المفارقة
الأهم في الحالة السورية حاليا تتمثل في المسافة الكيفية الشاسعة بين
الشعب السوري من ناحية , ومعارضتة السياسية والحزبية , من ناحية مقابلة .
إذ بينما ظهر السوريون كمجتمع وشعب ومواطنين وشارع ثائر في أروع وأقوى
وأعظم صورة , ظهرت المعارضة بكل فئاتها وألوانها في أضعف وأسوأ صورة لها .
السوريون الثائرون في الداخل موحدون ناضجون ثابتون , بينما المعارضة مشتتة , منقسمة , قاصرة الرؤية , ضعيفة .
الشعب
يعطي بسخاء لا نظير له ويضحي ومستعد للبذل والفداء يوميا , بينما المعارضة
تقتتل على مناصب وهمية , ومكاسب تافهة , وكراسي لم تزل بعيدة عن
متناول أيديها , وأعطت الانطباع بأنها طحالب تريد التسلق على جذع الثورة
الداخلية .
المحتحون
والمتظاهرون يتنافسون ويتسابقون على من يكون في الصفوف الاولى من
المواحهة , وساحات الصراع مع النظام وقواته الإجرامية وشبيحته , يبذل دمه
وروحه وراحته وماله , بينما المعارضة تتنافس على من يبرز أكثر في الفضائيات
وأمام عدسات التصوير ووسائل الإعلام , ومن يكون في الصفوف الأولى ومنصات
الرئاسة ,في المؤتمرات الفخمة ومأدب الطعام الفاخرة وفنادق الخمسة
نجوم , بين استانبول والقاهرة وتونس والدوحة وباريس وبرلين وستوكهولم ..
إلخ .
وهكذا
يمكننا المضي في سرد الكثير من مظاهر التناقض والتعارض بين مشهدين
رأيناهما نحن جميعا بالعين المجردة على مدى عشرة شهور , أحدهما
باهر ورائع وجليل , والأخر مخجل ومروع ومقلق .
الأسباب كثيرة , منها ما هو موضوعي , وما هو ذاتي وشخصي .
ومنها ما هو حزبي , وما هو وطني وقومي .
ومنها ما هو أديولوجي ومشروع , وما هو مصلحي ضيق وفئوي ومكيافللي .
لكن
ما يعنينا قوله هنا في هذا الحيز المحدود هو أن المعارضة بمجملها فشلت
فشلا ذريعا في الارتقاء إلى مستوى شعبها الموحد , ومستوى بذله وعطائه
وتضحيته وإنكار ه للذات , ومستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية الملقاة
عليها , ومستوى الثورة المعجزة التي فجرها الشعب , و أعني بالتحديد
المواطنين المستقلين , بلا أي تخطيط مسبق , ولا تنظيم , ولا قيادة .
منذ
الشهر الاول , أو الشهور الثلاثة الأولى , كان مطلب الكتلة الشعبية
الثائرة في الوطن من المعارضة يتركز في التوحد والتكتل والاتفاق لتشكل غطاء
سياسيا للثورة , ومرجعية وطنية للشعب السوري , وبديلا عن مرجعية النظام
المتهاوي , لا سيما في المحافل الدولية . أي أن مطلب الوحدة كان قرارا
شعبيا من قوى الثورة في الداخل , ولكن المعارضة رفضت الالتزام به , ولا
أقول فشلت في تحقيقه , لأنه كان يمكنها تحقيقه لو توفرت الإرادة السياسية
والروح الاستقلالية عندها , بيد أن الأطراف الرئيسية من المعارضة أصرت أن
تبقى وحيدة , لكي لا تتنازل عن قرارها المنفرد , لغايات في نفس يعقوب ,
وحسابات أنانية تتعلق بمصالحها الحزبية والفئوية .. أو بسبب أجندات دولية
للمسألة السورية ارتبطت بها من خلال تحالفات اقليمية ودولية بعضها مقبول ,
وبعض منها مشبوه ومريب , وكان كل ذلك على حساب مصلحة الثورة .
كان
يجب - وما زال واجبا جدا ويزداد وجوبا كل يوم - أن تتحد المعارضة في إطار
تنظيمي واحد , أولا . وتتفق على استراتيجية عمل وطني وثوري واحدة , ثانيا
. وأن تلتزم بمواقف ومطالب الشارع السوري , وخاصة إسقاط النظام , وتوفير
كل مقومات واحتياجات دعم الثورة واستمرارها وحمايتها , ثالثا .
إن
الاجتماع على هذه المحاور الثلاثة , والالتزام بها , شرط موضوعي وأخلاقي
ووطني , لقيام معارضة وطنية شريفة فاعلة . ومعيار للارتباط بالثورة الشعبية
والوفاء لها . وهذا الالتزام بالحد الادنى المطروح هنا , ليس خيارا , بل
هو حتمي , وإجباري , وشرطي , ولا بد أن تتمحور التحركات السياسية لتحقيقه
ودفع كل الاطراف للاقتراب منه والوصول إليه .
أهم
المعوقات التي عوقت حتى الان تحقيق هذا الحد الأدنى من الاجتماع الوطني ,
يتمثل في أن معظم القوى السياسية الحزبية , وأكاد أقول جميعها بلا استثناء
, تنطلق من نظرة فوقية تستبطنها تجاه الحراك الشعبي , تعتبره مجرد عرض
عارض للشارع , وأنها هي الأصل والبقاء لها بعد الله , وهي التي تمتلك
وتحتكر وحدها الشرعية التاريخية والنضالية , وأنها هي التي تقرر مصير البلد
ومستقبله ومألاته بعد التخلص من النظام الحالي , وبعد عودة المتظاهرين
والمحتجين إلى بيوتهم , ليواصلوا أعمالهم ويدعوا الشؤون السياسية لأهل
السياسة , أي هم دون سواهم , ويحلوا مكان النظام الزائل , وكأن الثورة
التي خاضها الشعب السوري وتحمل المواطنون المستقلون أعباءها كافة ليست سوى
عاصفة عابرة في ليلة ماطرة ما تلبث أن تهدأ في الصباح ويعود كل شيء إلى
ما كان عليه . وكثير من رجالات هذه الاحزاب يسنون أسنانهم ويتدربون من الأن
على مراسم التشريفات والبروتوكول الرسمي ليكونوا جاهزين للقفز على المناصب
الكبيرة التي ستشغر بسقوط العصابة الحالية .
هذه
النظرة الاستعلائية التي ربما كانت هي الجين الذي يحوي نواة الديكتاتورية
, لم تتأثر للأسف بالثورة الشعبية , التي قلت واكرر القول أنها هي صاحبة
الفضل الحقيقي على الاحزاب , وليس العكس , لأن هذه كانت قد استنفذت طاقتها
وصلاحيتها التاريخية ووصلت غلى حائط مسدود قبل الثورة التي جاءت إنقاذا
لها من الموت السريري , وحالة التحنيط التي بلغتها بعجزها عن طرح
خيارات تشق طريقا في الأفق المسدود للبلد قبل الثورة , وقلت وأكرر أن القوى
السياسية التقليدية كافة من الاخوان المسلمين إلى الشيوعيين مرورا
بالقوميين والناصريين مدينة للثورة الشعبية وللشباب الذين فجروا الثورة
ومازالوا يقودونها ويغذونها بالوقود البشري والدموي العالي الكلفة . وعلى
هذه الاحزاب أن تكون الأن وغدا وفية للثورة وأصحابها الشرعيين , وأن تضع
إمكاناتها في خدمة الثورة , لا العكس , وأن تجري عملية مراجعة لمعتقداتها
السياسية والاديولوجية , وعلاقاتها تجاه بعضها بعضا إذ ليس مقبولا أن يستمر
البعض حتى الان باستعمال ترسانة اديولوجية ستالينية وماركسية تقليدية , أو
سلفية ودينية جامدة , أو قومية شوفينية على طريقة البعث نفسه وكأن شيئا لم
يحدث لا في سوريا ولا في العالم العربي والمنطقة , ولا في العالم , وعلى
القادة الكبار [ سنا لا مقاما ] في احزابنا العتيدة أن يتخلوا عن سيطرتهم
واستئثارهم الشديد بالسلطات في أحزابهم ويفتحوا المجال أمام طواقم قيادة
جديدة من الشباب وأصحاب الفكر الحداثي . ومن باب أولى أن يفتحوا الطرق أمام
قادة جدد لسوريا وللنظام الجديد .
من
أهم المعوقات أيضا التحالفات الخارجية والاقليمية التي اقامها بعض الاطراف
الحزبية للاستقواء بها على المنافسين الوطنيين , أو لتنفيذ أجندات
اقليمية أو دولية أو اديولوجية معينة , وكل هذه الارتباطات لا تخدم مصالح
سوريا وثورتها , ولا بد أن تكون الاستقلالية شرطا ومعيارا وخصيصة ثابتة
وعميقة , وقيمة وطنية وأدبية مقدسة . إن رزمة كبيرة من المعوقات تكمن في
ولاءات وعلاقات تحالفية مع الدول الاقليمية والكبرى , لأن هذه الاطراف
الدولية ذات مصالح متباينة لا تخدم في معظم الأحيان مصالح سوريا الوطنية ,
ويعيدنا أو يعيد سوريا إلى لعبة الامم القديمة وحلبة التنافس الدولي التي
تعرضت لها سوريا في الخمسينات , ولعبت فيها الأحزاب الديمقراطية والزعامات
التقليدية أنذاك أدوارا سلبية وسيئة , كانت من بين أهم العوامل التاريخية
التي أسقطت وأفشلت التجربة الديمقراطية في تلك الحقبة , ومهدت بوعي أو بدون
وعي ولا قصد لقفز العسكر على السلطة , وأدت لوأد الديمقراطية والحياة
الحزبية في سوريا .
لا
نقبل العودة إلى عرض سوريا للبيع في أسواق النخاسة والسياسة الدولية
والاقليمية , بل نريد ونتمسك بمبدأ المحافظة على استقلالية سوريا ودورها
الرائد في محيطها , وتعزيز الاتجاه الديمقراطي الصاعد في المنطقة كلها .
************************************
أتحدث اليوم
عن احوال المعارضة السورية التي لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا بروح
وطنية فيها حرص على الجميع , وبروح بحثية علمية لا تتحزب لأي طرف , وتقف
بين الجميع بحيادية إيجابية , وتعمدت ألا أتطرق للإيضاح المحرج , بل تعمدت
أن أتغفف عن ذكر السقطات والفضائح والكبائر في تصرفات وأخطاء القوى
السياسية التي سببت الحالة العاجزة حاليا للمغارضة السورية , وألحقت خسائر
للثورة ولشعبنا في البلد , ولكنني أؤكد إني سأعود إلى الموضوع دائما
وتكرارا كلما لزم الامر , لتسمية الأشياء والأطراف بأسمائها وأوصافها
ومواقفها بالتفاصيل المملة , إحقاقا للحق , وإبطالا للباطل , بحسب
اجتهادنا المتواضع طبعا , والتزاما بأن مصلحة الثورة فوق كل مصلحة
, وسوريا هي الأولى مقارنة بأي طرف أو أحد أو حزب .
ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد .
الخميس 5 - 1 - 2012
محمد خليفة