بهمان قبادي : الرجل الذي كنته مات، أنا شخصٌ آخر اليوم
الخميس 28 شباط / فبراير 2013, 14:16
كورداونلاين
القطط الفارسية"، كنا انذاك في طهران وكنت ممتلئاً حيوية ونشاطاً. وكنت كثير الانشغال! أنجزته في 17 يوماً. لكن عندما تركتُ طهران حياتي كلها تغيرت. الرجل الذي كنته عندما كنت اعيش في طهران مات
بهمان قبادي لـ"النهار": الرجل الذي كنته مات، أنا شخصٌ آخر اليوم!
بهمان قبادي.
النهار اللبنانية
هوفيك حبشيان- اليونان...
2013-02-28
¶ لم احضّر الكثير من الأسئلة، لأنه لم يتمّ ابلاغي عن حواري معك الا قبل ثلث ساعة. على كل حال، شاهدتُ الفيلم أمس وكان مفعوله كبيراً عليّ. قلتَ خلال تقديم الفيلم إنك لم ترد طريقة كلاسيكية في سرد الحكاية. هناك ايضاً القصائد التي جعلت العمل يتخذ المنحى الذي اتخذه. هل يمكنك قول المزيد في هذا الجانب؟
- كنتُ اريد فيلماً يطرح لغة سينمائية مستحدثة. كان في نيتي بنية درامية اخرى. كنت ارغب بشيء يتضمن لغة الشعر والقصيدة. كان عندي قصة قوية جداً، ولكني لم ارد ان اكون مجرد ناقل لها. كان شرطي الوحيد لأروي هذه الحكاية ان أمزّق البنية القصصية وأن اجعلها اشلاءً. لم أتبنّ التسلسل المنطقي المتّبع في الاخراج، لأن الحياة التي كنت أعيشها كانت تتناسب مع هذا النوع من الخيار السينمائي. فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، انتقلتُ من بلد الى آخر ومن مدينة الى اخرى. التقيتُ اناساً مختلفين في اماكن مختلفة من العالم، ولم يكن في هذه اللقاءات اي منطق. اقصد انه لم يكن هناك اي منطق يجعلني ألتقي هؤلاء. لهذا كله، لم أُرِد معالجة كلاسيكية، لأن الفيلم فرض نفسه عليّ في حقبة عصيبة من حياتي، فأردتُ ان يعكس هذا الشيء. "موسم الخرتيت" فيلم شخصي وأحسه قريباً مني؛ انه انعكاس لباطني وروحي. هذا أقرب الأفلام الى قلبي.
¶ أتعتقد أنه كان من الصعب ان تنجزه قبل "لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية"، وما عشته في بلادك ايران من وضع مشابه لما عاشه الشاعر الذي تنقل حكايته؟
- بالنسبة إلى "القطط الفارسية"، كنا انذاك في طهران وكنت ممتلئاً حيوية ونشاطاً. وكنت كثير الانشغال! أنجزته في 17 يوماً. لكن عندما تركتُ طهران حياتي كلها تغيرت. الرجل الذي كنته عندما كنت اعيش في طهران مات: الذي يحادثك الآن هو بهمان جديد. الأمر بمثابة ثورة، كالثورة التي عاشتها بلادي. لكن هذه ثورة على نطاق فردي وضيق. اعتقد انني انجزتُ ثورة على نفسي. عندما اقول انني تغيرتُ، بعضهم لا يصدّقني، ويعتبر ما أقوله مجرد كلام. لا، الأمر حصل فعلاً معي؛ الآن اعرف ما هو معنى ان يتغير الانسان بعد تجربة مماثلة. انا اعرف ماذا يعني التغيير وأشعر به. اليوم، صرتُ اشعر انني في الثالثة من عمري، وان العالم الذي اعيش فيه عالمٌ حرّ.
¶ كم في المئة من الفيلم مستند الى خيالك وكم في المئة منه مبني على وقائع؟
- ربما 20 في المئة منه خيالي. لكن هذه النسبة هي ما نراه من احلام في الفيلم. الجانب المتخيل هو حقيقي ايضاً، لأنني لجأتُ من أجل صوغه الى حكايات اعرفها وسمعتها طوال حياتي. اشياء سمعتها هنا وهناك من اقارب واصدقاء. لذلك يمكن الادعاء بأن كل ما نراه في الفيلم حقيقي. مشهد السلحفاة، يأتي من قصيدة للشاعر. كل ما فعلته هو افلمة القصيدة وترجمتها الى متتاليات بصرية. اما لقطة الخيل، فمرتبط بشكل او بآخر بلقطة الجماع بين الشاعر وابنته. عشر دقائق تفصل بين هذين المشهدين. ربما ينبغي لك ان تعيد مشاهدته بعد هذه الإشارة.
¶ كلٌّ من السلحفاة والخيل هما ايضا غمزة سينمائية الى عملك. هل يمكن الحديث عن تحية ذاتية؟
- ما يجمعني بالشاعر هو استعماله الكثير من الحيوانات في اشعاره، كما هي الحال في افلامي. عندما اكتشفتُ هذا الشيء أصبتُ بالذهول. حقاً صُدمت.
¶ متى اكتشفت قصائده؟
- اكتشفتها قبل بضع سنوات. في الحقيقة هو صديق عمي، لكنني لم أكلّمه كلمة واحدة...
¶ ألم تلتقه البتة؟
- لا، لا، لا، البتة.
¶ حتى من أجل صناعة الفيلم؟!
- أبداً. هو أعطى عمّي كل شيء، من موافقة إلخ. لكني لم استعمل اشعاره في الفيلم. القصائد التي تسمعها في الفيلم هي من شاعرة أخرى، أريتُ المادة المصورة لهذه الشاعرة وهي كتبت بناء على المشاهد. لم أحصل على موافقة لإدراج قصائده في الفيلم، فقط كانت الموافقة على أن أروي المراحل الثلاث من حياته.
¶ ألم يشاهد "موسم الخرتيت"؟
- لا. الجانب الحقيقي الذي أخذته من حياته هو الاغتصاب الذي تكون زوجته عرضة له عندما يكون هو في السجن. وايضاً الفصل الذي نراه فيه وهو ينام مع إبنته، وجرى ذلك من دون أن يعلم انها إبنته. لكن مع الفارق انها لم تكن إبنته في الحقيقة. فهي كانت من الرجل الآخر، لكنه اعتقد انها إبنته.
¶ وهذا ما اعتقدناه ايضاً كمشاهدين!
- نعم.
¶ ماذا عن مساهمة مارتن سكورسيزي في الفيلم؟
- تعرفتُ إليه ودعاني الى منزله، إلخ. تحدثنا عن السينما وعن أفلامي، وأفصحتُ له عن رغبتي في صناعة فيلم في نيويورك... ثم مضت الأيام والتقينا مجدداً، وكنتُ قد أنجزتُ "موسم الخرتيت"، شاهده واعجب به، فطلبت اليه أن يضع اسمه عليه كنوع من برستيج. هذا كان من شأنه أن يساعدنا على الانتشار في اماكن كثيرة من العالم. سكورسيزي مقدِّم الفيلم وليس منتجه.
===================================================================================
لا أحد يعرف شيئاً
عن الشاعر الفارسي
"موسم الخرتيت" لبهمان قبادي.
"موسم الخرتيت" لبهمان قبادي افتتح في تورونتو في ايلول من العام الماضي. لكننا لم نشاهده سوى خلال وجودنا في تسالونيك اثناء الدورة الأخيرة من هذا المهرجان. المدير الفني لمهرجان كانّ، تييري فريمو، لم يضمه الى برمجته، ولا نعرف ما الذي جرى مع الرجل الأول في البندقية، ألبرتو باربيرا، كي يهدي إلى تورونتو فرصة "استملاك" هذه الجوهرة السينمائية التي اعادت واحداً من أهم السينمائيين الايرانيين الى الشاشة، بعد مضيّ ثلاث سنوات طويلة على تقديمه فيلم "لا احد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية" (الحائز جائزة "نظرة ما"، عام 2009)
شريط "القطط" المطعّم بموسيقى الأندرغراوند الايراني، دفعه الى ان يهاجر خارج ايران، بعدما علمت السلطات بالكيفية التي صوّره بها: تحت المعطف. لذا، فإن قبادي أنجز جديده في اسطنبول، مستعيناً بمدير التصوير توراج اصلاني، الذي التقط مشاهد عمله السابق، والذي ضخّ في النسيج البصري للفيلم، شيئاً ما يذكّر بـ"الفيديو آرت"، من دون ان يكون مقصوداً ومتعمداً. هناك شيء قريب من بصريات المخرج التركي نوري بيلغي جيلان، الذي اعتاد التصوير بالفيديو والحصول على نتيجة مبهرة. هذا حتماً لن يكون آخر مشروع لقبادي في تركيا، منفاه القسري، كونه يستعد لإنجاز فيلمين في العاصمة التركية، من بين أشياء أخرى يعمل على بلورتها واخراجها الى النور.
"موسم الخرتيت"، يستند الى ثلاثة فصول من حياة شاعر ايراني كردي اسمه صادق كمنغار. لكن قبادي يسميه شيئاً آخر ولا يكشف هوية الشخص الذي استلهم منه السيناريو الا في مقابلاته. الشاعر في الفيلم يدعى ساحل فرزان (الممثل الايراني الكبير بهروز فوسوخي في أول دور له بالفارسية منذ الثورة)، شيوعي يعيش حياة هنيئة مع زوجته، الى أن تأتي الثورة الاسلامية عام 1979 لتجرف الأخضر واليابس. يُزَجّ بساحل وزوجته في السجن، ويساهم في حبسهما سائقه الخائن (يلماظ أردوغان) وهو احد الناشطين في الثورة. وشاية سريعة، في زمن صعود التزمت وتردي الأخلاق، ما يؤدي إلى إفساد حياة ساحل الى الأبد. ذلك ان السائق مهووس بالزوجة السمراء الجميلة (مونيكا بيللوتشي) وسيستغل وجود ساحل في الزنزانة، ليغتصبها (المشهد الأعظم اخراجاً في الفيلم) ويرزق منها بطفلة. عندما تنتهي فترة اعتقالها (عشر سنين)، يقال لها ان زوجها توفى وهو خلف القضبان، فترحل الى اسطنبول، وتبدأ حياة جديدة من هناك، ودائماً يحوم حولها السائق اللعين. لكن ساحل حيّ يُرزق، وسيعود، وإن مضى نحو ثلاثين عاماً على توقيفه الهمجي. لكن، كيف تقوم قيامته، وفي أيّ حال يعود؟ وهل الحياة تبدأ من هذه النقطة، نقطة الشقاء واللوعة؟
من خلال خلط أوراق الواقع والخيال، الشعر والسينما، الكلمة اللامعة والهادئة بالصورة المؤججة بالعنف والقسوة، اراد قبادي الارتقاء بالحكاية الايرانية ليبلغ ما هو أشمل وأوسع. صادف تصوير الفيلم مع مرحلة مؤلمة من حياته، اضطر فيها المخرج إلى ان يترك خلفه اشياء كثيرة، ذكريات واماكن واشخاصا. ذاق فيها طعم الاضطهاد والتعسف المرّ، وبات المهاجر السينمائي، او "آدم" المطرود من الجنة. هذه المرارات التي عاشها قبادي لا يمكننا فصلها عن تجربة فرزان/ كمنغار. فالاثنان يخافان ان "يموت فيهما الشعر، خشية أن تتعفن جثتهما". من قصائد كمنغار التي ألهمت قبادي ليأتينا بهذه الحكاية، يستل اللغة البصرية وروحيتها الشعرية.
لا يسقط قبادي في فخّ الميلودراما السهلة. لا قوة درامية في الفيلم تسيل منها المشاعر. بل معالجة عاقلة لمأساة أسرية لن تنتهي مع خروج ساحل من السجن، بل تبدأ الرحلة القاسية مع القدر من هناك، وصولاً الى لحظة اللقاءات التي لن تكتمل، والكلمات التي تبقى اسراراً حائرة، عالقة في مكان ما بين الحلق واللسان. "موسم الخرتيت" احد هذه الأفلام التي تجرح، وتحب نكء الجرح، مراراً وتكراراً. تصوير قبادي خلاّب، ديكوراته موحشة، سماؤه قاسية الألوان، حتى الضمائر تلبس لون التراب لتنعى الانسانية التي ماتت داخل الشخصيات. عزلة، فراغ، تهميشٌ واستبعاد، قلبٌ يتألم بصمت... هذا كله يصل الى مغزى شعري وسياسي يبقى في دائرة السينما ولا يقترب الى اعلان الموقف. هجائية قبادي لا تزيل عنه صفة الشاعرية، مثلما لن تساهم الحركة الانتقامية لبطلنا المسلوب والمكسور، في ان يستعيد حياته المندثرة خلف جدران الكراهية والحقد. اما الكلمات، فلها القدرة على ان ترنّ في الآذان، اياماً طويلة بعد رحيله. في النهاية، لا أحد يعرف شيئاً عن الشاعر الفارسي!