهم، فهي إيران. ونظراً لأن الجمهورية الإسلامية لم
تكن يوماً طرفاً في اتفاقية "سايكس بيكو"، لا يمكن لوم هذا الإرث الإمبريالي
على الظروف الصعبة التي يعيشها أكراد إيران الذين يتراوح عددهم بين سبعة إلى عشرة ملايين شخص. وعلى الرغم من أنهم يشاركون في ما تمر
به السياسة الوطنية الإيرانية، إلا أنهم مُحرمون من أي حكم ذاتي فعلي محلي أو حتى من
هوية. فطهران تعيّن حكامهم الذين لا يكونون من الأكراد في أغلب الأحيان. وبالكاد يُسمح
لهم باستخدام لغتهم؛ وقد أُجيز افتتاح أول معهد للتعليم العالي باللغة الكردية في إيران
في العام الماضي فقط. كما يتمّ قمع أي معارضة علنية بشكل عنيف كما هو الحال في أحداث
الشغب التي وقعت في منطقة مهاباد في العام الماضي. يُذكر أن عمليات إعدام الأكراد والكثيرين
غيرهم ممن يُعتبرون كفاراً ازدادت بشكل ملحوظ خلال عهد الرئيس حسن روحاني، بعشرة أضعاف
من مُعدل كل فرد في المملكة العربية السعودية عبر الخليج. وكالعادة، لا تتوانى إيران
عن الانحطاط إلى حدّ استخدام الورقة الطائفية: فالعديد من المواطنين الأكراد المفضلين
لديها هم من الشريحة الأقلية الشيعية للأكراد المتمركزة في مدينة سنندج الريفية. ويَطلق
بعض الأكراد المناهضين للنظام، من كلا الطائفتين، وبسخرية لقب الجحوش على المتعاونين،
كما فعلوا في السابق مع زمرة الأكراد المؤيدين لصدام حسين في العراق.
وفي الخلاصة إذاً، ما هو مصير الأكراد استناداً
إلى اتفاقية "سايكس بيكو"؟ يمكن ذكر العديد من النقاط تباعاً، وجميعها ترتكز
على التحليل السابق. أولاً، لا تزال الحدود القديمة قائمة على نحو مفاجئ. وببساطة ليس
هناك مشروع كردي كامل مطروح لأسباب لا تتعلق بسيادة الدولة فحسب بل بالانقسامات الكردية
الداخلية أيضاً. ثانياً، وما يتصل بذلك، إن الاستقلال التام أو انفصال حتى جزء قومي
واحد من كردستان العرقية، بما في ذلك من العراق أو سوريا، ربما أيضاً ليس في الأفق
المتوسط الأجل. لكن ثالثاً، يشكّل الحكم الذاتي المحلي الكردي أو نوع من "الفدرالية"
خياراً معقولاً ومنطقياً إلى حدّ كبير- وبَنّاءً على الأرجح، ليس في العراق فحسب بل
في سوريا أيضاً، وربما كذلك في تركيا في نهاية المطاف. رابعاً، وما يتصل بذلك أيضاً،
تشير الروابط الوطيدة على نحو استثنائي التي جمعت مؤخراً بين أنقرة وأربيل إلى أن هذا
"النزاع العرقي القديم" بالذات يجب ألا يكون عائقاً يصعب تخطيه أمام المنافع
السياسية السريعة. ويوماً ما، صدِّقوا أو لا تصدِّقوا، قد تجد تركيا أن إقليماً كردياً يتمتع بحكم ذاتي
على طول حدودها مع سوريا يخدم مصالحها تماماً كما هو الحال مع ذلك القائم على حدودها
مع العراق.
وبالنسبة للسياسة الأمريكية في المنطقة، فالتداعيات
واضحة تماماً. بإمكان واشنطن أن تدعم بشكل مفيد ليس استقلالاً كردياً، ناهيك عن تطلعات
قومية كردية، بل حكماً ذاتياً فعلياً للأكراد في ثلاث من الدول الأربع موضع البحث:
في العراق، وفي سوريا، وعلى المدى الطويل، ورهناً بموافقة أنقرة، حتى في تركيا. ويمكن
تسمية الأمر اتفاقية "سايكس بيكو مصغرة". أما بالنسبة للدولة الرابعة في
هذه المجموعة، أي إيران، فإن الاتفاق النووي وغيره من الحقائق تجعل للأسف من الموضوع
الكردي في الجمهورية الإسلامية مشكلة لا يمكن حلّها على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة،
أو لأي من الأطراف المعنية الأخرى.
ديفيد بولوك هو زميل "كوفمان" في معهد
واشنطن ومدير "منتدى فكرة".
"معهد واشنطن"
تحميل
ملف PDF
أضغط هنا