الجمعة 18 تشرين الأوّل / أكتوبر 2024, 05:20
التاريخ يحفظ مكانة قادة كبار خلدوا من دون التشبثب بكورسي الحكم




التاريخ يحفظ مكانة قادة كبار خلدوا من دون التشبثب بكورسي الحكم
الإربعاء 25 نيسان / أبريل 2012, 05:20
كورداونلاين
كان غاندي يجلس القرفصاء على الارض بين الناس والثائرين، في ثياب بسيطة اشتهر بها وصار مثلا للزهد مثلما اضحت بدلة بارزاني رمزا للنضال والتواضع والارتباط بالأرض لدى الكرد

في الوقت الذي يحرص فيه زعماء على كرسي الحكم، وهو في الغالب دوّار، تتحرّك قاعدتُه على محور السياسة والدهاء، في اصرار على الجلوس عليه لأطول وقت ممكن، فان آخرين قضوا حياتهم في الدفاع عن اوطانهم، ثم كرمتهم شعوبهم وافتخرت بهم، فصوتت لهم ودعتهم الى اعتلاء كرسي الحكم، لكنهم ابوا ذلك وفضلوا حياة الزهد والتقشف، من دون ترف او حاشية او قصور، ضاربين المثل في التواضع والابتعاد عن الغرور الذي طالما يصيب الزعماء المنتصرين.

والكُرْسي في اللغة الشيء الذي يُعْتَمَد عليه ويُجْلَس عليه أما كرسي الحكم فلدى الشعوب شيء مبهر والكرسيّ موضع القَدَمين، وأَما العرش فإِنه لا يُقدر قدره.
وإذا كان كرسي الحكم تعبير مجازي للإشارة الى مركز القرار ورأس السلطة، فهو أيضا كيان مادي ماثل للعيان له أربعة أرجل ويدان ومسند، ومهما اختلفت إشكاله وتنوعت الوانه وتعددت مواد صناعته لكنه يبقى المكان الأرفع والبقعة الأسمى، والكيان الأقوى في العالم، وهو الأكثر سرية وأمنا من أي مكان آخر، تحرسه الدبابات والطائرات وخطوط حماية سرية وعلنية.

وغالبا ما يختار المستشارون كرسي الملك والزعيم بعد استشارته لتأمين المقعد المثالي الذي سيجلس عليه، وهو المكان الوحيد في العالم الذي لا يجلس عليه غير صاحبه طالما ظل على قيد الحياة.

وبينما يحرص زعماء لم يسطروا كفاحا او ثورة او نضالا بين صفحات التاريخ، على الجلوس على عروش وكراسي من الذهب والفضة والخشب الثمين، مثال على ذلك تربّع (أسيديو آدو دانكوا الثالث) ملك قبائل الأكروبويج في غانا الذي لم يذكره التاريخ لملاحمه وانجازاته، الا لانه جلس على كرسي من الذهب الخالص مرتديا لباس غانا التقليدي، ويحرسه مرافق يحمل صولجانا من المعدن الاصفر.

وعلى النقيض من ذلك، يفضل زعماء تأريخيين حققوا لبلدانهم الاستقلال والحرية، الزعامة بلا بهرجة سلطة او عروش خاوية بينهم غاندي المتواضع، والملا مصطفى بارزاني صاحب الملابس الخشنة بين الجبال، ومانديلا المكافح من اجل الحرية، وهوشي منه مكافح الاستعمار، والخميني المفترش للأرض.

ولان كرسي الحكم في غانا الافريقية مقدس، تسفك دونه دماء القرابين والضحايا، فانه عند غياب الملك في الليل توضع على مقعده تعويذه تمنع جلوس الشياطين عليه، وكأن الملك في هذا لا يسمح حتى للشياطين بأخذ مكانه، لكن سلطة اخرى في افريقيا لم تعبأ للكرسي، وازاحته جانبا وهي تحكم بين الناس وهي سلطة مانديلا المتواضع الذي قارع نظام حكم الأقلية البيض في جنوب إفريقيا، حتى اعتُقل بتهمة التخطيط لعمل مسلح والخيانة العظمى فحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.

لكنه حين اصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا (1994- 2000)، لم تبدل السلطة طباعه وبقي على خصاله المتواضعة، وفضل العيش بين الناس على الجلوس في المكتب الذي نادرا ما كان يظهر خلفه، بل انه اشاع ثقافة القائد الشعبي داعيا شعبه الى نسيان احقاد الماضي. وطوال حياته كان الكرسي بحسب تصريحاته لوسائل الاعلام عبئا عليه، حتى تقاعد في 1999 مؤكدا انه نال حريته من قيد الكرسي في ذلك اليوم.
وتتماهى خطى مانديلا في عزوفه عن الترف السلطوي مع سيرة الزعيم الكردي الخالد الملا مصطفى بارزاني الذي عاش بين الجبال، زعيما مكافحا بملابسه الخشنة وسط الثوار الكرد، رافضا التصرف كزعيم مترف على الرغم من توفر اسباب الترف في كردستان، ومقابل ذلك فان خصومه في بغداد من قادة العراق الملكي والجمهوري على حد سواء منذ الملك فيصل الاول مرورا بالملك غازي، وفيصل الثاني وانتهاء بصدام حسين، كانوا منشغلين بصراع الكراسي والاستحواذ عليها، وكان الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي شن الهجمات بالأسلحة التقليدية والكيمياوية على الكرد متشبثتا بالكرسي الذي صنعه في ايامه الاخيرة مثل عرش طاووس وسط قاعة كبيرة يستقبل فيها قادة جيشه وحزبه.

لكن عرش صدام حسين آل في نهاية الامر الى القوات الاميركية في العام 2003، ونشرت وسائل الاعلام صورة تاريخية لجندي اميركي وهو يجلس على عرش ذهبي لصدام حيث كُرّم هذا الجندي من قبل حكومة بلاده فيما بعد.

ويقصد الكثير من زعماء العالم حين يزورون اقليم كردستان في العراق، ضريح مصطفى بارزاني، قائد الثورة التحررية الكردستانية، الذي قضى حياته بين النفي الى خارج الوطن، او في الداخل مقاتلا بين الوديان والجبال من دون ان يبني قصرا او يتخذ لنفسه عرشا او كرسيا كما يفعل كثيرون من اصحاب السلطة والقوة في بلاد العالم المختلفة.

وعاش الملا مصطفى(1903 – 1979) مكافحاً بين جبال تركيا وإيران والعراق وارتحل الى الاتحاد السوفيتي لسنوات طوال، حتى أُطلِق عليه لقب اسطورة الجبل الاول في القرن العشرين، حيث عانى من السجون والمنافي والمؤامرات والمعارك والجوع والحرمان وكراهية الأعداء وخذلان الأصدقاء.

ولعل صورة الملا مصطفى بارزاني تذكّر بزعيمين خالدين، افنيا حياتهما ايضا في الكفاح، حتى اذا انتصرا لم يجلسا على كرسي، او يتأبطا اذرع عرش، هما الزعيم الهندي غاندي والفيتنامي هوشي منه.

وعلى شاكلة البارزاني الخالد، لم يكن غاندي سوى مثال الزهد والبساطة في كفاحه ضد الاستعمار، وكان يردد بان " الطاغية الوحيد الذي أتقبله في هذا العالم، هو ذلك الصوت الهامس الذي يتردد بين جوانحي".

وحين امتلك غاندي قلوب الناس لم يكن هذا الرجل الضعيف البنية جنرالا أو حاكما عسكريا أو ملكا أو فاتحا..بل كان رجلا بسيطا يمشي حافيا ويخالط الناس من دون حمايات أو مواعيد مسبقة. وطوال سني كفاحه وحتى بعد انتصاره، في حصول بلاده على الاستقلال لم يجلس غاندي على كرسي، مثلما يفعل الملوك والزعماء والفاتحين المنتصرين وكان يردد دائما ان بإمكانه الانتصار على الخصم بالحب وليس بالكراهية، فالكراهية شكل مهذب للعنف وهي تجرح الحاقد ولا تمس المحقود عليه أبدا.

وعاد غاندي إلى الهند العام 1914 بعد نضاله ضد المستعمر بجنوب افريقيا ليواجه عدوا أكثر شراسة وهو الاستعمار الانجليزي الذي افقر الهند وحولها الى بلد خائر القوى لا يقوى على الوقوف بوجه محتليه. ووقف غاندي بوجه اليأس والإحباط اعزل يمشي بين الجمهور، مقاوما للاستعمار بالاستغناء عن السلع الانجليزية، والاكتفاء بما هو ضروري للحياة، وتحسين وضع طبقة المنبوذين.

ومثل بارزاني وزعماء تاريخيين كان غاندي يجلس القرفصاء على الارض بين الناس والثائرين، في ثياب بسيطة اشتهر بها وصار مثلا للزهد مثلما اضحت بدلة بارزاني رمزا للنضال والتواضع والارتباط بالأرض لدى الكرد.

وعلى غرار هؤلاء الخالدين كان هوشي منه القائد الثوري الفيتنامي الذي قاد الحرب ضد الفرنسيين حتى أخرجهم من فيتنام، وضد الأميركيين حتى هزيمتهم في فيتنام، وأصبح رئيسا للوزراء ثم رئيسا لفيتنام الشمالية، لكنه تجنب العروش والكراسي وظل بسيطا يدير البلاد من خلف مكتب متواضع، كما ظل طوال حياته مخلصا لماضيه حين كان غاسلا للصحون في شبابه في فرنسا ومن ثم عامل نظافة ثم نادلا.

ومثلما زهد بارزاني في حياة الترف مفضلا خشونة الجبال، وكما لم يدخل الانتصار الغرور الى قلبه، فان الخميني ظل زاهدا في حياته في بيت بسيط بجمران شمالي العاصمة الايرانية طهران. ويقع البيت في زقاق ضيق، صار فيما بعد ملتقى لمختلف فئات وشرائح الشعب الايراني وحتى الاجانب. ويحتوي المكان على فرش أرضية كان يجلس عليها مساعدي الإمام والمقربين منه، وكانت تستبدل في بعض الاحيان بكراس صغيرة بحسب المتطلبات والضرورات.

أمستردام 24نيسان/ابريل(آكانيوز)-
من: عدنان أبو زيد، تح: وفاء زنكنه

1859.

مواضيع جديدة في موقعنا الجديد اضغط هنا


ارشيف
ارشيف

صحافة وإعلام و آراء

كتاب الموقع
عبدالغني ع يحيى
العصر الطيني في العراق.
بنكي حاجو
الكذبة الكبرى
ب. ر. المزوري
النقطة
زاكروس عثمان
أحزاب خارج التغطية
إبراهيم اليوسف
النص الفيسبوكي 2.
عبد عبد المجيد
الفسيفساء السورية
أفين إبراهيم
رضاب الفراش
وزنة حامد
قلق الذات