إن الوجود الروسي في هذه المنطقة استند بعد عام 1991 إلى الإرث السوفيتي، إذ حرصت الدبلوماسية الروسية على إبقاء البلاد طرفا مشاركا في الهيكليات الدولية القائمة
عاد
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الكرملين في خضم التطورات في منطقة الشرق الأوسط،
ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث ستكون أحد البنود الهامة على أجندته.
ويعتبر هذا الأمر جديرا بالذكر، خاصة وأن منطقة الشرق
الأوسط بدت حتى وقت قريب كأنها تختفي من شاشة رادار اهتمامات السياسة الخارجية الروسية.
إلا أن "الربيع العربي" كان له تأثير ملحوظ على نهج موسكو، حيث دفع بها إلى
المشاركة الأكثر فعالية في تطور الأحداث في الشرق الأوسط.
هنا
يجب القول إن الوجود الروسي في هذه المنطقة استند بعد عام 1991 إلى الإرث السوفيتي،
إذ حرصت الدبلوماسية الروسية على إبقاء البلاد طرفا مشاركا في الهيكليات الدولية القائمة
مثل اللجنة الرباعية للوسطاء الدوليين للتسوية العربية الإسرائيلية وإن كان دورها اسميا
فيها. كما حافظت روسيا على العلاقات مع شركائها القدامى ومن بينهم العراق وليبيا وسورية
بشكل أو بآخر، وإن أصبحت هذه الصلات أضيق نطاقا بكثير بالمقارنة من العهد السوفيتي.
وسعت
موسكو أيضا إلى إقامة علاقات متميزة مع طهران، علما بأن إيران لم تكن مقربة من الاتحاد
السوفيتي بل على العكس كانت تود استخدام التحولات في روسيا لتفعيل التعاون العسكري
التقني والذري معها المفيد لإيران، بينما قدرت موسكو عاليا - أثناء فترة "الانهيار
الكامل" - إمكانية إيجاد شريك ثمين لها يمكن الاعتماد عليه من بين أهم القوى الإقليمية
في المنطقة.
ولكن
بعد عام الألفين بدأ نهج التواصل التلقائي هذا يفقد حيويته تدريجيا. فقد أظهرت الهياكل
الدولية التي تم تأسيسها لمعالجة القضايا الإقليمية عدم جدواها، في حين اختفى أصدقاء
الاتحاد السوفيتي السابقون من عالم السياسة بدءا بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين
عام 2003 وانتهاء بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عام 2011. آخر المتبقين هو الرئيس
السوري بشار الأسد الذي يناضل في سبيل البقاء على المسرح السياسي. في حين انعكس تدهور
العلاقات بين طهران وواشنطن سلبيا على مصالح روسيا في مسار سياستها الغربي نظرا لوجود
تعاون وثيق بينها وبين إيران.
وبالنتيجة
أصبح الأمر واضحا تماما - لاسيما مع انطلاق "الربيع العربي" – أن روسيا ستضطر
إلى الخروج من الشرق الأوسط بهدوء ما لم تتحرك بشكل نشيط. إلا أن السؤال يطرح حول كيفية
التحرك المطلوب اتخاذه لتغيير سير الأمور في الاتجاه غير الملائم بالنسبة لموسكو؟ ويبدو
أن الموقفين اللذين تبنتهما روسيا إزاء المسألتين
الليبية والسورية يمثلان نهجين مختلفين تجاه حل هذه المهمة.
في المسألة
الليبية وخلافا للعادة لم تستخدم موسكو حق الفيتو ضد مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي
ينص على إمكانية استخدام القوة ضد دولة ذات سيادة. وكان قرار روسيا الذي تبناه رئيسها
دميتري ميدفيديف شخصيا، مبنيا على منطق واضح، رغم أنه أثار ردود أفعال متباينة في البلاد.
ففي رأي ميدفيديف، ينبغي على روسيا باعتبارها
دولة ذات مصالح واسعة ومحدودة جغرافيا في آن معا أن تتركز في المقام الأول على أولوياتها الأساسية في أوراسيا الممتدة من أوروبا
حتى الشرق الأقصى، بينما كل ما يتبقى يجب ألا يحتل مكان الصدارة بين اهتماماتها، لذا
لا ضرورة للمشاركة المستقلة والمكثفة فيه. وكان معنى الامتناع الروسي عن الضلوع بشكل
أعمق في القضية الليبية أن موسكو اعتبرت أن ليبيا ليست مهمة بالنسبة لها لدرجة أن تضطر
روسيا إلى الدخول في الصراع من أجلها بالضرورة. أما فيما يتعلق بمصالحها التجارية الربحية
فأملت موسكو بتحقيقها عن طريق المساهمة في مشاريع كبرى الدول الغربية والعربية في هذا
البلد.
إلا
أن نتيجة تبني هذا الموقف لم تكن إيجابية. ذلك أن قرار مجلس الأمن الدولي الآنف الذكر
أسيء استخدامه بشكل صريح حيث تم تحويله إلى التفويض بإجراء تغيير السلطة في ليبيا وتصفية
زعيمها. بينما سارعت السلطات الليبية الجديدة إلى الإعلان أن العقود التي أبرمتها الشركات
الروسية مع النظام السابق لا بد من إعادة النظر فيها لأن موسكو كانت تدعم "الطاغية".
وذلك كله بغض النظر عن أن عدم استخدام روسيا للفيتو (حق النقض) سمح للثوار الليبيين
في نهاية المطاف بتحقيق الانتصار بمشاركة واسعة من قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو).
فلو لم يصدر القرار المذكور عن مجلس الأمن، ربما لم يخاطر الحلف بالتدخل الصريح والمكشوف
في ليبيا. إذا، على وجه العموم لم تثبت مثل هذه الطريقة فعاليتها في المحافظة على تواجد
روسيا في المنطقة وحماية مصالحها الاقتصادية فيها.
أما
بالنسبة للمسألة السورية فالوضع يختلف تماما. لقد تبنت روسيا من البداية موقفا مبدئيا
مضمونه أن المجتمع الدولي لا يحق له الوقوف إلى جانب أحد طرفي النزاع في بلد نشبت فيه
حرب أهلية، الأمر الذي تم تفسيره على أن روسيا وفرت الحماية للرئيس السوري بشار الأسد
سعيا منها للحفاظ على العقود العسكرية التقنية التي أبرمها المجمع الصناعي الحربي الروسي مع دمشق. واتهمت موسكو علنا بالتوجه النفاقي
"اللاأخلاقي" لكسب الربح التجاري، وهددت بالعزل إلا أن الدبلوماسية الروسية
تمسكت بموقفها الصلب.
وكان
لهذه الصلابة سببان، أولهما أن روسيا تعتبر فعلا أن النموذج المتبع لدعم "القوى
الديمقراطية" (خاصة ومكوناتها وأهدافها غير واضحة تماما) ضد "الحكام الديكتاتوريين" غير صحيح، لأنه يقوم على الموقف المتحامل بشكل مقصود ويؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
وثانيا،
أن الشركاء "في اللعبة الكبيرة"، كما أظهرت الحالة الليبية، لا يحترمون إلا
القوة والصمود، معتبرين الحلول الوسط المقترحة بمثابة "إبداء ضعف" يجب تقبله
بكل بساطة! لذا عمدت موسكو منذ يناير الماضي وحتى مارس إلى الإثبات أن اتخاذ أي قرار
جدي وإضفاء صفة شرعية عليه دون أخذ رأيها بعين الاعتبار أمر مستحيل في تسوية الأزمة
السورية. في حين لم تبد أي جهة استعدادا للتصرف في هذا الظرف على هواها أي دون تفويض
من مجلس الأمن الدولي كما كان الوضع عليه في الحالة العراقية.
ويمكن
القول إن تغييرا طرأ على طريقة تبني المواقف من
معالجة الأزمة السورية بفضل الجهود الروسية حيث بدأ استخدام الأساليب الكلاسيكية
من دبلوماسية صنع السلام واللجوء إلى الخطوات السياسية المتزنة أكثر من ذي قبل، بعيدا
عن استعمال اللونين الأبيض والأسود فقط لدى رسم لوحة الأحداث الجارية على الساحة.
بالطبع،
يعطي النموذج الثاني مردودا أفضل بكل جلاء. كما تمكنت روسيا من التذكير بثقلها كلاعب
إقليمي هام. فعلى خلفية التغيرات الحتمية في سورية (حيث لا يشكك أحد بموسكو في أن نظام
حكم الأسد يقترب من نهايته)، فإن القفز إلى "الجانب الصحيح من التاريخ" من
خلال "تسليم" الشركاء السابقين لن يجدي نفعا، لأن أي سلطة جديدة ستجد لنفسها
شركاء جددا في الحوار. فيما تدفع صلابة موقف روسيا وثباته
باللاعبين
الآخرين في المنطقة على الأقل للتفكير بضرورة مراعاة رأي موسكو وإدراك تلك الحقيقة
أن من السابق لأوانه إسقاط العامل الروسي من المعادلة الإقليمية.
إن الرئيس
فلاديمير بوتين على قناعة تامة بأن روسيا يتوجب عليها أن تمارس لعبتها بشكل نشيط حيث
توجد لديها أدوات التأثير في الفضاء الواسع الممتد من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط
وذلك حتى تبقى البلاد دولة عظمى رائدة في منطقتها الأوراسية! علما بأن بوتين شخص براغماتي
وتقدر روسيا تحت قيادته على التوصل إلى الاتفاق على أي مسألة ولكن من خلال حوار وعقد
صفقات معقولة. والآن وبعد أن أثبتت روسيا أنها تبقى عاملا مؤثرا في المنطقة، ينبغي
على البلدان العربية أن تستشف ما الذي تريد موسكو تحقيقه هنا.
كتب
فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية"
عن
" انباء موسكو "