السبت 21 كانون الأوّل / ديسمبر 2024, 14:45
مهند الحسني : تطور مفهوم الأمان وعلاقته بالنظم الدستورية والقانونية




مهند الحسني : تطور مفهوم الأمان وعلاقته بالنظم الدستورية والقانونية
الإربعاء 07 آذار / مارس 2012, 14:45
كورداونلاين
لا غروَ في أن الخوف كان الهاجس الأكبر للإنسان منذ وجوده على سطح البسيطة. الخوف من المخاطر، والخوف من الغير، والخوف على الغذاء، والخوف من الطبيعة، الخوف من عوادي الزمن.

لا غروَ في أن الخوف كان الهاجس الأكبر للإنسان منذ وجوده على سطح البسيطة. الخوف من المخاطر، والخوف من الغير، والخوف على الغذاء، والخوف من الطبيعة، الخوف من عوادي الزمن. في مقابل ذلك فإن الأمان والطمأنينة والسلام كانت وما تزال هي الأمل المنشود والغاية القصوى التي ينشدها الإنسان إلى أن يرث الله الأرض وما عليها

 

ولتحقيق ذلك المطلب اجتمع الإنسان مع أخيه الإنسان على بقعة جغرافية معينة ضمن كتل بشرية، وسرعان ما تحولت لمجتمعات منظمة من قبل سلطة قائمة وفقاً لقوانين وأعراف حددت أو رسمت شكل العلاقة بين المجتمع والسلطة على تلك البقعة من الأرض. وباجتماع العناصر الثلاثة السالفة الذكر عرفت البشرية مفهوم الدولة. وشيئاً فشيئاً طوَّرت المجتمعات البشرية تلك القوانين والأعراف التي تحكم العلاقة بين المجتمع والسلطة القائمة عبر مخاض طويل وعسير دفعت خلالها البشرية أثماناً غالية إلى أن توصَّلنا إلى مرحلة تمّ فيها الفصل النهائي ما بين مفهوم الوطن الثابت والسلطة المتغيرة. وبموجب هذا التطور اعتبرت السلطة جهازاً اجتماعياً إنسانياً وُجِد لحماية الأفراد وضمان حرياتهم في إطار من ضرورات العيش المشترك فقط لا غير

 

ولتحقيق هذه الغاية وتجنباً لظاهرة الطغيان التي دفعت البشرية ثمناً غالياً لها فقد أوجد فقهاء الفكر على مدى سنوات من النضال مبدأ الفصل ما بين السلطات داخل الدولة بحيث أصبحت ثلاثة "تشريعية وقضائية وتنفيذية"، وأقاموا علاقة صحية بينها بحيث تراقب كل منها الأخرى بما لا يفسح المجال أمام غلو أو تغول سلطة على أخرى وعودة واستشراء ظاهرة الطغيان التي كبدت البشرية تكلفة إنسانية عالية إلى أن تمكنت الإنسانية من حسرها وحصرها من خلال مبادئ وقيم كونية وهي ما بات يعرف لاحقاً بمنظومة حقوق الإنسان

 

لقد أصبحت الدولة نتيجة التطور التاريخي الإنساني تتمتع بشخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية الحكام (ملوكاً كانوا أم رؤساء)، وبموجب هذا التطور فأشخاص الحاكمين يتبدلون ويتغيرون تبعاً للظروف والأحوال، أما الدولة فهي باقية تعبيراً عن الأمة بأسرها. ولا يخفى على أحد أنه بمقدار ما تتجذر قيم المدنية ونهج التحضر والنضوج العام والرقي السياسي والاجتماعي والإداري والقانوني والثقافي في الدولة بمقدار ما تزداد فعالية ورسوخ هذا المبدأ من خلال التداول السلمي على السلطة وممارسة الإنسان لحقوقه الأساسية فيها

 

وفي هذه الحالة فإن السلطة -لا سيما الأمنية منها- تصبح أكثر تنظيماً وأقل تدخلاً في حياة الناس، فيتحقق الشعور بالأمان والطمأنينة والسلام الذي كثيراً ما سعى إليه الانسان بجوانبه المختلفة الحياتية منها والاجتماعية والمعاشية والبيئية والاقتصادية والصحية. تلك الطمأنية وذلك الأمان الذي يرفل فيه الإنسان ويزهو ويتمتع بحرياته الأساسية ومكاسبة الإنسانية في إطار من الخضوع لمقتضيات الواجب ومقاومة النفس لجوامح الهوى ضمن مجموعة من الضوابط والمحددات تتظافر مع بعضها لتشكل تراث فكري وقيمي وأحياناً ديني وأخلاقي للمجتمعات المتمدنة. ومع الزمن وبأثر تراكمي تتحول تلك الضوابط إلى عراقة وتراث قيمي تفتخر بها الأمم والشعوب المتحضرة. فالعراقة هي مجموعة قيم سلوكية وجمالية تنتقل من جيل إلى آخر بعملية تعليمية مدنية تعززها المعارف والخبرات وتزكيها الأخلاق الحميدة

 

وبالمقابل فحينما تستأثر فئة قليلة بالسلطة المطلقة وتتشبث بها وتنأى بنفسها عن المحاسبة والمساءلة تضطر للحفاظ على مكاسبها لتغذية قيم الولاء الفردي لدى المريدين أو الأتباع من عناصر وكوادر الأجهزة الأمنية الذين عليهم حمايتها، وبعد ذلك تمييز أنفسهم وابتزاز السلطة التي يقومون بحمايتها وتقديم فروض التقديس والطاعة المطلقة لها. وفي هذه الأجواء تستشري قيم الانعزال والتوحش والفردانية والهمجية والاستئثار والاستحواذ فيتقلص مفهوم الأمان إلى أضيق حدوده، ويصبح أحادي الجانب متمثلاً في أمن النظام الحاكم على حساب الدور الوقائي والمعاشي والحياتي والاقتصادي والصحي وحتى البيئي للأمان. وفي هذه الحالة تصبح الأجهزة الأمنية أقلَّ تنظيماً وأكثر تشعباً وهمجية ويصبح تدخلها في حياة الناس والمجتمع أكبر وأفدح وتتحول مع الزمن إلى حمل يثقل حتى كاهل النظام الذي يضطر دائماً للحفاظ على مكاسبه للمغالاة في الاعتماد عليها

 

وتتجلى المشكلة بأشنع صورها حينما تطلق الأجهزة الأمنية العنان لهواجسها ومخاوفها والتي كثيراً ما تسمم الحياة المدنية بالقلق والاضطراب والكره والريبة، وهي مشاعر سلبية يمكن لها أن تقتل الشعور بالأمان والسلام والاستقرار الذي تحلم به المجتمعات. وتأتي الطامة الكبرى من عدم وجود جهاز قضائي عادل وقادر ومستقل يمكن له أن يعيد التوازن المنشود داخل المجتمع ويضع حداً للأجهزة الأمنية يحول دون استشراء غلواء هواجسها من خلال وضع النقاط على الحروف أمامها ومن خلال ممارسة دور رقابي عليها من جهة ومطالبتها بالالتزام تحت سقف دولة القانون والمؤســسات يكون أول شروطها مبدأ الفصل بين السلطات

 

لكن المنظومة الأمنية في أنظمة الاستبداد لا تقبل أصلاً بفصل السلطات ولا بقضاء مستقل، وجوهر مهمتها تقوم على تكريس تمركز السلطات في يد الفئة الحاكمة التي نصبتها للدفاع عن مصالحها الفئوية والضيقة. في حين أن العدل في الأنظمة الديمقراطية "كمجموعة ضوابط عليا في المجتمع" يخضع لها الجميع تحت سقف القانون، وهو ما يشكل نظام كوابح في مواجهة المغالاة عند الأجهزة الأمنية ويضفي التوازن المنشود داخل المجتمع

 

وسوف يقوم مركز التواصل والإبحاث الاستراتيجية بنشر بحث في سياسات المرحلة الانتقالية في سورية حول الإصلاح الجنائي ضمن منظومة تشريعات حقوق الإنسان الدولية. يؤكد البحث على أنَّ الإصلاح الجنائي والقانوني والتشريعي لا يمكن الولوج فيه إلا من بوابة الإصلاح الدستوري الشامل وتكريس مبدأ الفصل ما بين السلطات، وتحقيق رقابة كل سلطة على الأخرى من خلال دستور عصري ديمقراطي لا يقيم حاكماً أبدياً وإنما يقيم الحكام خدماً للشعوب ويمنح المواطن حقه من الحقوق الأساسية التي كثيراً ما حرم منها في سورية

 

وكما قال نلسن منديلا: الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون حراً والجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، في حين أن الشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة

429.

مواضيع جديدة في موقعنا الجديد اضغط هنا


ارشيف
ارشيف

صحافة وإعلام و آراء

كتاب الموقع
عبدالغني ع يحيى
العصر الطيني في العراق.
بنكي حاجو
الكذبة الكبرى
ب. ر. المزوري
النقطة
زاكروس عثمان
أحزاب خارج التغطية
إبراهيم اليوسف
النص الفيسبوكي 2.
عبد عبد المجيد
الفسيفساء السورية
أفين إبراهيم
رضاب الفراش
وزنة حامد
قلق الذات