الانشقاق عن النظام لا يُناط به تطهير المنشق فقط، بل يتكفّل بجعله، بتمام القول وكماله، ديموقراطياً ووطنياً ونزيهاً محترِماً الحريات وحقوق الإنسان بعيون «الثورة» السورية وداعميها
يوجد العديد من صنوف الطقوس الدينية المخصصة لتطهير
الإنسان المؤمن من ذنوبه وآثامه. وجميعها عبارة عن طقوس بسيطة يقوم بها المتطهر يقيناً
منه أن جميع سيئاته، مهما كانت مشينة، ستُمحى، نتيجة ذلك، من سجلات أفعاله نهائياً،
ولا يجوز أن يُسأل عنها في أي يوم لاحق.
كذلك هي الحال في حقل «الثورة» السورية، إذ تُوفِّر
طقس إعلان الانشقاق عن النظام السوري الكفيل بالتطهر نهائياً من ذنوب العمل مع النظام،
فما أن «يُعلن» الشخص، عسكرياً كان أم مدنياً، انشقاقه عن «النظام الأسدي»، أو عن
«الجيش النصيري» إن كان عسكرياً، ويقرّ بأن الثورة «مباركة» حتى تُمحى جميع ذنوبه لو
كان قد قَتل أو سرق أو فعل الموبقات الشائنة تحت رايات النظام قبل يوم واحد فقط.
الانشقاق عن النظام لا يُناط به تطهير المنشق فقط،
بل يتكفّل بجعله، بتمام القول وكماله، ديموقراطياً ووطنياً ونزيهاً محترِماً الحريات
وحقوق الإنسان بعيون «الثورة» السورية وداعميها. وذلك على رغم أن طقس التطهّر هذا لا
يتطلب أي اعتذار من السوريين عن الارتكابات التي ارتكبها هذا «الثوري» خلال مسيرة ارتقائه
الوظيفي، حتى لو وصل إلى مواقع رفيعة جداً، هذا مع علم الجميع أن سلم الارتقاء الوظيفي
في سورية بات يعتمد، بعد سنوات قليلة على سلطة حافظ الأسد وحتى الآن، أمراً واحداً
فقط هو: الولاء المطلق لرئيس البلاد، أكان الرئيس حافظ أم وريثه ابنه بشار. وأن يُثبت
صدقَ ولائه عبر قيامه دوماً بالوشاية بزملائه في العمل، بما يكفل أذيتهم التي قد تصل
إلى خراب بيوتهم. فليس لأي سوري الوصول إلى مرتبة محافظ من دون تقديم خدمات ملحوظة
جداً للمخابرات السورية، مع تطاول على مرأى أعين أولياء أمره على المال العام، حتى
يكون ذلك كفيلاً بصمته التام على نهب أسياده هذا المال. لا يستثنى من هذه القاعدة أي
شخص تبوأ مراتب وظيفية مهمة في الحكومة أو الجيش أو حزب البعث، فجميعهم، ومن دون أي
استثناء، يجب أن يكونوا فاسدين حتى نخاع عظامهم الصغرى طيلة مسيرتهم الوظيفية.
يحق لأي شخص، من دون أدنى شك وفي كل وقت، الافتراق
عن نظام الحكم في بلده أو تغيير موقفه منه أو معارضته، بل حتى تغيير موقعه السياسي
برمته من أي كيان سياسي أو منظومة سياسية كان ينتمي إليها بسبب متغير طرأ على نهج هذا
الكيان أو المنظومة، أو بسبب تغيّرٍ في قناعاته هو شخصياً، فهذا أمر طبيعي. بل إنه
أمر عادي انتقال بشر الطبقة الوسطى بين أكثر من موقع سياسي أو منظومة ثقافية في حياتهم.
لكن حتى ننظر إلى هذا الانتقال على أنه تم واكتمل، فإنه يتوجب على الشخص القيام بأكثر
من طقس التطهر الشكلاني هذا، وإلا فإننا ننظر إليه، ونحن مصيبون، على أنه ما زال قابعاً
في جوف منظومة النظام، وأن ما يدعيه من خطاب ثوري ما هو إلا كلام للتسويق «التجاري»
البحت.
لكن على رغم أن «الثورة» السورية لا تقوم بكلّها
على هؤلاء المنشقين عن النظام، بخاصة قطاعها الجهادي، إلا أن كتلة رئيسية من أعلى قياداتها
السياسية هي من كبار الموظفين المنشقين. وهذا يعني بقاء النظام راسخاً إلى زمن طويل،
بقدر بقاء أمثال هؤلاء الأشخاص كقيادات رئيسية في المواقع التي من المفترض أن تكون
ثورية.
مثقفو «الثورة»، إن كانوا وافدين من مؤسسات النظام
أو من المستقلين أو من المعارضين له، لم يتمايزوا كثيراً في أدائهم، من ناحية افتراقهم
عن النظام، عن قادة «الثورة» السياسيين المنشقين عن النظام. فقد اكتفوا بهجاء النظام
ونَعْتِه بالأسدية أو العلوية ليعتبروا أنفسهم نتيجة ذلك وقد أصبحوا في مقام مثقفي
الثورة. واختزلوا عملهم بعد ذلك باقتناء مقياس إطلاقي يعايرون فيه ما ومن يشاؤون من
البشر والشجر والحجر السوري، ويفرزونهم بين ثوري وموال للنظام أو صنيعته.
التنقل بين منظومات الحقل الثقافي لا يحتمل الخفة
التي يحتملها التنقل بين الكيانات السياسية. فلا يكفي المثقف تخلّياً عن الثقافة الاستبدادية
أن يتبنّى ثقافة «لا أسدية» أو «لا علوية» بالمعنى السياسي، فلا بد له من تبني ثقافة
حرّوية. فنقيض الاستبداد ليس اللاأسدية أو اللاعلوية بل الحرية الفردية. وبالتالي،
فإن المثقف السوري، من أي صنف كان، إذا أراد تحقيق ذلك فإنه يحتاج إلى عملية ثقافية
قصدية غير عفوية. ذلك لأن الثقافة الاستبدادية ليست مسيطرة من خلال مؤسسات النظام وأجهزة
تسلطه فقط، وبالتالي يمكننا الاكتفاء بشكل من أشكال الانشقاق أو الافتراق السياسي عنه،
بل هي منظومة ثقافية مهيمنة على حقول «البنية الفوقية» كافة في سورية، أي أن أغلب ما
تحويه أذهاننا من مفاهيم وقيم ومعتقدات دينية واجتماعية وحقوقية هو استبدادي: وليد
الاستبداد وداعم له وعَتَلَة في آلة إعادة إنتاج أنماط أخرى من الأنظمة السياسية الطغيانية.
لهذا لا يكفي المثقفَ السوري «إعلان» تطهري عابر بل يحتاج إلى عملية تطهّر دائمة يحققها
باعتماده نهجاً نقدياً لكل موروثنا المعرفي.
فهذا الموروث هو الذي مكّن الطغيانيين، منذ الاستقلال
حتى الآن، من الانتصار على جميع دعوات التغيير السياسي إما بكسرها أو احتضانها وتدجينها،
ومكّنهم من إنتاج نظام استبدادي متين قام بدوره بعملية تثبيت وترسيخ دائمة لهذا الموروث
المعطِّل للعقل والمعيق لتشكل مجتمع فاعل يقوم على علاقات حرة بين الأفراد.
المنظومة الثقافية المهيمنة على ذهنية المثقف السوري
تغيب عنها بالمطلق حرية الفرد وأهمية هذه الحرية في بناء تصور بديل للنُظم الطغيانية.
فمثقفنا إن اهتم بهذه الحرية، فإن اهتمامه هذا لا يكون كرمى للفرد وإكباراً أو إعلاءً
لحريته بل مجابهة للطرف الذي هو منتهك هذه الحرية (لهذا نجد لمنظمات حقوق الإنسان ومنظمات
المجتمع المدني السوري اصطفافات سياسية). وفي شكل عام، فإن الحرية المستوطنة أذهاننا
هي حريةٌ «مِنْ» جهة ما كالاستعمار مثلاً، وليست حرية «لـِ» طرفٍ ما كالفرد/ المواطن
على أنها حق من حقوقه الطبيعية بغض النظر عن أي اعتبار، مثل حريته في الرأي، وفي التعبير،
وفي الاعتقاد، وفي المعتقد، وفي الانشقاق أو الولاء، وغير ذلك من الحريات الفردية التي
هي شرط ضروري لاغٍ، وإن كان غير كافٍ، للاستبداد.
على رغم أهميته كمفهوم تأسيسي، إلا أن هناك العديد
من المفاهيم التأسيسية الأخرى في أهمية الحرية الفردية. فالدولة، مثلاُ وليس حصراُ،
تشكل، مفهوماً وبنياناً، حجر أساس في الصراع مع الطغيان. ولا يقل أهمية تأسيس مفهوم
الفرد في حد ذاته كنواة أساس للمجتمع وليس للوحدة السكانية، وللدولة وليس للسلطة الطغيانية.
فلا بد من إحلال مفهوم الفرد بدل مفهوم القوم إن كنا نريد بناء دولة ديموقراطية تقوم
على مبدأ المساواة بين جميع الأفراد، بديلاً عن نظام بقوة النظام السوري ورسوخه، وريث
لكل أنواع السلطويات الطغيانية التي عرفتها مجتمعاتنا عبر مرورها بمراحل متنوعة من
السلطات الدينية والسلطانية والاستعمارية والعسكرية، وهو خلاصة جميع أنواع الشرعيات
غير الديموقراطية، من شرعيات انقلابية وثورية وقومية ودينية أيضاً. نظام كهذا لا يمكن
الثورة عليه باختزال توصيفه إلى مجرد أنه نظام أسدي أو نظام علوي. فمصطلحات كهذه لا
تعيننا في بناء رؤى سياسية حرّوية. فمثل هذه التسمية تعني أنه يكفينا استبدال عائلة
الأسد حتى نخلص من الطغيان.
صحيح أن عائلة الأسد تمكّنت من الحكم كأنها عائلة
حاكمة تتوارث السلطة «أبّاً عن جَدّ»، لكن النظام السوري لم يصبح استبدادياً لأنه كان
محكوماً، في جزء كبير منه، فترة حافظ الأسد، من جانب عائلته، بل لأنه استبدادي تمكّنت
من التسلط عليه هذه العائلة، وكانت ستقوم بذلك أي عائلة أخرى كالعائلات التي تسلطت
على الحكم في جمهوريات عربية أخرى كالعراق ومصر وتونس وليبيا واليمن.
لا أرى أي أمل بإنهاء النظام السوري لمصلحة دولة
حديثة، أو حتى بإزاحة سلطة بشار الأسد باعتماد مصطلح «النظام الأسدي» أو «النظام العلوي
(أو النصيري)»، ولا حتى الاكتفاء باستخدام مفردات ذات طابع تجاري مثل «الديموقراطية
تتطلبها السوق» الديبلوماسية الأوروبية كي يكون في مقدورها دعم «الثورة» السورية للتضييق
على روسيا، وليس تمكيناً لقيم الحداثة.
لا ثورة من دون أن يكون المثقف السوري طليعياً، من
دون أن ينهض بثورة ثقافية عارمة يبدأها بموقف صريح من الجهاد الديني، يرفض من خلاله
اعتبار «النصرة» (ومثيلاتها) ضمن قوى الثورة ما لم تتبنّ قيم الديموقراطية والمساواة
وحرية الاعتقاد وحقوق المرأة، لا أن يكتفي بمطالبتها بتغيير رايتها من السوداء إلى
الخضراء (العلم الأخضر) واعتبار نفسها ضمن الجيش الحر، كما يفعل أحد أهم شيوخ المثقفين
«الثوريين».
* كاتب سوري
"الحياة"