ملت منه و من كلامه البديء الذي يبتدئ دائما و ينتهي بشتيمة لها ..لم
تعد تطيق سحنته المزرقة من الشمس و التبغ و الكحول..كيف قبلت الزواج به
اليوم ستكلمه..ستصرخ في وجهه..ستقول له أنها ملت من تصرفاته..من معاملته
لها و للاولاد، من خياناته السافرة و المتكررة...هو يمشي كالديك المنفوش في الحي و
هي تكنس بعينيها الارض خجلا...هو يخونها و هي تستحيي مكانه...
قيل
لها أنه يستغل غيابها ليستضيف بنات البارات الرخيصة، وأنه يوقظ الجيران بصرخات الشبق على فراشها الذي هجرته
منذ فترة ، لتنام على الارض بين صغارها الاربعة في الحجرة الضيقة، بالبراكة المتهالكة
في "كاريان بنمسيك" حي من عشرات أحياء الصفيح في المدينة الكبيرة..منذ ورثتها عن امها ،وهي
تنتظر شفاعة الختم "المخزني"..تنتظر بصبر المغلوبين شقة في حي من
المدن الجديدة التي تاكل البوادي و بيادرها، لتسكن أفواج النخبة المصطفاة من طوابير
لاجئيي الفقر...
ملت
منه و من كلامه البديء الذي يبتدئ دائما و ينتهي بشتيمة لها ..لم تعد تطق سحنته المزرقة من الشمس و التبغ و الكحول..كيف قبلت الزواج به ؟...عندما رأته أول مرة ، كان واقفا بجانب عجلة نارية هناك قرب بائع السجائر بالتقسيط..تبعها و
سألها عن عنوان ما..لم تجبه لأنها تعرف تلك
الأساليب جيدا...
لكنه
كان هناك في الغد ،و بعده.. إلى أن إنتزع منها إبتسامة ثم موعدا...بعد ثلاثة أشهر كانا
متزوجين و بعد شهرين أحست بغثيان أول حمل... بعد تسع سنوات كانت أما لأربعة صبيان..الأخير
كان "حادثة" سير، أو هذا ما تقول هي.. لكنها تعرف أن آخر حمل لم يكن كذلك..كانت
تأمل دائما أنه سيرجع لصوابه حين تثقله بالاولاد..و كان العكس هو ما وقع...هو يشتغل
يوما و يبطل أربعة،و هي تشتغل في مصنع الخياطة
ستة أيام، ناهيك على دوريات الليل ..تأتي باللقمة الى البيت ،ومع ذلك يطالبها بالمال عند كل أول شهرو بمواظبة...طبعا فراتبه البئيس
لا يكفيه ؛ الحانات وقحباته، ميزانية غير صغيرة... كانت دائما تردد نصيحة أمها " ظل
الرجل و لا ظل الحائط.." ...هي اليوم، بعد ما سمعت ما تتناقله الألسن في
المصنع عنه و عن مغامراته مع جارتها المطلقة، تفضل و بكل ترحيب ظل أي حائط...في ظله
وحيدة تتناول وجبتها في أسرع وقت، لترجع لآلة
الخياطة...لم تعد تختلط بالعاملات، ملت من التلميحات و الاسئلة الجارحة التي كانت تبتلعها
مع كل لقمة، سما بطعم العلقم...
ملت
من بيتها أيضا، بواجباته التي لا تنتهي ...ليس لها إلا يوم راحة، تقضي سواده في تنظف البراكة
التي تتحول الى زريبة كل آخر أسبوع...كانت
أنثى جميلة تعتني بشكلها..لا تخرج إلا بعد تفقد تفاصيل هندامها و مكياجها..
أما الآن فقد تحولت الى شبه أنثى ؛ حسب قول
زوجها..حتى المرآة الوحيدة التي كانت
تلمح فيها وجهها قبل أن تخرج مرة مرة، أصبحت
لا تعكس الا نصفه بعد أن كسرها الملعون ذات
عودة من الحانة...
بلغ
السيل الزبي، و لن تقبل منه أية إهانة بعد اليوم..تحس بقوة لا تدري من أين أتت ؟ قوة تدفعها دفعا، فتسرع الخطو نحو بيتها...في الليلة
التي كسر فيها المرآة ..نامت دون أن تتعشى..أما
هو، فقد أتى على طبق العدس الذي حضرته، و خرج يصفر نشوانا ،لا تدري الى أي حانة أو
أي ماخور...
الآن
و هي في حالتها هذه، تتساءل من أين كانت تأتي بالصبر؟ كيف كانت تستحمله و تبيت معه تحت سقف البراكة المهتريء
؟
موسيقى
الجاز الهادئة تنبعث من نافذة الفيلا الأنيقة
هناك في الطابق الأول...غرفة هذه أم صالون
؟..من الذي يستمع كل مساء في نفس الموعد، عند رجوعها من المصنع ، لهذه الموسيقى الساحرة..؟
نفس الاغنية...تعرف معنى بعض كلماتها ...كانت تلميذة مجتهدة و درست الى مستوى الباكالوريا،
و لولا وفاة أبيها و مرض أمها،لكانت ربما اليوم تحتل مكانا في وظيفة و لها زوج موظف
مثلها...معناها " قبلني أو خذني في احضانك "...أ هو وحيدا هناك..؟ ام هي
وحيدة..؟ أم أنهما حبيبان هناك مستلقيان على الأريكة المريحة ينعمان بالشمبانيا المعتقة
و القبل الساخنة...تتخيلها جالسة و هو نائم
و رأسه على فخدها...تبتسم للفكرة، لكن سرعان
ما تبتلع إبتسامتها ..لا وقت للحلم يجب أن تسرع
لتجده قبل أن يخرج، لتخبره أنها تريد
الطلاق ..الطلاق.. تريد الخلاص...
هو جالس
على الحصير المتآكل و كأس نبيذ أحمر في يده، القنينة على الطاولة في نصفها...تنظر إليه
بإشمئزاز.."أينهم الاولاد..؟"..أجابها
بتقزز :" لا اعرف أينهم.. يتسكعون أين تريدينهم أن يكونوا؟...تربيتك العرجاء
ههههههههه ...إذهبي..إنصرفي للمطبخ و حضري
لي السمك هناك من الصبح و رائحته أصبحت تشبه رائحة مؤخرتك...هيا .. هيا...أريده مقليا..!"..رمت حقيبتها بعصبية على الأرض و صرخت :"كيف لا
تعرف أينهم؟ منذ متى هم في الخارج..كيف لا تعرف ، أ لست أبوهم..؟ " ..ذوت قهقهته
في كل أرجاء جمجمتها... رمى برأسه الى الوراء
:" أووووهوه !..هذه أشياء علمها عندك وحدك، و عند الله..الأول أسمر، الثاني خمري
و الثالث أبيض و الرابع أصفر...ههههههه كل هذه
الألوان، لا يمكن أن تكون من إنتاجي وحدي هههههههه...!"...وهي تفتح أزرار
جلبابها كانت ترتعش و عيناها ترمي شرارا
:" أنا أشرف منك..و من أختك التي ما من حانة كريهة الا و تركت فيها بصمات مؤخرتها..."...نظر
إليها رافعا حاجبه الأيسر، شفط آخر جرعة من
كأسه و بصق في إتجاهها :" لم أعرف في حياتي الا العاهرات و أنت منهن ،و أسوؤهن
بإمتياز...هيا أغربي عن وجهي و حضري السمك..! " تقدمت نحوه خطوة و صرخت بصوت صارم : " إذهب للجحيم أنت و سمكك النتن ..إذهب لعشيقتك
الجديدة..هيا ، هي في إنتظارك .. بيننا "براكتين" فقط ..فإذهب عندها، بالله
عليك..أسكن عندها، عش معها الحب ..هي تناسبك.. و دعني و أولادي..لا نريد منك إلا الرحيل
….. طلقني ...طلقني.!!!.." الكلمتان الأخيرتان صرختهما في وجهه..لم تقترب منه هكذا من قبل و هي تصرخ هكذا..
كانت ترتعش و لكنها كانت تحس بقوة جبارة تدفعها ...عقد حاجبيه و وقف و نار الحقد مشتعلة
في عينيه...
هي على
الارض، من قوة اللكمة،و رجلاه ترفسان فيها
كعاصر للعنب..غير مبالية برأس، بطن أو أضلع.. ظنت أنها سمعت في أحشاءها صوت
شيء ينكسر..هو يسب و يلعن ، و الرذاذ يتطاير من فمه كثور هائج...فجأة كف عن الضرب، بصق عليها صارخا
كالملسوع :" سأذهب للنوم يا قحبة....و عندما أستيقظ أريد العشاء ...و لا تنسي!
أنا هنا الرجل ، أنا و فقط أنا من يطلق و حين أريد..!!"...
مكثت
بضع دقائق مستلقية على الأرض، الرطوبة المنبعثة
منها تريحها.. جلست ثم قامت..لم تبك، كما كل مرة..هي تحس بألم في صف من ضلوعها، ربما يو كسور كالمرة السابقة..إتجهت إلى
مرحاض..في قطعة المرآة المكسورة التي تشبه
خارطة فلسطين قبل 48.. هي أيضا فقدت لونها
الأصلي، لتصبح رمادية مائلة للزرقة.. وجهها ينعكس بذات الزرقة ..و هي كذلك الآن...
هو نائم
يشخر بصوت عال كالعادة .."سأحضر لك السمك
يا إبن العاهرة !"..همست و هي تنظر إليه دون أن تطرف عينها...
صرخ
و عيناه شاخصتان إليها في تساؤل ..حاول الإمساك بها ،و لكن دراعاه سقطتا ليتخذ على
السرير شكل مصلوب..تلك هي القوة التي كانت تدفعها... الخلاص ..الخلاص رددت متمتمة...
قطعة
المرآة مغروسة في كرشه،و لم يعد يظهر من فلسطين
إلا شمالها ..الدماء تنزف أكثر و أكثر من حدودها الأربع ..شلال دماء.....
وقفت..
رجعت إلى الوراء، و حملقت في الجثة التي تقارع سكرات الموت ..ثم نظرت إلى سقف القصدير
المثقب ،و كأنها خارج الحدث.. كانت نظراتها تحلق كعصفور خرج للتو من قفصه، و لا يعرف
هل يحلق أم يحط على أي شيء...
جلست
على الأرض ،بجانب السريرو إبتسامة شريدة تبحث
عن موطن بين شفتيها...لم تكن تستمع لحشرجته... ذهنها شرد بعيدا هناك.. في الشارع الأنيق
..في الفيلا الهادئة..في الطابق الأول..النافذة مفتوحة ، و منها تنبعث أغنية جاز تملؤ الفضاء سحرا... "Embrace me"...
فاطمة فاتح – مدونة مغربية – فرنسا