حين ظهر الرئيس السوري بشار الأسد هو وقرينته وولداه بين المتظاهرين في
ساحة الأمويين في دمشق يوم الأربعاء 11 يناير الجاري، تمنّـى الكثيرون في سوريا وخارجها
لو أن هذا الحدث كان في إطار خوْض معركة انتخابية سلمِـية، وليس لتعبِـئة الجموع في
سياق ما قد يكون حرباً أهلية.
وحين استقبل الأسد وفداً من وجهاء درعا في شهر مارس 2011، في أعقاب تعذيب
أجهزة الأمن لنحو 15 طفلاً لمجرّد أنهم سطّـروا على الجدران بعض الشعارات "الثورية"،
تمنّـى الكثيرون داخل سوريا وخارجها لو أن الرئيس السوري وفى بتعهُّـداته للوفد بمعاقبة
الجُـناة، وليس بإرسال الدبّـابات إلى درعا في اليوم التالي (كما حدث).
وحين وصل بشار الأسد إلى سدّة الرئاسة عام 2000، بنى الكثيرون في داخل
سوريا وخارجها، الآمال العريضة بأن هذا الرئيس الشاب سيحقِّـق وعوده الإصلاحية والتحديثية
وسيسمح لــ "ربيع دمشق"، الذي انطلق في عهده في ذلك الوقت، بأن يتطوّر إلى
فصل دائم من الانفتاح والتعدّدية والديمقراطية أو شِـبه السلطوية على الأقل. لكن ما
حدث طيلة السنوات الـ 11 التي تلت، كانت مزيداً من الانغلاق السياسي، فيما صبَّ
"الإنفتاح" الاقتصادي النيو- ليبرالي في صالح نُـخب صغيرة محدودة، عائلية
وعشائرية ومدينية، ولغير صالح قطاعات واسعة من الريف والطبقة الوسطى والفئات الفقيرة.
تكتيك القمع والخوف
كل هذه التطورات، ماعدا ربما بعض الإصلاحات النيوليبرالية، اعتُـبرت ترجمة
دقيقة لــ "كتاب السلطة"، الذي ألَّفه الرئيس الراحل حافظ الأسد على مدى
ثلاثة عقود، والذي ظنّ سدنة النظام بأنه يبدأ وينتهي بجملة واحدة: القمع وضبط إيقاع
المجتمع عبر الخوف.
بالطبع، تكتيك القمع والخوف كان حاضراً بقوة في نظام الأسد الأب، لكن
ما غفل عنه ورثته أن هذا التكتيك كان جزءاً من بنيان استراتيجي عام، استند إلى إقامة
توازن دقيق للغاية بين سلطة النظام في الداخل وبين توفير التغطية والدّعم الدوليين
(والإقليميين) له في الخارج، سواء أكان هذا الخارج روسيا أو أوروبا أو الولايات المتحدة.
كانت هذه هي التعويذة السحرية التي مكّـنت نظام حافظ الأسد، ليس فقط من الخروج من المآزق
الداخلية، بل أيضاً من لعِـب دور إقليمي كبير، كان هو الرافد الحقيقي لتوطيد سلطته
في الداخل.
ثمة هنا نموذجان رئيسيان لهذه التعويذة:
الأول، عدم تردّد حافظ الأسد، زعيم حزب البعث في سوريا، من القتال إلى
جانب "الإمبرياليين الأمريكيين" ضد حزب البعث في العراق عام 1990، حين شعر
(وِفق تعليمات نيكولو ماكيافيلي الذي كان الرئيس الراحل يضع كتابه "الأمير"
قرب سريره)، بأن الوقوف على الحياد في حرب الكويت سيعني الخسارة مع الخاسرين ودفع الأثمان
المجانية للرابحين.
والثاني، حين أمّن حافظ الأسد جبهته الخارجية في خضَـم حربه الدموية الضروس
مع جماعة الإخوان المسلمين (1979- 1982)، من خلال تعزيز تفاهماته الضمنية مع الأمريكيين
والإسرائيليين، التي أبرمت عام 1976 وتضمّنت ضبط واحتواء وحتى ضرب (إذا ما تطلّـب الأمر)
منظمات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، كشرط لدخول القوات السورية
إلى بلاد الأرز.
أين "كتاب السلطة"؟
لماذا يتم تذكّـر كل هذه المعطيات التاريخية الآن؟ لسبب بسيط: خلفاء حافظ
الأسد لم يلتقطوا، على ما يبدو، من "كتاب السلطة"، سوى الشق المتعلَّق بالقمع،
وأغفلوا الشق الثاني من تعويذة التوازنات الدولية والإقليمية، لا بل هنا قد يكون ثمة
ما هو أسوأ: العجز عن فهْـم المتغيِّـرات الدولية التي رافقت اندِلاع انتفاضات الربيع
العربي والتي انتقلت بموجبها الإدارة الأمريكية من الاعتماد على الأنظمة السلطوية وشِـبه
السلطوية والتوتاليتارية (بما في ذلك ممالك الخليج، كما سيثبت لاحقاً على الأرجح)،
إلى التعاطي بشروط واضحة ومحدّدة مع قوى المجتمعات
المدنية العربية.
وبما أن هذه القوى (وبسبب التصحر الذي مارسه السلطويون على اليساريين
والليبراليين في المجتمعات من دون القدرة على الإمساك بالمساجد) كانت الحركات الإسلامية،
فقد قررت واشنطن فتح الأبواب والنوافذ أمامها ومعها. الخلفاء لم يدرِكوا مبكراً هذا
الانقلاب، وهذا ما فسّر استمرارهم في التشديد على أن الربيع العربي لن يصل إلى سوريا.
ثم وبعد أن وصل إلى الإعلان أنه مجرّد سحابة صيف، ثم وبعد أن تواصل، بأنها ستنتهي قريبا.
وجنباً إلى جنب مع عدم القدرة على التقاط المتغيِّـرات الدولية، جاء عجز
مُـوازٍ عن إدراك المتغيرات المحلية والإقليمية، إذ كان يتعيّن على النظام أن يفهَـم
بعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة بأنه خسر أهَـم ركيزة من ركائز هيمنته: الخوف وقدرة
أجهزة المخابرات الـ 12، على الإمساك بالمجتمع، هذا على رغم أن هذه الحصيلة كانت واضحة
مع القرار بإنزال الجيش إلى الشوارع. فالدبّـابة تستطيع السيطرة على شارع، لكن ليس
على ما يجري داخل هذا الشارع، إذ أن هذا من اختِـصاص المخابرات.
وعلى الصعيد الإقليمي، تكرّرت القراءة المُخطِـئة نفسها: فقد ظنّ النظام
وأنصاره أن التعثُّـر الأمريكي في العراق وأفغانستان، مشفوعاً بالأزمة الاقتصادية العالمية،
سيؤدِّيان إلى حصيلة حتمية واحدة: نجاح إيران وحلفائها في ملء الفراغ وبناء شرق أوسط
جديد بملاءة خمينية.
لكن، يتبيّن الآن مدى خطإ هذا التحليل. فإيران تتأرجح الآن على شفير الهاوية
بعد أن وقعت في الفخ الذي نصبه لها الغرب، من خلال دفعها إلى سباق تسلح ونفوذ إقليمي
لا يستطيع اقتصادها العالم ثالثي، المعتمد أساساً على النفط والغاز، تحمّله.
فالعُـملة الإيرانية بدأت تتدهْـور بسرعة (الأمر الذي قد يقلب البازار
على النظام) والبطالة تجاوزت، وفق أرقام غير رسمية، الـ 30% والعقوبات الأمريكية على
المصرف المركزي الإيراني، والتي قد تليها خطوة أوروبية مماثلة، قد تؤدّي إلى انهيار
الإقتصاد الإيراني برمَّـته. لماذا؟ لأن إيران لن تستطيع أن تشتري أو تبيع، فيما المصرف
المركزي الذي يدير 90% من هذه العمليات، مكبّـل وغير قادِر على العمل.
وإلى إيران، فقدَ النظام السوري حليفه السعودي الثمين، الذي شكَّل له
على مدى العقود الأربعة الماضية الملاءة "الإسلامية" والمالية والسياسية،
التي مكّنته جزئِـياً من ممارسة أدواره المحلية والإقليمية.
إلى أين؟
الآن، وبعد نحو عشرة أشهر من الانتفاضة، تحتشِـد كل هذه المعطيات كغيوم
سوداء لتضع خلفاء حافظ الأسد في مأزق غيْـر مسبوق: فهُـم غير قادرين على التأقْـلم
سريعاً مع المتغيِّـرات الداخلية (الثورات الطبقية ضدهم) والخارجية، وبالتالي، ليس
في وُسْـعهم سوى مواصلة التقدّم إلى أمام.
لكن، إلى أين؟ خطاب الرئيس الأسد في جامعة دمشق يوم 10 يناير 2012، والذي
واصل فيه الحديث عن مؤامرة خارجية" وعن "القبضة الحديدية" في الداخل
(وعود الإصلاح لم تعُـد تُقنع أحدا)، عنى أمريْـن إثنين متلازمين:
الأول، إسدال الستار على أي فرصة لإبرام تسوية ما مع المعارضة الداخلية
المتمثّلة بهيئة التنسيق الوطني والمعارضين المستقلين، حيث كانت الشائعات ترشّـِح هيثم
المنّـاع لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تقوم بتمهيد الطريق أمام مرحلة انتقالية.
والثاني، وضع أقطاب النخبة الحاكمة في كل من السلكين، العسكري والإقتصادي،
أمام لحظة الحقيقة: إذ ما لم يتحرّك هؤلاء الآن للقيام بـ "انقلاب قصر".
فالبلاد ستهوى بخطى متسارعة نحو حرب أهلية شاملة.
وهذه المرة، لن يكون ثمة حلّ عربي أو جامعة عربية لمنع هذا الإنزلاق.
فهذا الحل يلفظ الآن على الأرجح أنفاسه الأخيرة، وبديله سيكون تدويلاً قد يرتدي إحدى
ثلاثة أشكال: إما تحرّكٌ عربي - غربي في مجلس الأمن (ناقشه الخميس 12 يناير وزيرا خارجية
السعودية وقطر مع الرئيس الأمريكي أوباما)، يضع روسيا والصين في وضع حرج للغاية؛ أو
تحرّك عربي - غربي آخر لخنق النظام السوري كما يُخنق الآن النظام الإيراني؛ أو تدخّل
إقليمي ودولي غيْـر معلن، عسكرياً وأمنياً، لدعم المعارضة السورية.
من بدائل إلى مضائق
أيٌّ من هذه البدائل سيقذف سفينة النظام السوري إلى مضائق لا سابق لها
منذ أربعة عقود؟ هذا ما يدفع الكثيرين هذه الأيام إلى التساؤل عمّا كان يمكن أن يفعله
حافظ الأسد لتجنّب هذه المضائق أو حتى لعدم الوصول إليها في المقام الأول.
إذا كان أحد من داخل النظام يطرح مثل هذا السؤال الآن، وبالتالي، يعيد
قراءة "كتابة السلطة" الذي اخترعه حافظ الأسد مع تعويذاته، فربما يكون في
المستطاع إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
بيد أن الوقت لم يعُـد يعمل لصالح أحد في سوريا. فإما أن تشهد البلاد
خلال شهر أو شهرين تطورات تغيّر مسار السفينة السورية بعيداً عن المضائق الكارثية،
وإما "فرقعة" كبرى.
بالطبع، الحرب الخارجية أو الإقليمية قد تكون خياراً مُـغرياً، لكن نتائجها
ليست مضمونة البتّـة للنظام السوري، خاصة إذا ما أدّت إلى تعريض الفِـرق العسكرية التي
يعتمد عليها الآن لقمع الإنتفاضة إلى الضرب.
ماذا يعني كل ذلك؟ أمرٌ واحد: حين يبدأ الخطأ من النظرية، لا يمكن أن
ينجح التطبيق أو هذا على الأقل ما أثبتته تجارب الشهور التسعة الماضية.
سعد محيو - بيروت- swissinfo.ch