|
ديرسم اسماعيل حمه:يوميات على الفرن الآلي في قامشلو
الأحد 23 كانون الأوّل / ديسمبر 2012, 20:03 كورداونلاين

تتعرف على اناس لم تكن لتراهم في حياتك كلها لولا هذا الصف, فيصبح القول الشهير ((ان الانترنيت جعل العالم قرية صغيرة)) الى ((ان الفرن جعل قامشلو بل سوريا قرية صغيرة)) .
يوميات على الفرن الآلي في قامشلوتجسد المعاناة نفسها احيانا في امور بسيطة لا ينتبه اليها المرء في حياته اليومية .فانا من خلال قصتي هذه لا اتكلم عن مدينة خيالية او عن اناس وهميين بل اتكلم عن تجربة مريرة ومؤلمة يعيشها شعب يعاني من قسوة الظروف, قصة انا شاهد عليها بطلها رغيف الخبز وبرغم بساطتها الا انها تجسد معنى القهر والظلم الذي يعانيه الانسان في بلادنا.قصتي تتكلم عن مخبز (فرن) الآلي في مدينة قامشلو شمال شرق سوريا, مأساة اعايشها ويعايشها من حولي.حيث تبدا الحكاية من هنا: اكون جالسا في المنزل في الظلام والبرد القارس اذ لا توجد كهرباء ولا اية وسيلة للتدفئة, كارها حياتي وآس على حالي , وفجأة ومن دون سابق انذار اسمع تلك الجملة التي تطحن الرجال في يومنا هذا ((ما ضل خبز بالبيت)).فتبدأ المعاناة, وتكون هذه النكبة على مراحل عدة: اولها مرحلة الحرب النفسية وانفصام الشخصية, حيث تبدأ هذه المرحلة بإقناع النفس بالذهاب الى الفرن واعداد وتهيئة العقل لتحمل الضغط والحمل الذي وقع وسيقع عليه.المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاعداد والتأهيل الجسدي وتكون بممارسة القليل من الرياضة وتناول القليل من البروتينات ولبس اللباس الكامل للاستعداد للذهاب (( ضعف وزنك من الثياب)) لشدة البرودة وقسوة الجو, والثياب الكثيرة لها وظيفة اخرى ايضاُ سأتكلم عنها لاحقا.المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الذهاب الى الفرن, وتبدأ هي ايضا بمراحل:المرحلة الاولى: هي مرحلة البحث عن الرفيق ( أي رفيق كان ), وهذه المرحلة لها اهمية كبيرة جدا حيث انه عند وصولك الى الفرن لا يجب ان تكون لوحدك فكل من يذهب يقوم بتوديع عائلته واصدقاءه واقرباءه ويوصي بوصيته الاخيرة. وينطلق ذاهبا الى الفرن وهو يحسب حسابا لكل شيء فربما لا يعود او يعتقل او يخطف او يضرب وهذه كانت وظيفة الثياب الكثيرة: لإمكانية التخفيف من شدة ضربات العصي والهراوات والخراطيم وكل ما يمكن الضرب به.اما المرحلة الثانية: من رحلة الذهاب الى الفرن فهي المرحلة الاكثر طولا ومأساوية. وهي المرحلة التي تبدأ بدخول الفرن حيث انك عند الدخول إلى ساحة الفرن ترى الالآف من الأشخاص يقفون في صف وما يقارب المئات واحيانا العشرات يقفون هنا وهناك فيملؤون ساحة الفرن الكبيرة التي تصلح لان تكون ملعبا واسعا.فتتجه نحو الصف ويدك على قلبك وتسأل نفسك, كم يا ترى من الوقت سأظل هنا؟ هل سييسر الله امري واحصل على الخبز قبل ستة او سبع ساعات؟. وتبدأ القصة المريعة عند وصولك ودخولك الى الصف, فتقف للحظات لتلتقط انفاسك وتبدأ بالنظر الى وجوه الناس من حولك فترى فيها من البؤس والشقاء مالا تراه في أي مكان, ويكون المكان اشبه بخيمة عزاء كبيرة نسبة الى هذه الملامح المخيفة المخنوقة الشبه ميتة على وجوه الناس.وهكذا تبدأ بالاختلاط بالناس في الصف فتلاحظ وكأنك في خلطة (( كوكتيل )) من الندوات, فمنها السياسية ومنها الاقتصادية ومنها الاجتماعية ومنها الثقافية. ولكن الاكثر مأساوية من بين هذه المواضيع هي المواضيع الاقتصادية والمعيشية, اذ تبدا بمشكلة المحروقات فيتكلم المتكلم مهما كانت مهنته ومهما كان عمله بحسرة وبشوق عن (المازوت) فيتذكر أيام التدفئة على هذه المادة واستعمالاتها وترى الدموع وقد تكاثرت في عيونه.ويتكلم آخر عن (جرة الغاز) التي اصبحت حلما وخيالا وتبقى ما تبقى منها في الذكريات.ويتكلم ثالث عن مادة (البنزين), ((البنزين وما ادراك ما البنزين)), حيث يساوي اللتر الصافي منه اليوم وزنه ذهباً فترى المتكلم وهو يتكلم عن الماضي يتكلم عن شكل البنزين ولونه ورائحته التي اصبحت اجمل عطر يستنشقه المرء في مدينتنا.ويتكلم رابع عن الكهرباء التي من كثرة وطول غيابها عن منازلنا لم تعد اعيننا تستطيع تحمل أي ضوء اقوى من الظلام, فأصبحنا عندما نرى أي ضوء تبقى شبكية اعيننا في حالة هيجان لمدة ساعات واحياناً ايام .وفجأة سمعت صوت طفل من بين الجموع فنظرت من حولي ورأيت طفلا واقفا بيننا يستمع الى الحديث فتتفتح جروحه بتذكر ايام الدراسة على الضوء وأيام التفرج على التلفزيون وايام التدفئة من خلال المدافئ وبدأ بالبكاء وقال, أتتذكرون؟ نقول ماذا؟ فيرد أتتذكرون ذلك الصوت الجميل الشجي العذب الذي كان ينادي في حارتنا ((مازوت ... مازوت)), ((غاز ... غاز)), فنظر الجموع الى بعضهم بتعجب و بحسرة واعينهم تدمع من لوعة الشوق والحنين الى ذلك الصوت.وهكذا وبعد كل هذه الاحداث تكون قد مرت ساعة ولازلنا واقفين في مكاننا لم نتحرك شبرا نحو شباك الشراء, فيبدا الفصل الثاني الا وهو فصل رجال الامن والشرطة, وتكون بداية هذا الفصل بقيام الناس بملء الساحة فيبدأ رجال الامن والشرطة بإرجاعهم وابعادهم عن مركز الساحة ولكن هذه الناس من شوقها لذلك الخبز وشوقها للوصول الى ذلك الشباك لا تعرف الرجوع فكلما ارجعهم الأمن متراً تقدموا مترين وهنا يبلغ السيل الزبى فيبدا رجال الامن بالشتم والضرب ودفع الناس بالقوى الى الوراء ولكن لا رجوع, وتمر عدة ثواني وتبدا بسماع اصوات اطلاق الرصاص من فوق رؤوس الناس وهنا تحدث حالتان ((أي عند الضرب واطلاق الرصاص ))الحالة الاولى: وهي حالة الواقفين الصامدين الذين لا يتراجعون من وسط الساحة فترى منهم من يهرب مبتعدا وترى منهم من يتراجع ويبتعد نحو الخلف.والحالة الثانية: هي حالة الناس الواقفين في الصف فتسمع منهم اصواتا تنادي وتقول: ((هلأ بقى رح يمشي الدور)), ((هه باين الله رح يفرجا)), ((يلا يا شباب كلا كم ساعة ورح ناخد الخبز)). وهي جمل تدل على الفرحة والسرور والطمأنينة والتفاؤل. ولكن يلاحظ في حالة الانسان الطبيعي عند رؤيته لمظاهر الضرب واطلاق الرصاص والشتم, اما يخاف و يهرب او يتضايق ويستنكر ويصبح في حالة غضب وألم لرؤيته لهذه الناظر, هذا في حالة الانسان الطبيعي, اما في حالتنا فترانا نفرح ونتفاءل ويزداد صمودنا وبقاؤنا.وبعد مرور حوالي الثلاث ساعات والطقس صقيع ترى الناس بدأوا بالرجفان والقفز والجلوس والرقص. وترى من يحاول ان يحرق أي شيء ليشعل نارا يدفئ بها عظامه فيبدأ بجمع أي شيء يمكن حرقه (كغصن الشجرة مثلا), فاذا وفقه الله واشعلت النار ترى الناس اصبحت بالمئات تتجمع حول هذه النار وهي حتى لا تسمى ناراً في هذا البرد بل شبه نار, وترى الشيوخ والشباب والاطفال كلٌ منهم يتمنى ان يحصل على ولو حتى ذرة من دفء هذه النار.وما يميز الصف انك ترى اناس من جميع المناطق سواء من داخل المدينة او من خارجها وتتعرف على اناس لم تكن لتراهم في حياتك كلها لولا هذا الصف, فيصبح القول الشهير ((ان الانترنيت جعل العالم قرية صغيرة)) الى ((ان الفرن جعل قامشلو بل سوريا قرية صغيرة)) . وهكذا ومن خلال التعرف على اناس جدد والتحدث اليهم تمضي ساعات آخرى ونحن واقفون على اقدامنا نتأمل ان نحصل على الخبز قريبا.وهنالك قسم آخر في هذا الفرن وهو قسم المستغلين ((البياعين)) الذين يقومون باقتحام الصف وافتعال الازمة ليقوموا ببيع الخبز بشكل منفصل بخمسة اضعاف سعره. وهذه الفئة ترتكز على اناس معينين ويغلب عليهم من هم الأكثر فقراً وتشرداً المجتمع.وهذه الفئة تكون الفئة الاكثر التي ترى مشاهد الرعب تنطبق عليها, فأحيانا يقوم احدهم باقتحام الصف وبطريقة او بأخرى يدري رجال الامن بذلك فيقومون بإخراجه وهو يقاوم وهنا تبدأ الدراما, فينهالون عليه بالضرب بالعصي والخراطيم والهراوات وكل ما يمكن الضرب به وترى الايدي والارجل تعمل عمل المطرقة على المسمار فترى ضربة من هنا وركلة من هناك وكفاً من هنا ولكمة من هناك ويصبح المشهد كالأفلام الهندية لا تعرف ماذا يحدث بالضبط, ولكن ليست هذه الفئة فقط من تعامل هذه المعاملة حيث كل الفئات الموجودة في الفرن تعامل بهذه المعاملة, وهذا يعني ان الكل معرضون لان يذوقوا ما ذاقه الناس من قبلنا.وهناك فئة اخرى ايضا وهي فئة النساء وتقسم هذه الفئة الى قسمين رئيسيين:القسم الاول: النساء اللواتي لاحول لهن ولاقوه حيث لا يوجد احد لهم في الدنيا ليأتي عوضا عنهن فيجبرن على المجيء.القسم الثاني: وهن فئة النساء المرتبطين بالمستغلين ((البياعين – وغير البياعين)), حيث هناك فئة تستغل حصول النساء على الخبز بشكل اسرع من الرجال فيقومون بإحضار نسائهم لعل وعسى ان يحصلوا على الخبز بدون اللجوء الى الصف.ولكن المؤلم في وجود هذين القسمين ليس فقط بقاء النساء في الفرن حتى منتصف الليل معرضين للبرد القارس بل اجبار الاطفال الصغار ولاسيما البنات منهم على الحضور للوقوف في الصف لكي يحصلوا على كمية اكبر من الخبز, وهنا تكون الطامة الكبرى وهي وقوف الاطفال في البرد القارس في منتصف الليل واهمال المدرسة والكتب تلبية لنداء الحصول على الخبز.والمرحلة الاخيرة في رحلة الفرن الشاقة والمؤلمة والمأساوية هي مرحلة الوصول الى الخبز, فتلاحظ عند اقتراب أي مجموعة من الشباك تصبح الدقائق ساعات بالنسبة لهم ويصبحون كالمجانين لا يستطيعون السيطرة على انفسهم فتسمعهم ينادون ((بسرعة مشي الدور)), ((ابو خرمه مشي الدور" ابو خرمه: موظف بيع الخبز في الفرن")), ((عجل رح نموت من البرد)), وصيحات آخرى لاتعد ولا تحصى كلها تدعوا الى العجلة والاسراع والتمني بالوصول الى الخبز قريبا.وخلال وقوفنا في انتظار ساعة الصفر لاحظت شرطيا من الشرطة الذين اتوا لينظموا الصفوف ويقيموا النظام وهذا الشرطي تدافع ما بين الناس وكأنه في حالة اشتباك عسكري او حالة حرب, ويخرج وبيده رغيفين يحتضنهما ويسير بهما الى السيارة ويجلس في السيارة, وبدأ بأكل الرغيفين وكل الناس ينظرون اليه فتسمع من يحسده ومن يتمنى ان يكون بدلا منه, هذا الشرطي الذي يلتهم الرغيفين وكانه ينتقم منهما فتراه يأكل بطريقة جنونية حتى اني والله لا اسمي طريقته اكلاً, وهذه الناس تقول ((أي ليش لا...كول ياعمي مين قدك)), ((ايه ... الله يعطينا متل ما عطاك)) ...... الخ.وهكذا اقتربنا من الشباك وبدأت ارى من يحصل على الخبز ويمشي مزدهياً وهو يحتضن اكياس الارغفة وتعلو ابتسامة على وجهه وكأنه قد عثر على كنز مدفون, أو فاز بكأس العالم, وترى الناس تهنئه من هنا ومن هناك وهو يرد ((عقبال عندكون)) ويتمنى لهم ان يحصلوا على الخبز كما فعل هو. واخيرا اصل الى ذاك الشباك المبارك الميمون فأشتري الخبز وامشي عائدا الى منزلي, وانا الاحظ عيون الناس تراقبني امشي وفي يدي اكياس الخبز هذا الكنز الثمين الذي لا يقدر بثمن وتراودني اغنية الفنان المشهور "مارسيل خليفة" ((منتصب القامة امشي... مرفوع الهامة امشي ... في كفي ربطة خبز وعلى كتفي نعشي)). وهنا تبدأ رحلة العودة الى المنزل اذ بعد مرور ساعات طوال وقوفا بانتظار ارغفة الخبز يتأخر الوقت وتتعدى الساعة منتصف الليل, فأعود في شوارع مظلمة ((وعلى كتفي نعشي)) والتي اصبحت في الآونة الاخيرة مملوءة بالمجرمين واللصوص وقطاع الطرق وشذاذ الافاق, واخيرا اصل الى البيت بعد رؤية الويل والاحساس بالاسى والشعور بالألم الذي يأكل من فؤادي ومن روحي قطعا حزنا على واقع كهذا في مدينتي التي اعشقها وعلى شعبي الذي افديه بكياني.و هاهنا يأتي الفرق بيننا وبن شعوب العالم الأخرى حيث أنهم يفكرون في بناء مدن افلاطونية وطوباوية مثالية خالية من كل نقص. بينما نحن نحلم بغد نعامل فيه كبشر ينتمون الى القرن الواحد والعشرين في الالفية الثالثة.
|
440.
مواضيع جديدة في موقعنا الجديد اضغط هنا
|
|
|