كابوس الأكراد بات يقض مضاجع أردوغان، خصوصاً في ظل تبدل المواقف الإقليمية والدولية تجاههم
منذ الانقلاب الفاشل في تركيا منتصف تموز (يوليو) الماضي،
تتصاعد جهود الرئيس رجب طيب أردوغان لدرء الكوابيس التي تؤرق منامه، وتزيده انغماساً
في همه الداخلي. أول تلك الكوابيس، يتمثل في ضرورة قضم جذور جماعة «خدمة»، ليس ممن
يمثلونها في كيانات الدولة ومؤسساتها وإنما من المجتمع كله. وتجسَّد ذلك في حملة الاعتقالات
التي شملت مَن تثور حولهم شكوك الانتماء إلى الداعية فتح الله غولن، المتهم بتدبير
الانقلاب، حتى أن منظمة «هيومن رايتس ووتش» أعلنت أخيراً أن تركيا منحت أجهزتها الأمنية
«شيكاً على بياض» لملاحقة أنصار «خدمة» وآخرين ممن يعارضون توجهات النظام في البلاد.
ورغم أن تركيا قطعت شوطاً معتبراً على طريق تصفية «خدمة» وروافدها المؤسسية، فإنها
تواجه صعوبة في إقناع واشنطن بتسليم غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا منذ العام
1996. وبينما ترى أنقرة شقاً جنائياً في إدانة حركة «خدمة» في ما يتعلق بتدبير محاولة
الانقلاب، فإن واشنطن تعتقد أن غولن هو «متهم سياسي»، ولا يجوز تسليمه وفقاً لنص المادة
الثالثة من اتفاقية بين البلدين تشترط ألا تُعتبر الجريمة، التي يفترض أن المطلوب ارتكبها،
ذات طابع سياسي. ورغم حديث وزير العدل التركي أثناء زيارته واشنطن الشهر الماضي عن
أن تمكين غولن وجماعته من ممارسة أنشطتهم قد يضيف نقطة توتر جديدة إلى ما تشهده العلاقات
بين البلدين، إلا أنه من غير الوارد أن تستجيب أميركا للمطلب التركي في المستقبل القريب.
فهيلاري كلينتون التي تبدو الأقرب إلى الفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية، تربطها
علاقات وثيقة بكثير من المؤسسات التي يدعمها غولن. كما أن هذه المؤسسات هي من بين الجماعات
الممولة لحملة كلينتون التي أشادت غير مرة بما تقدمه «خدمة» من أنشطة «ثقافية وتنويرية».
على جانب آخر، يظل الأكراد رقماً صعباً في الحياة السياسية التركية، فعلى رغم التوجه
الأردوغاني نحو التصفية السياسية والعسكرية للأكراد في جنوب شرق تركيا فضلاً عن محاولات
استهداف مواقع أكراد سورية عبر عملية «درع الفرات» التي انطلقت في آب (أغسطس) الماضي،
فإن نجاحات أردوغان في تحجيم الأكراد ما زالت عند الحد الأدنى.
الصراع العنيف بين الأكراد والحكومة منذ العام 1984، راح
ضحيته ما يقرب من 40 ألف قتيل، فضلاً عن إفراز أزمة سياسية داخلية تتصاعد في ظلها التوترات
وأعمال العنف وتسود حال من عدم الاستقرار في البلاد، تطورت دراماتيكياً في ضوء التطورات
السياسية الأخيرة المتمثلة في دخول «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي البرلمان بعد تجاوزه
حاجز العتبة الانتخابية المقدر بـ10 في المئة، وما تلا ذلك من تصعيد على أكثر من مستوى،
ما أدى إلى تجميد عملية السلام التي بدأت في العام 2013.
تعقيد تسوية كابوس الأزمة الكردية أنهى فرص صمت البنادق بين
الأكراد والأتراك، وبدَّد فرصة نقلة نوعية في العام 2012 عندما دخلت الحكومة في عملية
تفاوضية مع الأكراد. والأرجح أن كابوس الأكراد بات يقض مضاجع أردوغان، خصوصاً في ظل
تبدل المواقف الإقليمية والدولية تجاههم. فإضافة إلى التفاهمات الروسية - الكردية التي
وصلت إلى مستوى معتبر عشية الخلاف التركي- الروسي بعد إسقاط الطائرة «سوخوي» في كانون
الأول (ديسمبر) الماضي، وعدت كلينتون الشهر الماضي بتزويد المقاتلين الأكراد في سورية
بالسلاح، في حال وصولها إلى البيت الأبيض. وهو الأمر الذي أثار امتعاض أنقرة التي ترى
في الكيانات الكردية السياسية والمسلحة امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه
إرهابياً. غير أن قلق أردوغان من الورقة الكردية تصاعد مجدداً مع إعلان ستيفن تاونسند،
الجنرال الأميركي ومسؤول المهام المشتركة ضد «داعش» في العراق وسورية، أن الهجوم لاستعادة
مدينة الرقة ستشارك فيه «قوات سورية الديموقراطية»، وأضاف أن الأكراد «هم العمود الفقري
لهجوم الرقة». التوجه الأميركي نحو الأكراد دفع أردوغان إلى القول: «نقول لأصدقائنا
الأميركيين: هل تتعلق المسألة بمقاتلة داعش؟ تعالوا، سنفعل ذلك معاً. لسنا في حاجة
إلى حزب الاتحاد الديموقراطي ولا وحدات حماية الشعب».
خلف ما سبق يسعى أردوغان إلى القفز على مخاوفه من فشل التحول
إلى النظام الرئاسي الذي يحلم به منذ أكثر من عقد، فبعد شهر من توليه رئاسة الحكومة
التركية في آذار (مارس) 2003 قال خلال مقابلة صحافية إنه يرغب في إقامة نظام رئاسي
في تركيا شبيه بما هو قائم في الولايات المتحدة. وتصاعد الحديث عن النظام الرئاسي في
العام 2013 عشية كشف قضايا فساد ورشوة، وعقب انتخابه رئيساً للجمهورية في آب (أغسطس)
2014 عاد أردوغان إلى طرح موضوع النظام الرئاسي.
ورغم جهود أردوغان لتمرير المشروع الرئاسي، فإن ثمة معوقات
ربما تحول دون إنجازه، أولها غياب تأمين قاعدة برلمانية كافية من «حزب العدالة والتنمية»
لتمرير مشروع النظام الرئاسي من دون الحاجة إلى استفتاء شعبي. فبينما يملك الحزب الحاكم
316 مقعداً، يحتاج أردوغان إلى 376 صوتاً من إجمالي 550 نائباً في الجمعية الوطنية
لتمرير المشروع من دون استفتاء أو على الأقل 330 صوتاً لطرح التعديلات على استفتاء
عام.
صحيح أن أردوغان يراهن على تأييد «حزب الحركة القومية»، إلا
أن هذا التأييد يظل مبدئياً، فضلاً عن أن الخلافات الواسعة داخل الحزب الأخير الممثل
بـ40 نائباً قد تؤدي إلى تغيير موقفه. هذا بخلاف شكوك قطاع واسع من الجمهور التركي
بسبب غموض معالم النظام الرئاسي الذي يتضمنه طرح أردوغان: إلى أي مدرسة سينتمي؟ هل
سيكون على غرار النموذج الأميركي كما تحدث أردوغان في وقت سابق، أم أشبه بالنموذج الفرنسي،
أم سيعتمد نظاماً شبيهاً بالأنظمة الرئاسية في الشرق الأوسط؟ وترتبط معضلة أخرى بمواقف
«حزب الشعب الجمهوري» و «حزب الشعوب الديموقراطي» الموالي للأكراد، ويمثلان رقماً صعباً
في الحياة السياسية التركية، خصوصاً أن صورتهما الذهنية في الوعي التركي أضحت أكثر
نقاءً بفعل مواقفهما ضد الانقلاب وتأييدهما حكومة «العدالة والتنمية»، وهما يبديان
معارضة صارمة لتغيير نظام الحكم.
كرم سعيد
"الحياة"