الحملة ضد حزب الشعوب الديموقراطي قد تستمر إلى النهاية، خصوصاً أن 50 نائباً من نوابه الـ59 رفعت ضدهم دعاوى، معظمها، له صلة بعلاقاته ومواقفه من حزب العمال الكردستاني
اعتقال قادة حزب الشعوب الديموقراطي في تركيا كان متوقعاً،
فمنذ انتخابات حزيران (يونيو) العام الماضي، والتي تجاوز فيها الحزب العتبة البرلمانية
وحصل على نحو تسعين مقعداً، بدأت إجراءات استهداف الحزب تتوالى، ومع أنه نجح في الانتخابات
المبكرة في أب (أغسطس) العام الماضي في تجاوز العتبة البرلمانية مجدداً، وحصل على
59 مقعداً إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان سرعان ما وجّه ضربة قانونية وسياسية للحزب
عندما دفع البرلمان إلى رفع الحصانة النيابية عبر تعديل المادة 83 التي كانت تمنح الحصانة
للبرلمانيين. وكان هذا التعديل بهدف أساسي هو ضرب حزب الشعوب الديموقراطي بتهم تتعلق
بدعم الإرهاب والارتباط بحزب العمال الكردستاني والتحريض على الدولة، وقتها قال رئيس
الحزب صلاح الدين دميرطاش: لن نسلّم أنفسنا، إلى أن قامت السلطات باعتقاله مع معظم
البرلمانيين الأكراد من حزبه.
ما جرى يكشف عن جملة من الحقائق على صعيد الديموقراطية والقضية
الكردية، في تركيا، لعل أهمها:
1- عقدة القضية الكردية في الديموقراطية التركية، حيث أكدت
تجارب الأحزاب السياسية الكردية التي تشكّلت في تركيا طوال العقود الماضية صعوبة قدرة
هذه الأحزاب على تحقيق الحل السياسي للقضية عبر الوسائل السياسية المتاحة، فقبل حزب
الشعوب تشكّلت ستة أحزاب سياسية خاضت العمل السياسي وجميعها حظرت لاحقاً، ولعل هذا
المصير بات يهدد حزب الشعوب الديموقراطي نفسه، إذا وجّه القضاء التركي اتهامات لقادة
الحزب بالتورُّط في (الإرهاب).
2- أسلوب إدارة الحكومات التركية للعمل السياسي مع الأحزاب
الكردية السياسية، ولعل خير ما يلخص هذه النقطة، أن أردوغان طلب من وفد من حزب الشعوب
الذهاب إلى جمال قنديل لبحث عملية السلام مع قيادة حزب العمال الكردستاني، وعندما عاد
الوفد اتصل أردوغان به وسأله عما جرى، ثم خرج في اليوم التالي ليطالب بمحاسبة الوفد
على ما طلب. هذه العقلية تكشف عن أسلوب المؤامرة في التعامل مع الجهود الساعية إلى
إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، ولعل هذا ما يفسر تنصّل أردوغان لاحقاً من اتفاقية
«دولمه باهجة» التي تم التوصُّل إليها بين حزب الشعوب وحكومة حزب العدالة والتنمية
والتي كانت أول وثيقة مكتوبة لعملية السلام بين الجانبين، وكانت بمثابة خريطة طريق
لهذه العملية.
3- اعتقال نواب حزب الشعوب جاء في ظل حملة الاعتقالات المستمرة
في تركيا والتي طاولت عشرات آلاف العسكريين والسياسيين والإعلاميين والمدنيين باسم
مكافحة التنظيم الموازي أي جماعة الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه حكومة حزب العدالة
والتنمية بالتورُّط في الانقلاب العسكري الفاشل، ولعل من أخطر معالم هذه الحملة أنها
طاولت معظم المؤسسات الإعلامية التي لا تتبع حزب العدالة والتنمية، وهي حملة جعلت من
تركيا أكبر سجن للصحافيين بحسب تقارير المنظمات الدولية والإنسانية المعنية بحرية الصحافة
والصحافيين.
في ضوء ما سبق، فإن الحملة ضد حزب الشعوب الديموقراطي قد
تستمر إلى النهاية، خصوصاً أن 50 نائباً من نوابه الـ59 رفعت ضدهم دعاوى، معظمها، له
صلة بعلاقاته ومواقفه من حزب العمال الكردستاني، ولعل مثل هذا المسار يشكل خطراً كبيراً
على الديموقراطية، إذ إن حزب الشعوب الذي تأسس عام 2012، وطرح نفسه حزباً جامعاً للأكراد
والأتراك والعرب والأرمن في عموم تركيا، وفوق الطوائف والمذاهب والقوميات والطبقات
والأيديولوجيات، يبدو أن مساره وصل إلى طريق مسدود، وباتت معه البلاد أمام المزيد من
الانشقاق القومي والمزيد من العنف.
ربما وجد حزب الشعوب نفسه مع تجدّد الحرب بين حزب العمال
الكردستاني والدولة التركية في امتحان سياسي هو الأصعب، إذ إنه بحكم بنيته وبيئته الكردية
في حالة تعبئة لقوميته الكردية، تمنعه من الاستجابة لطلب الحكومة التركية الدائم بإدانة
عمليات حزب العمال الكردستاني، ولعل ما زاد غضب الحكومة التركية منه، هو طرح زعيمه
صلاح الدين دميرطاش خلال مؤتمر المجتمع الديموقراطي الكردي (مجموعات منظمات سياسية
وشبابية ونسائية) في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) الماضي في مدينة دياربكر
إقامة حكم ذاتي في جنوب تركيا وشرقها، وهو ما دفع برجب طيب أردوغان إلى المطالبة بمحاسبة
دميرطاش قبل رفع الحصانة عنه في البرلمان، والأخطر من هذا الإجراء البرلماني حالة التعبئة
التي يمارسها الإعلام التركي ضد الأكراد ، فصورة دميرطاش لم تعد صورة الزعيم اليساري
الديموقراطي الذي يجمع الأكراد والأتراك، أو صورة الرجل الذي يحمل خطاب السلام ويقوم
بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وإنما صورة الرجل الذي يشكل
رأس الحربة لحزب العمال الكردستاني ويحاول تنفيذ مشروعه السياسي من داخل البيت التركي.
وصول الأمور إلى هذه النقطة المسدودة في مسيرة حزب الشعوب
الديموقراطي يطرح أسئلة كثيرة عن أفق العمل السياسي الكردي في تركيا، على نحو: هل تسمح
البنية السياسية التركية بوجود قوى كردية تعبّر عن الهوية الكردية سياسياً في هوية
تركيا؟ وما مدى قبول هذه البنية بالهوية الكردية؟ إنها أسئلة الديموقراطية التركية
التي سرعان ما تتبخر عند العقدة الكردية التي تتصاعد في كل الاتجاهات.
خورشيد دلي
* كاتب سوري
"الحياة"