زينة العلي في الجزء الثاني من روايتها مقابر الشوك
الإربعاء 27 حزيران / يونيو 2012, 14:23
كورداونلاين
ساد الصمت ثانية ليغرق كل منهما في مشاهد جمّدت الدماء في عروقهما و قتلت فيهما كل نبض يدعو إلى الحياة ، لتتجلد حنان سائلة إياه بصوت متقطع :
- أتظنه استشهد ؟ هل مات
مقابر الشوك -2-
كان فرحها الموعود وشيكاً ، حرثت بكدّ مع خطيبها أرض الزفاف فلم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا جعلت له من الحرص موضعاً
صالة فاخرة تُذهل الناظر فتتسع بوسعها الأعين تنتشر فيها الموائد المحفوفة بكراسٍ تحار فيها أَكُلُّ واحدةٍ منها العروس ؟! ملبّسة بأبيض حريريٍ يعصبها من الأعلى شريط أزرق برّاق مربوطة على طرفه بـ فيونكا ناعمة تجعل الجالس يشعر بقيمته و وزنه !
أما الموائد فكانت تتربع على طاولات دائرية كبيرة الحجم ملبسة بذات الحرير الذي لف أجساد الكراسي .. ترتفع فوقها مزهريات تشف عن سيقان الورود الزهرية تجعل الكئيب في غمرة السعادة والسرور.
بسقف الصالة ثريات فخمة طولية تتدلى بغنج يخجل المرء النظر إليها تأخذ الأضواء فيها بالألباب . وأضواء أخرى تصطف على ضفتي السجاد الأخضر الموصول من باب القاعة إلى مجلس العروس ...و هنا تضيع الدنيا لتسبح في خيال الأناقة و الجمال .
على مرتفع أشبه بمنصة المسرح يكسوه فرو وردي اللون وستائر زرقاء فاتحة كلون السماء تتهدل على خلفية المنصة تتلوى في أشكال مختلفة من شيفون ناعم تختلط مع قوس الورود الممتد فوق أريكة العروس ...وأما العروس فلا تسأل ، المشايخ بالرُّقية يباركون ماءً تشربه على يد أمها و أم عريسها كي تحفظها من شرارة العين و الحاسدين !
حضرت فستانها المرصع بالكرستال يعكس ضوء الثريات فيحتارون في مصدر الضوء واللمعان ...
كانت حنان لتغار منها شهريار في ليالي العرب القديمة ..
تلقاها حازم إلى صدره يجرفه الأسى إلى دموع يكظمها في حنجرته بستار مزعوم تلوّنه الرجولة مكتفياً بسيل عينيها ، مد ذراعه الثقيلة بعضلاتٍ مفتولة قضى عمراً في تنميتها ! ليخيم بحرص ظهرها المحدودب إذ دفنت رأسها المعصوب بآمالٍ قُصفت و أحلام نُحرت فوق أوراق الشجر هناك حيث الوطن .. أطرقته بكفيها القطنيتين الصغيرتين وتلقت الأرض الغريبة عنها تبثها ذكرى لن تُطفئ حُرقتها الأيام .
بصمت مخيف و نظرات بائسة ربت على كتفها لكن الساعد المبتور إلى المرفق حال دون مقصده ، فأطرق بدوره يخوض ذكريات كانت بالأمس القريب مأساة أهله و حيّه ، مسح دمعها الساخن بنهاية ذراعه المحدّب كطرف إصبع شاء القدر أن يكون الإصبع الوحيد والأكبر لديه في جانبه الأيمن .
ارتبكت حنان لما رأت وجومه وخفقانه المضطرب ، قرأته هماً يضمّها إلى آلامه ، شعرت بمسؤوليته تجاهها جبلاً خارت لها قواه و تشتت احتماله .. تلكأت قليلاً قبل أن تتحسس موضع القصف الذي نال من يده ..طوت حزنها في سجل قلبها لتسأله :
ساد الصمت ثانية ليغرق كل منهما في مشاهد جمّدت الدماء في عروقهما و قتلت فيهما كل نبض يدعو إلى الحياة ، لتتجلد حنان سائلة إياه بصوت متقطع :
- أتظنه استشهد ؟ هل مات ؟
حدّق في عينيها المشتعلة كالنار محتاراً في بلسم يقدمه بين يدي براءتها و الطيبة في قلبها ، إنها لا تستحق إلا البسمةَ تزين محياها و البهجةَ تملأ القلب الغض :
إلا أن سلطان جلاد الفراق تمكن منهما فـغابا في منظر فراس وهو سابح في دمائه الطاهرة مقطع الرجلين ، شردا بعيداً في سواد الليل المخيم خلف الحدود .. لم يكن أبداً ليلاً كليلنا .. بل سواد الدخان المتصاعد من جثامين الشهداء تحترق لتعيد خصوبة الأرض لجيل واعد قريب .
غرقا في دموع العجز وأخذا يدندنان معاً بصوت متهدج مجهش ٍ بالبكاء أغنية العشق الأوحد ....
موطني موطني .. موطني يا أنا