تعرضنا على مدى التاريخ وحتى يومنا هذا إلي الاحتلال من قبل حكومات ديكتاتورية عنصرية شوفينية، الأمر الذي أضاع الحريات، وأشاع الخوف، والرهبة من التعبير عن الآراء
لقد أصبح الحوار من أكثر المفاهيم إلحاحاً في الساحات الفكرية، الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية، من خلال ارتباطه الوثيق بجملة من الإشكالات المتعلقة بموضوعات الهوية الثقافية، والسياسات الثقافية، والعولمة الثقافية، وارتباط الثقافات بالأديان أو العقائد.
ويمكننا اعتبار الحوار شقيقاً للديالكتيك، لأنه يجعل ما انقلب من تعارض إلى جدل ينتج حقيقة جديدة ليست لأي من المتحاورين، بل لهم جميعاً، ولذلك ازدادت الحاجة إلى ثقافة الحوار بين وجهات النظر المختلفة، خاصة وأننا نعيش الآن في عصر العولمة، عصر سرعة تدفق الخدمات والأفكار والبشر بين الدول بغير حدود ولا قيود، وهذه المتغيرات الحالية تبين ضعف الأفراد، وبالتالي المجتمعات، في ما يتعلق بالسيطرة على الدوافع في بيئتها ومحيطها المحلي، وتتفاقم هذه المخاطر بالانتشار إلى المحيط الخارجي.
إذاً، نحن في حاجة إلى نظام جديد في الحوار، يعيد المعنى والانسجام بين المكونات المختلفة لمجتمعنا، ويفتح الأمل في غد أفضل لنا عندما تصبح ثقافة الحوار في ضمير كل مثقف، يمتلك رؤية متكاملة ومتماسكة، تستجيب لاحتياجات الإنسان الأخلاقية والمادية والروحية، وتقي مجتمعنا من الأزمات المنتشرة والمفتعلة.
إن الخلافات الفكرية والثقافية الحالية محكوم عليها بالحوار، والتعايش أصبح ضرورياً لاستتباب الاستقرار والتقدم، وأن مطلب الحوار ليس ترفاً فكرياً زائداً، بل هو حاجة ضرورية لبناء مجتمع أكثر إنسانية وعدلاً واستقراراً، وعلينا تعلم كيفية تدبيرها، وإرساء تواصلها، وقد حان الوقت لإعادة مساءلة دور المثقفين في الساحتين المحلية والدولية، ليس باعتبارها سبيلاً للصراع، بل باعتبارها قوة استراتيجية إيجابية لبناء محاكمة اكثر إنسانية وتوازناً، فهي لا تقل أهمية عن مختلف الرهانات الجيو سياسية في تحديد معالم مستقبل أفضل لنا.
ولما كان المثقفون أكثر إيماناً بمبدأ الحوار، والانتقال من الثقافة الجماهيرية، ثقافة الكسل العقلي، والتكرار الببغاوي، والتنصل من الشأن العام، والبحث عن الخلاص الفردي- وهي ثقافة الدولة التسلطية- إلى نوع من ثقافة مدنية، أو ثقافة ديمقراطية تسمى بثقافة الحوار، تيمناً بالحالة الناشئة عندنا، فعليهم أن يكونوا السباقين إلى فتح أبواب الحوار، والشروع في نقد الواقع القائم بأدواتهم الخاصة، غير متناسين أن الحقيقة نسبية ومتغيرة على الدوام ينتجها البشر لأنفسهم، وفق شروط الزمان والمكان، ونمو المعرفة والعمل.
وباختصار، فإن العقل هو الذي يحاور، بحكم ماهيته، أي بحكم كونه عقل الواقع، وأي تعريف آخر للعقل يهدم مشروعية الحوار، ووفق هـذا التحديد يمكن القول بأنه للحوار ثلاثة أنواع:
1. الحوار مع الذات: يتطلب استقلال الوجدان، وطلب المعرفة، وكبح جماح الأنا، والشجاعة في مواجهة رغباتها ونزواتها وأوهامها وأباطيلها ورؤيتها لذاتها.
2. الحوار مع الآخر: يتطلب منا الاعتراف بأن الآخر هو أنا، وحقوقه وحريته ضمانة موضوعية لحقوقي وحريتي، فكل واحد منا هو أنا لذاته وآخر لغيره؛ ولا ذاتية بلا آخرية.
3. الحوار مع العالم: بما أن الواقع احتمالياً، وإمكانياً متغير باستمرار، فليس ثمة من يستطيع الإدعاء بتعرفه، والإحاطة به من جميع جوانبه، وفي جميع مستوياته.
إن المفاهيم الثلاثة السابقة هي أساس الثقافة، وأبرز مظاهر ثقافة الحوار، وما أحوجنا نحن الكورد إلى الحوار، متسلحين بثقافة الحوار الذي من خلاله نصل إلى بر الأمان، ولكن مع الأسف يفتقد الواقع الكوردي الذي نعيشه إلي هذا المفهوم الذي هو من أساسيات التقدم والتحضر والرقي، كما أنه من أسباب ومظاهر تقدم الشعوب، وتتجلى مظاهر هذا الغياب في مواقف شتى نعيشها يومياً، سواء كان ذلك على المستوى الشعبي أو الإقليمي الذي يكون الكورد طرفاً فيه، ولست بصدد ذكر أمثلة على ذلك، إذ أن الواقع ينطق بما يمكن أن يقوله الآلاف منا، ولكن ما أود أن أشير إليه هو الأسباب التي تؤدي بالفرد الكوردي إلي هذا الوضع، والأسباب عندي تتلخص في الآتي:
§ تعرضنا على مدى التاريخ وحتى يومنا هذا إلي الاحتلال من قبل حكومات ديكتاتورية عنصرية شوفينية، الأمر الذي أضاع الحريات، وأشاع الخوف، والرهبة من التعبير عن الآراء بحرية وشفافية، ذلك بالإضافة إلي تزوير إرادتنا، الأمر الذي ولد شعوراً بالإحباط لدى الغالبية العظمى من الكورد، فأصبحنا نلجأ إلي الممارسات القمعية في حالة الاختلاف بين بعضنا متأثرين في ذلك بالسياسات والأفعال الخاطئة للحكومات التي تحكمنا.
§ قلة عدد الكتب التي نقوم بطباعتها أو ترجمتها مقارنة بغيرنا، ولهذا تأثيره السلبي علينا...
§ غياب بعض المفاهيم الأساسية عن رجل الشارع الكوردي، حيث أن القراءة لديه هي مجرد هواية، رغم أن القراءة هي منهج حياة، وأداة للتواصل بين الأفراد والتيارات الفكرية المختلفة، وهذا يأتي من السياسات التي تمارس ضده، وتجعله يركض وراء تأمين لقمة العيش لأسرته، دون أن يكون لديه الوقت للتفكير في شيء آخر.
ويتبقى في النهاية كما قلت سابقاً، أن نأخذ الأمر بشيء من الجدية، وأن نواجه أنفسنا بأخطائنا، لنعلم من أين نبدأ؟، ثم ليتحمل كل فرد مسئولياته تجاه هذا الخطر، خطر الفرقة وسوء الاختلاف، ومحاولة الانتقال بالمجتمع الكوردي من ثقافة الاستهلاك المعرفي إلي ثقافة بناء المعرفة، ومن فكرة أن القراءة هواية إلي فكرة أن القراءة والنقد والتعليق منهج حياة.