إ. هاواري : الليبرالية وفصل الدين عن الدولة
حتى لايتخذوه سيفاً لضرب أعناق الناس ظلما، فلابد من فصل الدين عن الدولة ليس في مقدور أحدٍ المزاودة على حقيقة أن الشعب الكوردي على طول كوردستان وعرضها، أعطى الإسلام والمسلمين مالم يعطيهما أي شعب مسلم آخر على وجه الأرض قاطبة.
ليس في مقدور أحدٍ المزاودة على
حقيقة أن الشعب الكوردي على طول كوردستان وعرضها، أعطى الإسلام والمسلمين مالم يعطيهما
أي شعب مسلم آخر على وجه الأرض قاطبة، عبر مايقرب من أربعة عشر قرناً، بدليل واضح للغاية
هو أن الجميع أكلوا به واستفادوا منه، بينما هو تم أُكله واستغلاله باسمه، بمعنىً آخر-
الجميع اعتبروه شراعاً للوصول، بينما هو رضي أن يكون مطيَّةً به لغيره .
لم يتلق شعب مسلم ضربات قاتلة
كما تلقاها الشعب الكوردي بسبب انتمائه العقائدي هذا، ومن المفارقات العجيبة أن الضربات
الموجعة والأليمة التي تلقاها إنما أتته غالباً ممن يزعمون الإلتقاء معه على نفس القاعدة،
والتاريخ خير شاهد على ذلك، بدءاً من العباسيين ومروراً بالعثمانيين والصفويين، وانتهاء
بالأردوغانية - ورثة الدولة العثمانية - وإنما في ثوب مزركش جميل- وكذلك من الصفويين
الجدد الممثلة بالخمينية والخامنائية، وأيضاً من الإسلام السياسي العروبي، وفي مقدمتهم
حركة إخوان المسلمين السوريين، الذين لايجدون حرجاً كلما وجدوا فرصة سانحة أن يفسحوا
عما يضمرون للكورد، وعما يحملون من نوايا غير نزيهة تجاه قضيتهم العادلة، وإطلاقهم
أحكاماً خاطئة حيالها تتنافى مع روح العصر وحقوق الإنسان، وما أدل على ذلك من تأييدهم
اللامبرر لسياسات العثمانية الجديدة التي تقف حائلاً بكل عنجهية وصلافة أمام طموحات
هذا الشعب المنكوب في كل أجزاء كوردستان.
إن مقاربة إخوان المسلمين الخجولة
والملغومة مؤخراًمن حقوق الكورد في كوردستان سوريا - التي تعتبر عنبر خيرات البلاد
-ماهي إلا بمثابة ذر الرماد في العيون، ومناورة سياسية للإلتفاف على الحقوق، كما هو
ديدنهم في السيطرة على قرارالمجلس الوطني السوري، واتخاذ مواقف تقلل من الشأن الكوردي
ومعالم مستقبلهم السياسي في البلاد، والنظر إليهم كجزء ملحق بالقومية السائدة، وتابع
لها، وتلتقي معهم وتشاركهم على هذه الأرضية قوى قومية باسم ديمقرطية الأكثرية.
لماذا هذا التواطؤ بين الألوان
المختلفة حول حقوق الكورد ؟!. فهو شأنهم وهي مصالحهم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة
على الكورد، هو لماذا هم مستعدون ؟!. لتلقي اللدغة من نفس الجحر لأكثر من مرة، أو للوقوع
في نفس الشرك مرتين.
ألا يعني هذا أننا لانتعظ مما
جرى لنا، فنعيد الكرة بكل سذاجة من قبيل لعل وعسى في هذه المرة!..
أرجو من القارئ الكريم أن لا يحمل كلامي مالايحتمله وأن يأخذه على غير
محمله. فما أقصده هو فضح نوايا المتاجرين باسم
الدين، والذين يحرِّفون الكلم عن بعض مواضعه، فيتلاعبون بألفاظه، ويؤولونه على حسب
أهوائهم، ليستعبدوا ويغتصبوا وينهبوا بصك مزور مفدوح مفصَّل على مقاساتهم.
على أية حال كان لابد من هذه
المقدمة وصولاً إلى ماهو أهم والذي يتلخص في أن الإنسان يعتبر المكون الأقدس في هذه
البسيطة، وهو معني بتشييد حضارتها وعمارتها من بين كل المكونات الحيَّة الأخرى، باعتباره هو المميِّز الأوحد، وماسواه يدخل في خدمته وتحت
تصرفه، وكل التشريعات على مختلف مصادرها وتسمياتها، من مهامها الأساسية خدمة هذه المسلمة، ليتمكن الإنسان
من أداء وظيفته المنوطة به، ألا وهي عمارة الأرض والعمل على ازدهارها، أما إذا ماخرجت
عنها، وعاكستها فهي بالتأكيد ستكون بالضد من الغائية الملازمة لوجود هذا المكوِّن الناطق،
وبالتالي فإحداث أي خلل في المعادلة يعرِّض الحضارة المشيدة للسقوط والإنهيار، والحياة
برمتها تصبح في خطر.
إن كان الشعب السوري يجابه الآلة
العسكرية الأسدية الغاشمة بصدور أبنائه العارية، فإنما يبحث عن حريته المسلوبة، وكرامته
المهدورة، ويدعو إلى الإعتراف بقدسية الإنسان وخصوصياته واحترام آدميته، وإفساح المجال
أمامه ليقول كلمته المخنوقة بحرية تامة، ويقرر مصيره بنفسه دون وصاية عليه من أحد، باعتباره كامل الأهلية يعي مايقول ومايريد،
والحكمة ليست حكراً على أحد فهي معين مشاع لكل من يصادفه من حقه أن يغرف منه، والحضارات
البشرية تتكامل ولاينبغي لها أن تتصارع، والإنسان يبحث عن أفضل وسائلها وآلياتها وصولاً
إلى أرقى صورها على الإطلاق، فما الضير إذاً في أخذ الحكمة من منابعها الأصلية مادام
تكرار التجربة تؤكد على مصداقيتها وصحتها، وقدرتها على العطاء الإيجابي .
وإذا أردنا إسقاط أفضل الخيارات
المتاحة بين ايدينا لتلك الفلسفات على الواقع السوري المتنوع فلابديل - من وجهة - نظرنا
عن الليبرالية حلاً لقضايانا المتأزمة العالقة، وخاصة بشقيها السياسي والإقتصادي، درءأً
لكل احتمالٍ أو طارئٍ لاتحمد عقباه، وحتى لا تعيدنا نوائب الدهر ثانية إلى المربع الأول،
بعد إراقة هذه الدماء الطاهرة والتي لاتزال تراق على صخرة الحرية والكرامة كل يوم بل
كل ساعة، وأي تساهل في هذا الجانب دون أخذ الحيطة والحذر من القادم المجهول المعلوم
فنكون معه كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن كانت الليبرالية تنادي بالحرية الفردية إلى أقصى مايرمي إليه طموح الإنسان كفرد، فلايعني
ذلك قطعاً أنها طليقة لاحدود لها - في الحقيقة أنها مرت بمراحل متعددة نادت في بداياتها
منذ القرن السادس عشر بحرية الفرد المطلقة كرد على انتهاكات حريات الإنسان الخطيرة
إلى درجة استعباده وحرمانه من كامل حقوقه الآدمية - بل حينما تصطدم في الممارسة العملية
بحدود الآخرين ، وتصبح أداة للإساءة إلى حقوقهم أفراداً كانوا أم جماعات، فلاخلاف على
ضرورة لجمها وردعها لأنها تجاوزت حدودها الغائية، التي وجدت أساساً من أجلها، لذا طالبت
الليبرالية الحديثة بتدخل الدولة لمنع الإحتكار والإستغلال، وفق حماية القطاع الخاص
والسوق الحرة والمنافسة الشريفة، وحماية الموارد الطبيعية، وتنظيم المدن والإهتمام
بالريف، ضمن إطار متوازن لحماية حقوق الفرد والجماعة والدولة معاً.
إن المجتمع السوري مجتمع موزايكي بأعراقه وأديانه ومذاهبه لايقبل الأفكار
الشمولية المقصية مهما كان مصدرها، فكلٌ من الإسلام السياسي والفكر القومي الإستعلائي
وديمقراطية الأكثرية هي مفاهيم مرشحة لتُستخدم
كأداة استبداد في إقصاء الآخر المختلف، لأن الإنسان مجبول بطبعه على طلب المزيد ما
أن يرى نفسه قد استغنى، فاستجماع السلطات والإمكانيات المادية والمعنوية جميعها في
يدٍ واحدة، سيفضي حتماً إلى خلق الأجواء المناسبة لظهور الديكتاتوريات، إن لم توضع
لها معايير محددة في الممارسة العملية، ومن هنا تأتي أهمية الديمقراطية التوافقية واللامركزية
السياسية التي تتلاءم نصاً وروحاً مع الليبرالية التي تحمي خصوصيات الأشخاص والجماعات
على حدٍ سواء، بما ويتناسب طرداً مع مصالح الآخرين، كي لايطغى عنصر على عنصر، أو فكرٌ
على فكر، أو قومٌ على قوم، وهي بالطبع تتناسب
مع التعددية التي يتكون منها النسيج السوري.
وأعتقد أن رأس النظام السوري وبعد مرور مايقرب من عشرة أشهر على عمر الثورة
بدأ يستعيد أنفاسه، وبدى هذا واضحاً في نبرة خطابه التصعيدية، الذي ألقاه في العاشر
من الشهر الجاري، على خلاف خطبه السابقة في عهد الثورة السورية، ونعزي ذلك حسب رأينا
إلى تراجع الخطاب الدولي وتخفيف حدته، وخاصة بعد أن قدمت لجنة المراقبة العائدة إلى
الجامعة العربية تقريرها غير المشجع، والتي ساوت فيه بين الضحية والجلاد في أكثر من
موطن، وكأني به أن تاريخ ثمانينات القرن الفائت يعيد نفسه، فالأخطاء نفسها تتكرر، ولكن
الذي يدفع الثمن أولاً وأخيراً هو الشعب السوري وحده.
أكاد أجزم أن إصرار إخوان المسلمين، وبمؤازرة مادية ومعنوية وديبلوماسية
من بعض دول المنطقة على تصبيغ الثورة باللون الإخواني أعطى صورة مشوشة غير حقيقية للعالم
مفادها - أن الشعب السوري في غالبيته العظمى يميل إلى تقبل فكر الإخوان، وأنه البديل
المطروح عن النظام ولاأحد سواه، وهي رسالة سلبية وخاطئة ثبَّطت من عزائم العديد من
رجالات الديبلوماسية الغربية، وفي مقدمتها ديبلوماسيوا أمريكا وإنكلترا وفرنسا، ناهيك
عن الداخل السوري والجوار أيضاً، ودفعتهم إلى إعادة النظر في حساباتهم والتردد في مواقفهم
المعلنة إلى جانب الثورة، وبخاصة عندما تحول الربيع العربي أمام أعينهم بين عشية وضحاها
في كل من تونس ومصر وليبيا - إلى ربيع الإسلام السياسي.
فإن كان الموقع الجيوسياسي لتلك البلدان لاتنذر بالخطورة إلى هذا الحد
من وقوعها في أحضان الفكر المشار إليه، إلا أن موقع سوريا الإستراتيجي في المعادلة
السياسية في منطقة الشرق الأوسط لايسمح بأي شكل من الأشكال للقوى العالمية التزام الصمت،
وغض الطرف عما يجري هناك دون الأخذ بعين الإعتبار والتأكد من الآثار السلبية التي ستنجم
عن هذه التحولات، وقبل التأكد من المكتسبات التي سيجنونها من انتصار ثورتها، والمؤشرات
القوية - على الأقل - ظاهرياً تؤكد أن البديل المطروح هو هذا الإسلام السياسي الساعي
بشكل أو بآخر إلى إعادة الخلافة التي اكتوت بنارها كل شعوب المنطقة والعالم المجاور،
وفي مقدمتهم الشعب الكوردي الذي لايزال طريح الفراش من آثارها السلبية.
إن الطريقة التي خرج بها المجلس
الوطني إلى الظهور والذي بدت عليه بصمات الإخوان
واضحة منذ البداية، والطريقة التي تقدم من خلالها العلمانيون والديمقراطيون المشاركون
فيه - أوراق اعتمادهم إلى من يسيِّرون المجلس من وراء الستار - من أمثال غليون وآخرين
من المستقلين، وأيضاً من رموز الثورة أولئك الذين أخطأوا التقدير، وسلَّموا زمام أمورهم
في جمعة "المجلس الوطني يمثلني" قبل أن يلموا تماماً بقواعد اللعبة، لحداثة عهدهم، وقلة خبرتهم وظهورهم المفاجئ على
حلبة الصراع السياسي.
كل ذلك أكسى المجلس ثوباً إسلاموياً سياسياً، استطاع النظام المجرم في
سوريا الإستفادة منه، بتحذير العالم من البعبع القادم، وأعتقد أن الإخوان أنفسهم لعبوا
دوراً سلبياً في هذا المجال من حيث يدرون أو لايدرون عندما سعوا بكل قواهم إلى تلوين
الثورة بهذا اللون غير المهضوم عالمياً، الأمر الذي أدى إلى الحد من العطف والتأييد
اللذين حظيت الثورة السورية بهما في بداياتها.
وأمام هذه المخاوف المشروعة وتحسباً لعودة التسلط مجدداً من شُبَّاك الثورة،
بعد أن يتم طرده من باب النظام المتهاوي، سعى الإتحاد الليبرالي الكوردستاني – سوريا
إلى سد الثغرة الناجمة عما ورد ذكره آنفاً، من خلال البنود التالية في برنامجه السياسي:
1- الانطلاق من الدائرة
الانسانية كما تطرحها مسيرة الحداثة الراهنة، والتي تسمح باعتماد مصلحة الإنسان عموماً
كأولوية لكل حراك سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي، وهي لا تلغي الدوائر الأخرى
التي سبقتها، لكنها تحدد توجهاتها في الإطار الإنساني
2- القطع مع الثنائية في
الفكر والسياسة، ورفض فكرة الشر المطلق المواجه للخير المطلق وبالعكس، فالاعتراف بالآخر
واحترامه والقبول بالحوار معه جوهر مفهوم الديمقراطية
3- التخلي عن ثوابت الايدولوجية كعقيدة فكرية إيمانية والانطلاق في فهم
وتحليل الظواهر من الوقائع على الأرض، والقطع مع النرجسية الوطنية والطبقية والدينية
السياسية، بعد فشل المشاريع السياسية التي بنيت على أيديولوجيات قومية أو إسلامية أو
اشتراكية لطرحها مفاهيم تتجاوز حريات الإنسان الأساسية.
إنني في الوقت الذي أثني فيه على الأقلام التي أدلت بدلائها لبلورة هذه
الفلسفة بما ويتلاءم وينسجم مع مستقبل وطننا السوري عموماً والكوردستاني منه خصوصاً،
وأخص منهم بالذكر الكاتب النبيل طه خليل فإنني أدعو الآخرين من كتابنا الكورد الأفاضل
إلى أن يحذو حذوه ويُسخِّروا أقلامهم الجريئة مشكورين بعض الوقت لوضع القارئ الكريم
أمام حقيقة هذا الفكر الذي شق طريقه حديثاً
إلى الساحة السياسية الكوردية، وبخاصة إن شعبنا الكوردي بثقافته الفطرية يتحلى بقابلية
عالية لتبنيه وهو الذي يقبل الآخر المختلف عنه عرقاً كان أم ديناً ام مذهباً، الأمر
الذي يؤهله لتسنم الدور الريادي سورياً في ترجمة هذا الفكر إلى الحيز العملي واقعاً
على الأرض، خدمة للنسيج الوطني المتنوع، وفي المقدمة يأتي المكون الكوردي الذي تقاذفته
الإيديولجيات السياسية المختلفة حتى تاريخ اليوم، وتلاعبت بقضيته الأهواء لكنه لايزال
حياً- من حسن الحظ - يكافح ويناضل بكل جدارة واقتدارلنيل حقوقه المشروعة كاملة دون
انتقاص، وليساهم عملياً في بناء الحضارة الإنسانية
المنشودة جنباً إلى جنب مع مختلف النسيج الوطني السوري بلا استثناء.
11 / 1 / 2012