زينة العلي في الجزء الثالث من مقابر الشوك
الجمعة 29 حزيران / يونيو 2012, 20:53
كورداونلاين

أمٌ إذا جاع ابنها شيئاً تطعمه رفات قلبها الباكي ، وإن يحزن تراها تنوح الدهر حزناً في عواطفها ، تشكو طوال العمر ضياع عقلها المنكوب في تلبدات وجهه الآسي
على الطرف الآخر من الحدود الغاضبة حيث أنين أسوارها الملبدة بالمآسي ، يهفو ترابها يوماً يختلط بالتراب خلف السياج . تجلس الخالة عيشة عند مفترقِ طرقٍ على قطعة مربعة نبت فيه العشب الأخضر بعد خلع المدينة الثوب الأبيض عن أكتافها المُرهَقة . تقتلع الحشيش خيطاً خيطا.. ثم تعود لتسقي مكانها من دمعها العَطِش فترتوي الأرض .. فتنبت شوقاً حشيشاً جديدا...ولا تزال الخالة عيشة تجلس هناك باكية تنوح الفراق .. وتسرح في بعيد قريبٍ ما أَلِفَ تصديقه عاقلٌ ومجّ تصديقه حتى المجنون !
بحياءٍ أشبهَ بالثوب الخَرِقِ عن جسد العالم ، ودماءٍ عَرّت عن الكونِ غطاء نفاقها و كذبها ، مزَّقت المدينة أثواب الكرامة الزائفة عن قُبْحِ الواقع وفاحشة الكون حين احتضنت جزَّاريها و وحوشها في صدر الأمة الدافئ ، حتى لم يجد بعدها الأبرياء سوى برد ٍ قارص يتجرعون لفحاته كل لحظة .. يتضرج بجوع الفقراء و جهل العامة و عجز الشباب ، وضعف القوة ، وقلة الحيلة تكسو كل ذلك أفواهٌ مكممة حديثها في الغالب كفر بواح يزوي بالخارج عن هذه الأحجية الماجنة إلى مصائر مجهولة ... خلف الشمس !.
ذات صباحٍ مودعٍ لشتاء ٍ بارد ، رهام خفيف يداعب العصافير المشتاقة لأحضان الربيع ، وشمسها الباكرة تغني ألف حكاية وحكاية على صفحات سماء درعا تبثها عبر الأثير غرة الحرية .. معزوفة التغيير !
نسيمه يتراقص على وجوه الأطفال البريئة عبر نوافذهم الصبيانية المطلة على قَدَرٍ ليس ببعيد يُزجي إليهم خيوطه العنكبوتية ليربطهم في مجاله الضيق .. وما يدري المستقبل أي صبية هم ، إنه لا يرى أبعد من موضع الأنف عن عين مرتزق ، إنهم عنده وعند المألوف من العقول الصدئة مجرد أطفال ...
تسابق الفتية لاستقبال يومهم المنشود بلهفة المشتاق إلى محبوبه و لوعة العاشق لمعشوقه تضطرب دقات قلوبهم خوفاً من الإقدام و تنوح في أحشائهم مخاوف اللقاء و الآثار ، وعلى غير العادة يَثِبون عن فُرُشهم وأسرّتهم ..كفراشات البستان تحوم حول زهورها .. يحومون حول أمهاتهم .. ويالقلوب تلك الأمهات ، إن الواحدة منهن تفدي كبدها بالكبد و بالقلب وبالعين .. تطرح فؤادها وحياتها بين يدي القدر ليحمي طفلها من سجلاته وتدابيره الخفية .
أمٌ إذا قال ابنها آهٍ على وجعٍ و إن كان تدللا و سماجةً ، ترى شُرقةَ الشمسِ في عينيها سوادَ نهارها . يحار في مقلتيها النور هل يسطع أم يخجل ، تتوسل الأهداب رحماك رحماكِ ، ويشكو الجفن سهراً لا تبارحه ..
أمٌ إذا جاع ابنها شيئاً تطعمه رفات قلبها الباكي ، وإن يحزن تراها تنوح الدهر حزناً في عواطفها ، تشكو طوال العمر ضياع عقلها المنكوب في تلبدات وجهه الآسي .
أمٌ إذا غاب الضنين تاهت على وجهها ، لا تدري أمن فزع عليه .. أم من شوقها الجارف السيّال ...
تَمَرَّغَ الفتية الأشقياء في أحضان أمهاتهم على غير العادة ، يقبلون أيديهن ورؤوسهن ، إنهم مقبلون على مغامرةٍ تحتاج رضاها القابع في كفِّ الضراعةِ .. .. دعاءَها !
رغم كل التوقعات والاحتياطات والحرص والتكتم ..لم يكن يدور بخلد غرٍّ بعمرهم ، كل همّه تقليد و تقمص وفضولٌ .. أنّ نيةً هوجاء امتطوها في حماستهم .. ستكون غداً أعلى و أعتى صهوةً يعتليها الوطن !