تحرير دمشق وحلب سينهي ويحسم الصراع ويحرر سوريا ... وهذا الهدف الكبير ترخص في سبيله التضحيات البشرية والمادية مهما عظمت , سيما وأنه قد تفشل الثورة إذا لم تحسم المواجهة بالقوة المسلحة من الداخل أو من الخارج .
محاولات الثوار تحرير المدن السورية : بين المؤيدين والمنتقدين
بقلم : محمد خليفة
لكل معركة أو حرب منطقها الخاص وقانونها الذي يفرض نفسه على ما عداه , حتى ولو كان هذا قواعد ومفاهيم عالمية متفق عليها علميا واستخلصت من حروب أخرى أكبر وأهم , فالخصوصيات أحيانا تفرض نفسها على العموميات وتتفوق عليها .
الثورة السورية , هي مثال على ذلك , فلا أحكام الثورة التونسية انطبقت عليها ولا المصرية ولا اليمنية , وخاصة مبدأي السلمية والمدنية , إذ استحال على الشعب السوري الحفاظ على سلمية ثورته ومدنية احتجاجاته وتظاهراته , وفرض عليه القتال فرضا , واضطر لحمل السلاح للدفاع عن نفسه في وجه نظام فاق بوحشيته المغول والتتار والصليبيين والنازيين والصهاينة ..إلخ
الجيش السوري الحر حالة استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة وظاهرة خاصة من ظواهر الثورة السورية , نشأ من صميم الحاجة , ولم يخطط له أحد , وظهر ونما بطريقة لم يكن احد يتصورها أو يتوقعها . كان من الطبيعي أن يتمرد بعض العسكريين على قرارات السلطة ويرفضوا اطلاق النار على مواطنيهم , وكان من الطبيعي ايضا أن يحموا أنفسهم من ملاحقة قوات السلطة لقتلهم , ثم كان من الطبيعي ايضا أن يتعاون هؤلاء العسكريون مع بعضهم لأن المصائب تجمعن المصابين كما يقول احد الشعراء , ومع استفحال بطش السلطة بالمدنيين وتنامي عدد المنشقين عن الجيش صار طبيعيا أن يحاول العسكريون المنشقون التطوع لحماية أهليهم ومواطنيهم من وحشية قوات الامن والشبيحة أثناء تظاهراتهم , ثم تطور المسعى الى مأسسة ظاهرتهم التلقائية فولدت فكرة بناء حيش عسكري بديل عن جيش الاسد , ومع تفاقم الأحوال الأمنية في البلد واصرار بشار الاسد وعصاباته على ارتكاب المجازر وتدمير البلد بطريقة منهجية منظمة ,
صار من الحتمي العمل على التسلح وزيادة أعداد المسلحين من المتطوعين المدنيين , وهكذا صار لقانون القتل الواسع الذي شرعه النظام وطبقة ميكانيزم خاص يتطور على ايقاع السلوك الاسدي الوحشي الدموي , وصار الجيش السوري الحر قوة ضخمة يحسب لها حساب وتضم أكثر من مائة ألف مقاتل . وصار مرادفا ورديفا لكل من المعارضة السورية السياسية أولا والثوار المدنيين المطالبين بالحرية والديمقراطية ثانيا . وبعد أن فشل العالم كله بإيجاد حلول سياسية توقف العنف والقتل , وتصون السلم والاستقرار الاقليميين , من ناحية , و عجز العالم عن التدخل العسكري المباشر , من ناحية ثانية أصبح الجيش الحر هو الرهان الوحيد , وتطوعت بعض الاطراف بمده بالسلاح تعويضا عن تقاعسها وفشلها .
الجيش الحر لا هو جيش تقليدي ولا هو ثوار , هو صيغة من هذا وذاك , ويخوض قتاله مع جيش النظام الاسدي بأسوب تختلط فيه الحرب النظامية أحيانا وحرب العصابات أحيانا أخرى ففي الرستن وحمص وحوران ومناطق ريف ادلب اتبع اسلوب ( اضرب واهرب ) لاستنزاف القوات النظامية وايقاع الخسائر وتعميق أزماتها ودفعها للهرب أو ردعها عن الاستمرار في جرائمها بحق المواطنين المدنيين , وفي الاونة الأخيرة بدأ يسعى لتحرير المدن والسيطرة عليها وتحريرها من قوات النظام نهائيا واعلانها مناطق محررة , لكن النظام رد على هذا المنحى بمضاعفة القتل والعنف , وأعطى نفسه حق استعمال الطيران في قصف المدن والمناطق المتمردة على سلطته وسلطة الدولة لإخضاعها وإسترجاعها من الثوار . وكان بشار الاسد منذ الاسابيع الأولى للثورة حدد المحرمات المطلقة لأركان نظامه الأمني عسكريين واستخبارات .. وهي :
1 - منع الاعتصامات الضخمة في مراكز المدن على طريقة ميدان التحرير المصري , ولهذا تعامل بأقصى قدر من العنف مع محاولات التجمع والاعتصام التي حدثت في الشهور الأولى من الثورة في ساحة الساعة بحمص , والمسجد العمري في درعا وساحة العباسيين بدمشق وساحة العاصي بحماة .
2 - منع السيطرة على مدينة أو أكثر وتحويلها منطقة محررة على طريقة بنيغازي في ليبيا . ولذلك أفرط في استخدام القوة النارية للقضاء على ثلاث محاولات من هذا النوع في درعا وادلب ودير الزور , والمدن الثلاث حدودية .
3 - منع الدول الاجنبية من فرض حظر جوي ومناطق أمنة للثوار والمحتجين والمقاتلين , على غرار ما كان قائما في العراق قبل الاحتلال الأمريكي , ولذلك اسقطت قوات الاسد الطائرة التركية في حزيران / يونيو , ثم كشف عن امتلاكه للسلاح الكيميائي وتهديده باستعماله في حال حدوث اي تدخل خارجي .
والواقع أن قوات النظام نجحت حتى الان في درء هذه المحرمات الثلاثة وأفشلت كل المحاولات التي قام بها الثوار استيحاءها من ثورتي مصر واليمن , أو الثورة الليبية أو التجربة العراقية سابقا . ولكن تطور الصراع في الفترة الأخيرة وتحوله الى حرب عسكرية حقيقية بين الجيش الحر وجيش النظام أعاد طرح خيار تحرير المدن وتطهيرها من أثار السلطة , وتوحي المؤشرات البيانية والعيانية معا على أن استراتيجية الجيش الحر اصبحت تركز الان على هذا الهدف . وتبين خريطة الاحداث على أن الجيش الحر خطط وسعى لتحرير دمشق نفسها وبدأ محاولات جادة وميدانية اعتبارا من مطلع تموز / يوليو تحت اسم محمل بالمعاني ( فتح دمشق ) حيث استطاع تحرير حي الميدان في قلب العاصمة والسيطرة عليه , لكن رد فعل النظام جاء أعلى من كل الحسابات فاضطر الثوار للانسحاب وترك الحي حقنا للدماء , كما قال البيان الصادر عنه , والامر نفسه سبق أن حدث في الزبداني في ريف دمشق وفي دوما أيضا وفي كل هذه المناطق انتهت المحاولات بحمامات دم مروعة واضطرار المقاتلين لإخلاء مواقعهم وعودة الاحتلال الاسدي للانتقام من جميع المدنيين , على نحو ما حدث في المعضمية يومي السبت والاحد الماضيين .
ومع انطلاق معركة فتح حلب أ, تحريرها فتح الأمر للنقاش العام بين الخبراء العسكريين وبين السياسيين , من منظور جدوى هذه العمليات وتكلفتها الباهظة العالية جدا , خصوصا وأن الدول الغربية نفسها حذرت من ارتكاب النظام لمذابح تفوق كل ما ارتكبه حتى الان نتيجة ضخامة حلب وكثافتها السكانية ( أكثر من ثلاثة ملايين داخل المدينة نفسها ) ونتيجة توقع برد فعل شرس من جانب النظام للحفاظ على ثاني أهم المدن السورية والتي تشكل قاعدته الاقتصادية الأولى , واحتمال استعماله لسلاح الطيران الحربي والاسلحة الثقيلة ضد المدينة مما سيوقع قتلى واصابات قد تبلغ عشرات الالوف في حال اصرار الثوار على التمترس فيها والدفاع عنها . والحقيقة أن النتيجة واحدة في كلا الحالين , حالة تمكن الثوار من تحرير المدينة , أو تمكن النظام من اجتياحها ثانية لطرد المقاتلين الثوار منها , ففي الحالتين ستكون العمليات العسكرية كارثة انسانية كبرى على المدنيين من سكان المدينة .
ونظرا لأهمية المدينة يتوقع في معركة السيطرة عليها من الجانبين تجاوز كل المعايير السابقة التي شهدناها في معارك المحافظات الاخرى بما فيها درعا ودير الزور وادلب ودمشق فضلا عن حماة وحمص , وخاصة النظام , إذ بات معروفا أن روسيا حظرت على الاسد استخدام الطيران الحربي ( الروسي الصنع ) ضد المدنيين حتى اليوم , لأن موسكو تعلم أكثر من بشار الاسد ما سيكون رد فعل العالم على مثل هذا السلوك , إذ يرجح أن يحمل الدول الكبرى على التدخل فورا ومباشرة في الصراع وتأديب النظام مع ما ستتحمله روسيا من مسؤولية ادبية واخلاقية عن الجريمة . ورغم التزام الاسد بهذا الحظر الروسي فإنه لا شيء يضمن أن يستمر عليه اذا فقد حلب . ومن البدهي أن استعمال الميغ والسوخوي ضد حلب قد ينجم عنه مذبحة لا سابق لها في سوريا .
يقول انصار نظرية الاستمر في الثورة وانهاك النظام تدريجيا ,أن حلب في الشهور الأخيرة كانت فعليا في قبضة الثوار ولم تعد قوات السلطة تستطيع البطش والقتل كعادتها في السابق , وهذا يكفي لإنهاك النظام واستنزافه وتحطيم قواه الامنية بوسائل سلمية أو محدودة العنف , بينما يقول المقاتلون والجيش الحر أن استمرار الثورة على الرتم السابق فيه انهاك ايضا للمجتمع والثوار والاقتصاد , ولا بد من تطوير ادوات ووسائل النضال لحسم المعركة في أقرب الأجال وتقليص فترة المخاض والجراحة والألام على الجميع .
بل إن البعض من الفريق الأول يرى أن العسكر الثوري يعلم سلفا كلفة العملية انسانيا ويعلم ان النظام قد يستعمل الطيران الحربي ولو ادى لمجازر كبيرة ومع ذلك فهو يؤيد هذا الخيار لأن فيه استجرارا للنظام لتجاوز المحرمات الدولية وإجبار العالم على التدخل ضده باعتباره الخيار الحتمي والأخير أمام الثوار للتخلص من النظام الذي لن تجدي معه الوسائل البسيطة والخفيفة لإسقاطه لأنه مدجج بالأسلحة , ويتمتع بمدد لا ينقطع من الخارج , ويستند الى قاعدة طائفية راسخة حتى الان .
ويرى أنصار الجيش الحر وتحرير المدن إن معركة تحرير حلب ستكون مقدمة طبيعية لتحرير دمشق , مما يؤدي لحسم المعركة التي طال أمدها ويخشى من تبعاتها على وحدة البلاد إذا طالت أكثر . ويضيفون أن تحرير دمشق وحلب سينهي ويحسم الصراع ويحرر سوريا ... وهذا الهدف الكبير ترخص في سبيله التضحيات البشرية والمادية مهما عظمت , سيما وأنه قد تفشل الثورة إذا لم تحسم المواجهة بالقوة المسلحة من الداخل أو من الخارج .
وجهتا النظر .. مطروحتان للنقاش حاليا بين أهل الخبرة وأهل الرأي وأهل الثورة , ولكل منهما عناصر قوة وجذب وعناصر ضعف وشك برجاحته .
والايام القادمة سترجح الكفة لهذا الجانب أو ذاك .
ولكن المؤكد والأمر اليقيني الوحيد بين الحميع هو أن فتح حلب إذا تحقق سيعقبه حتما فتح دمشق , والتخلص من الاسد ومن نظامه الذي سيصنف في التاريخ السياسي والعسكري على أنه الأعتى والأكثر همجية وبربرية في هذا العصر بلا أي منافس لا في شرق أسيا ولا في أمريكا اللاتينية ولا في أفريقيا والثلاث كانت مواطن لمثل هذه الأنظمة البشعة ثم انتهت ولم يعد لها أثر ... سوى في سوريا , ويتوقع أن تصبح ذكرى من الماضي البعيد للإنسانية ذلها بعد سقوط الأسد !!